السياحة الثقافية..
زيارة المتاحف والمراكز العلميّة
لكل مدينة فرادتها وسحرها الذي يلفت إليها الأنظار، ويخلب في حُبّها الألباب، ويجعلها لوحة خالدة في الذاكرة وعصيَّة على النسيان، وقد أوردت مجلة القافلة في عددها الثالث مايو / يونيو 2021م مقالاً حول روائح المدن وأصدائها العاطفية، وكما أنّ الروائح الزكيّة تُعدُّ عاملاً مستقطِباً للزوَّار، فالعوامل العلمية والتراثية تُعدُّ قيمة إضافية جاذبة لروَّاد المعرفة في مختلف مدن العالم.
ويقصد السيّاح والزوَّار سنوياً مختلف المتاحف والمراكز العلمية من خلال السفر إليها وزيارتها في شتَّى دول العالم، رغبة منهم في التعرف على الحضارات المختلفة والسلوك البشري المتنوِّع والغني، ودراسة نمو الإنسان معرفياً في بيئاته المختلفة، وفي هذه المشاركة سوف أركِّز على متحفين، أحدهما عالمي والآخر محلِّي، وأحد المراكز العلمية السعودية التي أصبحت اليوم من أهم المراكز على مستوى الشرق الأوسط، وكذلك المتحف السعودي الذي أرى ضرورة زيارته سواء من خلال سيَّاح الداخل أم الخارج.
متحف اللوفر
يصف السائح ليزا ويل أوز انبهاره بمتحف اللوفر، بعبارة تعني “من لم يزر متحف اللوفر، فهو لم يذهب مطلقاً إلى باريس”، هذه العبارة تلخِّص الأهمية الحضارية والمعرفية لهذا المعلَم الفرنسي الذي زاره حسب الرابطة الأمريكية للمتاحف ما يقارب تسعة ملايين و600 ألف سائح في عام 2019م فقط، وهو رقم قياسي مقارنة بالأعوام السابقة، حيث يقع المتحف على الجانب الأيمن من نهر السين، وكان في بداياته حصناً شيَّده الملك فيليب أوغوست عام 1190م حماية للمدينة من أي اعتداءات محتملة، ثم قام الملك شارل الخامس بتغيير وجه الاستفادة من المبنى في القرن الرابع عشر، ليصبح قصراً لملوك فرنسا لحوالي 700 عام. في عام 1793م قام لويس السادس عشر بتحويل القصر إلى متحف يضم بين جنباته مجموعات كبيرة من القطع الفنية والأثرية التي جمعها الجيش الفرنسي من الدول التي استولى عليها في الحروب الثورية والنابليونية لكنها سرعان ما أعيدت إلى مواطنها في عام 1815م بعد هزيمة نابليون، عدا بعض القطع مثل الآثار المصرية. وفي عهد نابليون الثالث تم الانتهاء من مجمع اللوفر متعدِّد المباني عام 1857م.
تشير التقارير إلى أن القطع الفنية التي يحتضنها هذا المعلَم الفريد من نوعه تغطي خمسة آلاف سنة من تاريخ الحضارات الشرقية والإغريقية والرومانية والمصرية. وفي أواخر القرن العشرين خضع المتحف لعملية إعادة تصميم كبيرة شملت بناء هرم مميَّز من الصلب والزجاج في وسط فناء نابليون على يد المهندس الصيني الأمريكي I.M. Pei. يحوي المتحف حالياً كثيراً من القطع الفنية التي يُقدَّر عددها بـ 460 ألف قطعة.
المتحف الوطني السعودي
يُعدُّ المتحف الوطني السعودي في العاصمة الرياض، معلَماً وطنياً ومقصداً بارزاً يرتاده ضيوف وزوَّار المملكة العربية السعودية، ليقفوا على شهادته الصادقة والأمينة على الحقب التاريخية التي مرَّت بها شبه الجزيرة العربية، من خلال قاعاته وأقسامه المتعدِّدة: الإنسان والكون، وقاعات أخرى، مثل: الإسلام، الجزيرة، الدولة السعودية الأولى، والدولة السعودية الثانية، مروراً بشواهد توضيحية للدور الفاعل والمتقدِّم الذي تقوم به الدولة السعودية الحديثة في خدمة ضيوف الرحمن، وذلك من خلال قاعة الحج والحرمين الشريفين. ووفقاً للأرقام الصادرة عن الهيئة العامة للإحصاء، فإن عدد زوَّار المتاحف التاريخية والآثار والتراث في المملكة عام 2017م، بلغ حوالي 568 ألفاً و760 زائراً.
شغف الإنسان ليس له حدود، ولا يؤطره الزمان ولا المكان، ولكن يبقى السفر إلى المتاحف والمراكز العلمية أحد النوافذ الكبرى التي تروي ظمأ الإنسان المعرفي وتُشبع شغفه نسبياً من خلال الاطلاع على مكتسبات ومنجزات الحضارات الأخرى.
مركز إثراء
مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) هو أحد المعالم السياحية والأيقونات المعرفية محلياً وعالمياً، وعلى الرغم من افتتاحه حديثاً في عام 2016م بمدينة الظهران السعودية، إلا أنه سرعان ما توهّج بريقه كمفخرة حضارية ونموذج معماري قلّ نظيره، إذ تم تصميمه من قبل شركة سنوهيتا النرويجية، ونال جائزة “التميُّز” من المعهد الأمريكي للخرسانة (ACI) في عام 2019م، ويُعدُّ المركز حاضنة لروَّاد القراءة، والإبداع، والابتكار، والخيال العلمي وصناعة المستقبل.
وتشير مجلة Wallpaper إلى أنّ مركز إثراء يُعدُّ ركناً محورياً في برامج الحوار الحضاري والعلاقات الثقافية، وجسراً يربط بين روعة الماضي وجمال الحاضر، والوجه العالمي لمستقبل مدينة الظهران.
ولذلك لا تخطئ بوصلة سيَّاح المملكة العربية السعودية بوضع مركز إثراء ضمن وجهاتهم وأولويّاتهم السياحية وبرامجهم المعرفية.
يحيى ناصر الجاسم
الكتابة الإبداعية: مهارة
مكتسبة أم موهبة فطرية؟
ثَمَّة رأي منتشر في أوساط الكتَّاب مفاده أن للكتابة الإبداعية لحظة خاصة بها، لحظة قد تأتي في حياة المرء وقد لا تأتي، وأنَّ من الأفضل انتظار تلك اللحظة والإحجام عن محاولات الكتابة المستدرة للنص، إذ إن هذه النصوص المولودة قيصرياً لن تكون بجودة تلك النصوص المتدفِّقة بلا جهد، بل ستكون مجرد إضافة رديئة لكل هذا الكم الهائل الذي تئن منه رفوف المكتبات.
لعل تلك القصيدة النثرية لتشارلز بوكوفسكي التي ترجمها محمد الضبع، هي أفضل ما يمثل هذا الرأي بجلاء.
يقول:
“إذا لم تخرج منفجرةً منك / برغم كل شيء / فلا تفعلها.
إذا لم تخرج منك دون سؤال/ من قلبك ومن عقلك ومن فمك ومن أحشائك / فلا تفعلها / إذا كان عليك أن تجلس لساعات / محدِّقاً في شاشة الكمبيوتر أو منحنياً فوق الآلة الكاتبة باحثاً عن الكلمات، فلا تفعلها.
إذا كنت تفعلها للمال أو الشهرة / فلا تفعلها.
إذا كان عليك الجلوس هناك وإعادة كتابتها مرَّة بعد أخرى / فلا تفعلها.
إذا كان ثقيلاً عليك مجرد التفكير في فعلها / فلا تفعلها.
إذا كنت تحاول الكتابة مثل شخص آخر/ فانسَ الأمر.
إذا كان عليك انتظارها / لتخرج مدويّةً منك / فانتظرها بصبر/ إذا لم تخرج منك أبداً / فافعل شيئاً آخر.
عندما يكون الوقت مناسباً / إذا كنت مختاراً / ستحدث الكتابة من تلقاء نفسها / وستستمر بالحدوث مرَّة بعد أخرى / حتى تموت / أو تموت هي داخلك”.
ثم يختم بوكوفسكي قصيدته بجملة تقريرية بالغة التشاؤم “لا توجد طريقة أخرى، ولم توجد قط”.
حسناً، لعل من حُسن حظنا أن العالم رحيب بما فيه الكفاية لدرجة تجعلنا نستهجن ذاك الرأي السابق، بل أن نقدِّم قراءة أخرى مختلفة.
يسخر روجر سايمون كبير المحرِّرين في النيويورك تايمز من تلك الآراء الشبيهة برأي بوكوفسكي فيقول: “لماذا ينبغي أن أصاب بحبسة الكاتب؟ لم يسبق أن أصيب أبي بحبسة قائد الشاحنة”!
أتى هذا الاقتباس التهكمي في مقدِّمة ذاك الكتاب المدهش بنسخته العربية “أدوات الكتابة.. 49 استراتيجية ضرورية لكل كاتب” لروي بيتركلارك، الصادر عن الدار العربية للعلوم بالاشتراك مع منصة تكوين للكتابة الإبداعية. ينطلق المؤلف من فرضية بسيطة وهي “الكتابة حِرفة يمكنك تعلمها”، ثم يبرهن على صحة دعواه بتقديمه تسعاً وأربعين أداة تمكِّن الفرد من الكتابة الإبداعية.
ينتمي بيتركلارك للمدرسة التربوية المتفائلة بقدرات الإنسان، المؤمنة بالإرادة البشرية والعزم والإصرار، وهي مدرسة تقف على النقيض من المدرسة الحتمية، وهذه الأخيرة تعوّل على الموهبة الفطرية والنبوغ الفردي، وحتمية الجينات. لذلك تقول أدبيات الحتميين إن القائد يولد، ولا يصنع، وإن الشاعر يولد ولا يصنع، وإن التاجر يولد ولا يصنع وهلمَّ جرَّاً.
أما المدرسة التربوية الحديثة المنتمي لها بيتركلارك فتسخِّف آراء الحتميين وتعلي من شأن الجهد المضني، والدربة المستمرة، والتقويم الحثيث. وللأمانة فهي لا تبخّس الموهبة الوراثية تماماً، بل تبخس فكرة الاستحالة، وتحاول وضعها في خانة الممكن.
ما نراه من بعيد موهبة خرافية خارقة، وشعرية فذة يستحيل اكتسابها ليس في حقيقة الأمر إلا امتداداً للرؤية الخرافية التي فسَّر بها أسلافنا العرب الأوائل الإبداع. فهم قد رأوا الشعر برمته ظاهرة فوق بشرية. جعلوه حديث الجن وكلامها، وجعلوا لكل شاعر قريناً يملي عليه قصائده، فهبيد، قرين لبيد بن الأبرص. ومسحلاً قرين الأعشى، زعموا. ولافظ بن لاحظ شيطان امرئ القيس، وغيرهم كثير. بينما لو نقترب قليلاً من هذه النصوص ونباشرها بأدوات علمية رصينة فإننا سنجد أن بالإمكان محاكاتها، وفهم أساليبها.
ابدأ جُملك بأفعال، واستعمل صيغة المبني للمعلوم. قاعدتان بسيطتان رشيقتان تنزعان السحر عن الجن والقرين.
اتّبع الشنفرى هاتين القاعدتين في لاميته فقال: “أقيموا بني أمي صدور مطيكم / فإني إلى قوم سواكم لأميل”.
أما الملك الضليل فكان أكثر حظاً، فقد اتبعهما فعلّقت قصيدته على أستار الكعبة “قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل/ بسقط اللوى بين الدخول فحومل”.
عبدالإله القحطاني
فريق التحرير
اترك تعليقاً