مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر – ديسمبر | 2021

مسجد مالي الكبير و”لا كريبيساج”


عندما وصلت قافلة إمبراطور مالي مانسا موسى المهيبة إلى القاهرة، في القرن الرابع عشر، بهرته بعمرانها المزدهر، فقرَّر أن يجلب معه في طريق عودته إلى مالي علماء ومهندسين وحِرفيين ليعمِّروا مدن مالي كما عمَّروا مدينة القاهرة. وهكذا كان، ومن بين المباني التي شيَّدوها أكبر مسجد في إفريقيا في بلدة جينيه في الصحراء الحارقة جنوب مالي، الذي تم الانتهاء من العمل به في 1327م.

ما ميَّز مسجد جينيه الكبير، كما أُطلق عليه، تصميمه الرائع، حيث كان يضم ثلاث مآذن مميزة، وكان مطلياً بالطين بطريقة فنية تشبه النحت، وكانت تبرز خارج جدرانه مئات القوائم الخشبية من النخيل، أما أبوابه ونوافذه الخشبية فكانت تُحفاً حقيقية مزيَّنة بزخارف الأرابيسك الملونة، والأشكال المعدنية الجميلة. 

وما ميّزه أيضاً هو أنه لم يكن مسجداً للصلاة فقط، بل كان يُعدُّ الكلية الرئيسة من بين ثلاث كليات شكّلت معاً جامعة تُمبكوتو، إلى جانب مسجدي سانكوري وسيدي يحيى. وكانت تلك الجامعة تضم 25 ألف طالب، و180 فصلاً دراسياً، ومجموعة كبيرة من الأساتذة من الفقهاء والأدباء والأطباء والقضاة والمترجمين والإداريين والمهندسين واللغويين والفلكيين والرياضيين.. وغيرهم، الذين كانوا يحصلون على رواتب سخية من الإمبراطور مانسا موسى. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مكتبة الجامعة كانت واحدة من أضخم المكتبات في العالم، وتُعدُّ أكبر مكتبة في إفريقيا، إذ كانت تحتوي على حوالي مليون كتاب.

ولكن بالإضافة إلى كل هذه الميزات العظيمة، كان لذلك المسجد ميزة أخرى فريدة من نوعها في العالَم، وهي كونه يتحوَّل مرَّة في كل عام إلى مُلتقى لسكان جينيه جميعاً، بهدف تشاركهم فيما يَعرفه سكان مالي بـ “لا كريبيساج”، وهي الكلمة الفرنسية التي تعني إعادة كساء مبنى المسجد بالطين. فلطالما كان المسجد مهدَّداً بخطر التصدُّع والانهيار بسبب زحف الرمال وموسم الأمطار، لا سيما أنه كان مبنياً من الطين على طراز العمارة السودانية السواحيلية، وبما أن منظمة اليونسكو أدرجته على قائمتها للتراث العالمي في 1988م، فقد خصَّصت له الأمم المتحدة ميزانية سنوية لترميمه.

لكن مسجد جينيه لم يكن طوال سبعة قرون ينتظر المنظمات الدولية ليعاد ترميمه، لأن سكان البلدة اعتادوا منذ قرون على الاجتماع مرَّة كل عام، والعمل على ترميمه تطوّعاً، مبتغين بذلك الأجر من الله. وكان اجتماعهم هذا المعروف بـ “لا كريبيساج” ليس مجرد مناسبة لصيانة وحماية جدران المسجد من التشقق والانهيار، بل كان بمثابة مهرجان من الفرح والمشاركة المجتمعية التي تبعث البهجة والألفة في أرجاء البلدة كلها. 

ففي الليلة التي تسبق الكريبيساج كان أهالي جينيه يشاركون في مجموعات من الرقص والغناء، ويستمتعون بالمأكولات الشعبية فيما يُعرف بليلة السهر، التي تمتد حتى الساعة الرابعة فجراً حين تطلق الصافرة التي تعلن ابتداء أعمال الترميم، وعندها تصل مجموعات من السكان مقسَّمة إلى فرق لكل حي تتنافس فيما بينها، وكان الأولاد بينهم يركضون ويحملون على رؤوسهم السلال الممتلئة بالطين، فيما تعلو أصوات الطبول والتشجيعات من قائدهم لرفع روحهم المعنوية، ومن ثم تصل الفتيات ومعهن دلاء من الماء من النهر ليخلط بها الطين.

وتحت إشراف ما يقارب 80 بنَّاءً محترفاً كان الشباب يتسلَّقون واجهة المسجد ويعملون على كساء الجدران بطبقات سميكة من الطين وصيانة الأنابيب والسلالم المصنوعة من النخيل، وكان العمل ينقسم إلى أجزاء، تتولى كلَّ جزء من الجامع فرقةٌ من الفرق المتنافسة، حيث تتسلَّم الفرقة التي تنهي العمل أولاً جائزة مالية سخية تعادل نحو 68.5 جنيه إسترليني، وهو مبلغ كبير في بلدة يبلغ دخل الفرد فيها أقل من جنيه إسترليني واحد في اليوم. 

وهكذا يستمر العمل حوالي خمس ساعات إلى حين تشرق شمس الصباح لتضيء المسجد الذي اكتست جدرانه بالطين الجديد، وعندها يشعر السكان بالاعتزاز بما حققوه من إنقاذ لجزء من تاريخهم الغني الذي يمتد قروناً، ويحملون في أنفسهم مشاعر البهجة والألفة تجاه غيرهم من سكان بلدتهم، وهم يتأملون بفخر مسجد بلدتهم الكبير الذي يستحق بلا شك تسمية “جامع”، لأنه يجمعهم، ليس للصلاة فقط، وإنما لأنه يجمعهم أيضاً مرَّة في كل عام في أجمل تعبير للتعايش الجميل فيما بينهم.  


مقالات ذات صلة

على الرغم من وجود العديد من التساؤلات حول مستقبل الكتب المادية، فقد أطلقت الفنانة الإسكتلندية المفاهيمية “كاتي باترسون” في عام 2014م فكرة إنشاء “مكتبة المستقبل” كمشروع فني تطلعي يجمع بين كونه كبسولة زمنية أدبية ومشروعًا بيئيًا. كرّست “باترسون” جلّ اهتمامها بما ستتركه البشرية للأجيال القادمة؛ لذلك ابتكرت فكرة إنشاء هذه المكتبة في مدينة أوسلو النرويجية. […]

استطاعت الدول الناطقة باللغة الألمانية (ألمانيا، والنمسا، وسويسرا) أن تخلق نموذجاً في النهضة والتفوّق بالاعتماد على الأيدي العاملة المؤهلة مهنياً، وقد حقَّق هذا النموذج نجاحاً باهراً على مستوى العالم، فيما تسعى دول كثيرة داخل أوروبا وخارجها للاستفادة منه، ففي هذا البلد المزدهر اقتصادياً، يُعدُّ التدريب المهنيّ سرّاً من أسرار نجاحه، بل وربما ريادته عالمياً، فبفضله […]

من المؤكد أن للعلوم والتكنولوجيا تأثيراً عميقاً على المجتمع، لكن العكس صحيحٌ أيضاً، بحيث يشكِّل المجتمع، بصورة كبيرة، الطرق التي تتطوَّر بها العلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك، تُظهر التجربة أنه لا يمكن دائماً للعلماء، من ناحية، وعامة الناس والحكومات والشركات، من ناحية أخرى، فهم بعضهم بعضاً بوضوح، لهذا السبب كان لا بدَّ من وجود خبراء ذوي […]


0 تعليقات على “مسجد مالي الكبير”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *