مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر – ديسمبر | 2021

الدبلوماسية.. تاريخ وتطوّر


نايف الفضلي
مدير إدارة المنتديات والمؤتمرات الدولية بوزارة الخارجية السعودية

من المتفق عليه لدى الباحثين السياسيين أن معاهدة “ويستفاليا” للسلام في عام 1648م، هي التي مهَّدت لظهور النظام الدولي الحديث، القائم على فكرة دولة المواطنة التي نعيشها اليوم، والتي أسَّست بدورها لمفهوم الدبلوماسية الحديثة.
لكن ممارسة الدبلوماسية نفسها قديمة بقدم اختراع الإنسان للكيانات السياسية، نتحدَّث هنا عن آلاف مضت من السنين، فاليوم لا يختلف كثيراً عما كان عليه الحال قبل ثمانية آلاف سنة، لطالما كانت هناك دول تسعى لتحقيق أكبر قدر من مصالحها، وإن كان ذلك بطريقة عدائية، وهناك دول أخرى تكتفي بحماية حدودها وأمنها والتركيز على تنمية مجتمعها واقتصادها، وأخرى ضعيفة ينخرها الفساد، وتشلُّ أركانها الفاقة وفقر الموارد، حتى أضحت أو أوشكت أن تكون لقمة سائغة للأقوياء دون مقاومة تُذكر. وفي السياسة الخارجية للدول في ذلك الحين، كما هو اليوم، فإن صانع القرار يمتلك خيارات قليلة: إما الحرب، أو مدّ يد الصداقة والتعاون والتبادل التجاري. وفي كلتا الحالين فإن الدبلوماسية تذهب وتجيء: لتمنع الأول أو تدفع بالثاني.

أول استخدام للدبلوماسية
لا نعلم على وجه الدقة متى كان أول استخدام لمفهوم الدبلوماسية، فالماضي السحيق أقدم من قدراتنا على قراءته لانعدام توثيق كثير من تاريخنا البشري، وإن كنا نتقدَّم قليلاً بهذا الاتجاه، إلا أن أقدم الشواهد على الدبلوماسية هو ما يُعرف بمعاهدة قادش، التي عُقدت بين الحيثيين الذين استوطنوا فيما يُعرف اليوم بتركيا وسوريا ولبنان، وبين الفراعنة في مصر، حيث تضمَّنت بنوداً قانونية وعسكرية ودبلوماسية، نظَّمت العلاقات بينهما وأرخت لسلام استمر أكثر من مئة عام. تلك المعاهدة لم يكن لها أن تتم لولا أن ضربت حوافر خيل المبعوثين مئات الأميال ذهاباً ومجيئاً حتى استقرت في شكلها النهائي. وإلى عهد قريب استمرت الدبلوماسية في صورتها التقليدية هذه: رجل يسافر ليتكلم بلسان قومه أو مليكه أمام سلطة أخرى في بلد آخر في مناسبات متفرقة ومعدودة، إلى أن قرَّرت مدينة البندقية في القرن الرابع عشر الميلادي مواجهة نفوذ دوق مدينة ميلان جيان غاليازو فيسكونتي، بأن انتدبت زكرياس بيمبو، وهو الرجل المفوَّه والخطيب إلى روما كممثل دائم لها من أجل تقوية موقف البندقية في مواجهة خصومها، فغيَّرت بذلك اللعبة الدبلوماسية إلى الأبد، وتسابقت بعدها الدول الإيطالية في انتداب مبعوثيها الدائمين لحماية مصالحها، فكانوا في باريس ولندن وإسطنبول، وأينما وصلت سُفن التجار وصل ممثلو الملوك. ولم تكتفِ البندقية بذلك لتُحرز قصب السبق بإقرار نوع من التقارير تُسمى ريلازيوني وهي تقارير يكتبها المبعوثون في نهاية مهمتهم، وتقدِّم دليلاً كاملاً للدولة التي كانوا معتمدين لديها، وعرضاً لطبيعة علاقتها مع البندقية، بحيث يستفيد منها صنَّاع القرار، إضافة إلى المبعوثين المعينين الجدد، وهي بالضبط صُلب عمل البعثات الدبلوماسية في دول العالم. وأتت الكنيسة في الفاتيكان بتطوير آخر، حيث أصبح مبعوثوها الدائمون بمرتبة أعلى من غيرهم بصفتهم نواباً عن البابا! كما هو معروف اليوم بأن السفير يمثِّل رئيس الدولة، فكان هذا محل امتياز ما يسمَّى بأسبقية ممثلي الكرسي البابوي التي نصَّت عليها معاهدة فيينا للعلاقات الدبلوماسية في عام 1961م في المناسبات الرسمية والدبلوماسية على السفراء والمبعوثين الدائمين الآخرين حتى اليوم.
وحتى القرن العشرين كانت الدبلوماسية في صورتها الكلاسيكية حكراً على وظيفتي التمثيل والاتصال بين مختلف الدول، ولكن بعد الحرب العالمية الأولى حدث تغيُّر نوعي في كيفية إدارة الدبلوماسية ومكان إدارتها والعاملين فيها، إذ تجاوزت الدبلوماسية إطار الشؤون السياسية الذي كانت حبيسة فيه على مدى قرون عديدة، واتَّسع نطاقها ليشمل الاقتصاد والتجارة والثقافة والسياحة والقضايا الفنية على اختلاف أنواعها، وتتفاوت هذه الشؤون الجديدة التي صارت الدبلوماسية تتناولها من حيث التأثير والوزن والحضور حسب وضع كل دولة. 

نمط دبلوماسي أكثر قوة
وإن أردنا أن نعرف كيف تضخمت الدبلوماسية في القرن العشرين، فعلينا أن نتخيَّل عالماً خالياً من قائمة طويلة من الجهات الفاعلة التي بزغت خلال القرن الماضي، مثل هيئة الأمم المتحدة بمؤسساتها المختلفة ومؤتمراتها التي لا تنتهي، والمؤسسات متعدِّدة الأطراف، ومنظمات المجتمع المدني، والمنتديات الخاصة. لقد أضافت الدبلوماسية الجديدة إلى العالم أكثر مما أضافت الدبلوماسية الكلاسيكية الحبيسة في اللقاءات بين سفراء الدول، أو مؤتمرات القمم متعدِّدة الأطراف بين الحين والآخر، وبهذا انتقلت الدبلوماسية إلى نمط أكثر قوة وسطوة في عصرنا الحالي الذي يصطلح على تسميته “عصر العولمة”.
وعلى الرغم من تقدُّم الدبلوماسية المعاصرة وكثرة تجلياتها المستجدة، ظلت الدبلوماسية محتفظة بقدر من التكامل بين الجهات الدبلوماسية التقليدية والجهات الدبلوماسية الحديثة، فالجهات الدبلوماسية التقليدية واصلت جهودها من أجل الاستجابة للتغيرات الهائلة في النظام الدولي المعاصر والاقتصاد العالمي والتكنولوجيا، وحاولت قدر ما تستطيع بأن تلتحق بالركب وتعيد التشكل وفقاً للظروف الحادثة، وكانت النتيجة هي أن الوظائف الدبلوماسية المحورية كالتمثيل والاتصال قد أصبحت مختلفة، وبالتالي نقلتها إلى بُعد آخر أكثر أهمية وإلحاحاً، إذ ستستمر الدبلوماسية في أداء أدوار شديدة الأهمية، ولن يتقلَّص دورها أو تتضاءل أهميتها كما كان يظن بعض المحلِّلين، بل إن الحاجة إليها ستكون أشد مما كانت عليه في السابق، فنحن نعيش في مجتمع دولي جديد شديد التشابك والتعقيد والاعتماد على المصالح المتبادلة، ولا يقتصر الأمر على ظهور اهتمامات مثل ترويج الصناعات وتشجيع الاستثمار وغيرها، بل نجد قضايا جديدة قفزت إلى الصدارة في سُلَّم أولويات العمل الدبلوماسي، مثل قضايا حقوق الإنسان والأقليات والتطرف والإرهاب وحماية البيئة والترويج للثقافة والصناعة والفنون، وهذا ما فرض على الدبلوماسية بأن تعيد صياغة نفسها إذا كانت تريد القيام بدورها الحيوي المأمول، فالتحديات الجديدة لن تواجه بالأساليب القديمة، والدبلوماسية إذ تتطور؛ فإنها تتجنب مصير الشخصية الخيالية دون كشيوت، الذي عاش وهم زمن الفروسية والقتال على ظهور الخيل والطعن بالرماح، ذلك الوهم الذي قاده للصراع مع الطواحين الهوائية التي تخيَّلها أعداؤه اللدودون، وقرَّر مجابهتها بالأسلحة التقليدية، وسرعان ما أطاحت به أجنحتها الضخمة أرضاً.  


مقالات ذات صلة

حينما وصل إلى علمي توقف مجلة “القافلة”، استشعرت أن لبنة ثقافية انهارت. فهذه المجلة أحد الأسس التي دلتني أو دفعتني إلى غواية الكتابة، كما فعلت بالكثيرين.

ثَمَّة في تاريخ الأوطان والدول والمجتمعات، محطات لا يمكن تجاوزها أو المرور عليها دون التوقف عندها والاستلهام من أمجادها والامتنان لرجالاتها الذين صنعوها. إن استحضار واستذكار أحداث تاريخية لها قيمتها وطنياً، هو من الأمور المطلوبة والمحفِّزة لمزيد من الاعتزاز والفخر والانتماء لدولة تأصل تاريخها لقرون، دولة امتدت جذورها وبُنيت قواعدها على أساس راسخ من الإيمان […]

بات تطوير سوق العمل وتغيير معادلاته أمراً حتميّاً يتعيّن دعمه من كافة صانعي القرار، وقد كشف تقرير دولي للوظائف عن أن هناك ثماني مهن تُدرِّب عليها كليات ومعاهد تقنية دون الجامعية في السعودية، دخلت في ترتيب الوظائف الأعلى دخلاً.. فما مستقبل التخصصات التقنية والمهنية في المملكة؟ وهل هناك تلبية لحاجة السوق المحلية إليها؟ وماذا عن […]


2 تعليقات على “الدبلوماسية.. تاريخ وتطور”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *