لا يقوى الدارس على متابعة دقيقة لما يجري في عالم البحوث الخاصة بالذكاء الاصطناعي، لكثرتها، وللسرية التي تخص تطبيقاتها التي هي قيد الإعداد والبرمجة والإنتاج.
ولعل فيما أقدم عليه مارك زوكربيرغ مؤخراً خير إعلان عمَّا يجري بهذا الخصوص. فقد أعلن الرئيس التنفيذي تبديل اسم شركته، مالكة فيسبوك، لتصبح شركة ميتا، بسبب مشروعها العملاق الخاص بأبحاث الذكاء الاصطناعي. وهي أبحاث تعمل على إيجاد عوالم افتراضية للتواصل والتحادث مستخدمة الأوامر الصوتية والترجمة الفورية بين اللغات. هذا المشروع (وغيره) يطرح من جديد، بقوة غير مسبوقة، العلاقات المعقَّدة والخصبة بين اللغة الرقمية واللغة (اللغات) البشرية. ذلك أن تنمية لغة الذكاء الاصطناعي مرتبطة حكماً بتنمية اللغة المفكِّرَة والمبرمجة لها؛ وقوى الإنسان (المتعينة في لغته وفي ممكناتها) تبقى المتحكمة بقدرات الذكاء الاصطناعي، مهما نمت وتطوَّرت.
الذكاء الحسابي في اللغة
ما يستوقفني، في هذا المجال، يعود بي إلى لحظة سابقة، ماضية، من تاريخ العربية، وما بينها وبين حساب الذكاء الإنساني. وهي لحظة أطلقها الخليل بن أحمد الفراهيدي، في عمله على بناء معجم، من جهة، وفي عمله الموازي على بناء علم “المعمَّى”، من جهة ثانية.
فمن يَعُد إلى معجمه الشهير (الذي هو أول معجم من نوعه في تاريخ اللغات المعروف)، “كتاب العين”، يتحقق من أن طريقته في إحصاء المفردات غير مسبوقة: قامت على نظرية “التقليب”، وعنتْ إيجاد طريقة لتجريب احتمالات الحروف في ألفاظ، وما انتهى إلى فرز مفردات العربية بين “مستعمل” و”مهمل”. هكذا جمعَ اللغة، “فلا يَخرج منها شيء”، حسب عبارته، بدقة علم الحاسِب، لا بمعرفة اللغوي وحدها: هذا “التقليب” يستند إلى قياس حسابي بين الخفي والظاهر في تراكيب الألفاظ واحتمالاتها.
ومن يدقِّق في “العلوم” التي أوجد الفراهيدي أسسَ انتظامها، يتنبَّه إلى أنه وضع كتباً تأسيسية في الموسيقى، والعروض، و”المعمّى”. وهي علوم ذات أبنية متشابهة في كون العقل أوجد معادلات رياضية، حسابية، لها (ما بلغ، بعد وقت، علم الخوارزميات). هذا ما ظهر في العروض بين دوائره وبحوره وتفاعيله. وهو ما تجلّى بقوة أكبر في علم “المعمّى”، الذي عنى بلورة قواعد التوصل إلى الأرقام المخبوءة في عملية حسابية متعدِّدة ومركَّبة.
عمليات التقليب اللغوي
هذا “التقليب” غير مسبوق في العربية، وهو يوازي عمليات “تقليب” أخرى أجراها الخليل (على ما هو معروف في سيرته) في: الموسيقى، والعروض، والحساب، وغيرها. هكذا عمل في استخراج: الأوزان، والتفعيلات (وجوازاتها)، ودوائر الأوزان، بعد أن “ذاق” قصائد وقصائد في الشِّعر الجاهلي. وهو ما قامَ به في استخراج الأرقام المخفية في عمليات حسابية مركبة، حسبما قيل عن غرض كتابه: “المعمى” (الذي لم يصل إلينا، بل أخبار عنه). وهو ما قيل أيضاً في درسه الأوزان الموسيقية وتوصله إلى وضع كتابه: “كتاب النغم”، الذي بلغ الموصلي الشهير، من دون أن يصل نسخة منه.
ما قام به الخليل استند إلى تفقّد اللغة (أو الشِّعر، أو الموسيقى، أو الحساب وغيرها)، والبحث عن “عللها”، أي ما تقوم به ويوجبها في أبنيتها. هذا ما تطلب استخراج البُنى التكوينية؛ وهو ما توصَّل إليه مع أبنية العربية وصيغها التصريفية. وهو ما مكَّنَه، بالتالي، من أن يلاحظ أشكال ورود الحروف مع بعضها بعضاً، أو امتناع ورودها. يكتب الخليل في مقدِّمة “كتاب العين”: “فإن وردت عليك كلمة رباعية أو خماسية معرّاة من حروف الذلق أو الشفوية، ولا يكون في تلك الكلمة من هذه الحروف حرفٌ واحد أو اثنان أو فوق ذلك، فاعلمْ أن تلك الكلمة محدثة مبتدعة، ليست من كلام العرب”. ويذكر أمثلة من ذلك: “الكشعثج”، و”الخضعثج”، و”الكشعطج” وغيرها، “فهذه مولدات لا تجوز في كلام العرب”.
هكذا لم ينقطع الخليل عن الجمع، بل بنى عليه، ونظر فيه، و”ذاق” حروفه وألفاظه، كما قال هو بنفسه عما فعلَه. لكن ما جمعَه أخضعه للنظر، وللتحقق مما يؤلفه ويبنيه. هكذا استخرج الأبنية والصيغ، فانتبه إلى ما يتكرَّر في حروفها، وإلى ما يمتنع في وروده بين حروفها.. وأقام الربط، في عمليات الاستخراج هذه، بل أضاف إليه علم الحساب نفسه. يكتب الخليل في المقدِّمة: “والكلمة الخماسية تتصرَّف على مئة وعشرين وجهاً، وذلك أن حروفها، وهي خمسة أحرف تُضرب في وجوه الرباعي، وهي أربعة وعشرون حرفاً، فتصير مئة وعشرين وجهاً يُستعمَل أقلُّه ويُلغى أكثرُه”.
مقادير البناء المتكرِّر
لهذا لم يعد الخليل يكتفي “بما ورد”، فيدونُه وينقلُه إلى غيره، بل أعملَ النظر في ما يتكرَّر من حروف في تتابعاتها، وفي ما يندر حدوثه في أبنية الحروف والكلمات. هكذا يمكن ملاحظة كيف أن الحروف التالية في العربية تتكرَّر للغاية : ا – ل – ن – م – ي، فيما يندر تكرار الحروف التالية: ظ – آ – ؤ..؛ وهو ما يسمى في علوم اليوم: (frequency analysis)، أي تحليل التكرار.
إن مجموع ما خَلُص إليه الفراهيدي، يتعدَّى الجمع، أياً كان، ليتناول العربية في “نظاميتها”، إذا جاز القول. ولقد توصَّل إليه إذ تكشف له – خاصة عبر الاشتقاق وغيره – مقادير من البناء المتكرِّر والنظامي في أكثر من وجه في كيان العربية.
ما يؤسَف له، هو أن عدداً من كتب الخليل لم تصل إلينا، وإنما وصلت عناوينها وأفكارها المؤسسة. غير أن الدارس يتحقَّق من أن ما رسمَه الخليل، بل ما “اشتَقَّه”، بلغَ غيرَه، ولا سيما في علم “المعمَّى”، ابتداءً مما كتبه الكندي في هذا العلم: “رسالة في استخراج المعمَّى”. ولعل في ما كتبه الدكتور الصديق محمد مراياتي، ما يعرض هذا العلم اللافت، وتأكدَه في المباحث والكتب العربية القديمة: “علم التعمية واستخراج المعمَّى عند العرب” (1987م)؛ وهو يشتمل على عناوين واسعة ومتفرعة في هذا العلم. هذا ما انتقلَ، في الدراسات العربية المتأخرة، إلى الحديث عن “علم الشفرة”، أو “التشفير”، و”أمن المعلومات”.
وهذا ما يربط تماماً بين توصلات هذا العلم القديم، وتوصلات الذكاء في بناء الحاسوب وبرامجه وتطبيقاته الرقمية. ذلك أن هذا العلم، بتوصلاته الحديثة، بات الركن في المعرفة الرقمية، وأمنِ الاتصالات والحواسيب والإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي. هذا ما يرسم علاقات تفاعلية نشطة وخصبة بين الأرقام والحروف، وبين الإخفاء والإظهار، ما يجعل العقل الإنساني يتحكم بتقدُّم المعرفة فيما يخفي أبنيتها الناظمة. ومن يعد – فقط – إلى بناء الحاسوب، سيتحقَّق من أنه انبنى على قاعدة بسيطة متألفة من: صفرين.
اترك تعليقاً