رسم فِلْم هوليوود الذي أُنتج عام 2009م، ووُصف بعبارة “بلوكباستر أفاتار” blockbuster Avata، صورة عالَم غريب، يتوهّج فيه المحيط الحيوي بالنور من نفسه. فالكوكب الخيالي “بندورا” يعجّ بما لا يُحصى من فصائل الحيوانات والنباتات التي تأخذ في التوهُّج الساحر عند هبوط الليل. يمكن لهذا التوهُّج البيولوجي، كما يسمَّى، ألَّا يبقى مقتصراً على مؤلَّفات الخيال العلمي، بل أن يتحقَّق في العالم الواقعي أيضاً. فثَمَّة عدد من أنواع البكتيريا والحشرات والفطر والأحياء البحرية، تملك هذه القدرة الفريدة. لكن، مع الأسف، نباتات الأرض، خلافاً لنباتات بندورا، لا تشعّ بالضوء من طبيعتها. إلا أن الأخبار السارَّة هي أن الباحثين عثروا على طرق عديدة للتعويض عن هذا النقص.
ذكرت مقالة نشرتها مجلة “ديزين” (Dezeen) في يناير 2014م، استحداث أول نبتة تتوهَّج من نفسها، طوّرتها شركة “بيوجلو” (BioGlow) الأمريكية للتكنولوجيا البيولوجية. فقد طوّرت هذه الشركة نبتة تُشعّ ضوءاً ضعيفاً جداً، من دون أي محفِّز خارجي، مثل الكيميائيات المشعّة، أو الإنارة فوق البنفسجية. وقد سمِّيَت النبتة “ستارلايت أڤاتار” (Starlight Avatar)، إشارةً إلى فِلْم الخيال العلمي الشهير، الذي استلهم منه مطوّرو النبتة. والإشعاع الذي يصدر هو نتيجة تفاعل كيميائي بين مادتي لوسيفيريز ولوسيفيرين. فحين تتلامس هاتان المادتان تتفاعلان وتشعان ضوءاً. وهذا التفاعل هو نفسه الذي يحدث في كثير من الفصائل المشعة بيولوجياً، ومنها اليراعة وقنديل البحر.
لقد طوّر الباحثون في “بيوجلو” نبتتهم الوهّاجة حين مزجوا معاً الحمض النووي من نبتة تبغ للزينة، وبكتيريا بحرية مضيئة. واختاروا من هذا الحمض النووي، بالتحديد من جينوم البكتيريا، الجزء الذي ينتج كيميائيات مشعَّة، وحقنوه في حمض النبتة في الجزء الذي يحتوي على شفرة معلومات جُبَيلة اليخضور، وهو الجزء الذي تحدث فيه عملية التمثيل الضوئي. والنتيجة هي نبتة من نبات تزيين المنازل المألوفة، لكن ساق النبتة وأوراقها تشع نوراً ضعيفاً.
نباتات وهَّاجة معدَّلة جينياً
إن نبتة “ستارلايت أڤاتار” بعيدة جداً عن بلوغ ما تشعّه النباتات المتألقة وهجاً، في الفِلْم الذي سُمِّيت باسمه. فنورها ضئيل لدرجة أنه لا يُرَى إلا في غرفة مظلمة لا يتسرَّب إليها سوى نور ضئيل من شقوق، وبعدما تتكيّف حدقتا العينين بالظلام. ومع هذا فهي مناسبة تماماً للزينة المنزلية. وهي حيلة لإدهاش الأصدقاء بشيء ينظرون إليه حين يستيقظون في وسط الليل. إنها أمر بسيط ساحر ينطوي خلفه على شيء مثير ومدهش من العلم.
لكن هذه النباتات في النهاية لا تجدي نفعاً سوى بزينتها وقيمتها الجمالية. هذا حتى الآن على الأقل! فالغرض النهائي الحافز للباحثين والمهندسين الذين يحاولون تطوير النباتات الوهَّاجة، هو الحصول على بديل من مصباح كهربائي، نبتة منزلية تحل محل مصباح للطاولة، أو شجرة محل عمود إنارة. فإذا انقطع التيار الكهربائي في المستقبل، سيتمكن القارئ من إكمال قراءته على نور نبتة Ficus، أو سيقود سيارته على طرق سريعة تنيرها صفوف من أشجار القَيْقَب ليست بحاجة إلى كهرباء، أو أي عناية خاصّة.
إنها مهمة جديدة تحاول أن تبدأ في عصر التوهُّج البيولوجي التجاري، وهي مشروع النبات الوهَّاج.
ويروي مقال في مجلة “أتلانتيك”، نشر في إبريل 2017م، تاريخ المشروع الذي بدأ عام 1913م، وانتهى بعد تقطُّع استمر أربع سنوات. بدأ المشروع بتشجيع مؤسسة لبدء المشروعات الجديدة، اسمها “كيكستارتر” (Kickstarter) على إطلاق حملة تسعى في الحصول على تمويل يبلغ 65 ألف دولار، لكنه حصل على ما يقرب من نصف مليون دولار أمريكي، فسار في نجاح باهر. أو هكذا بدا.
الغرض النهائي الحافز للباحثين والمهندسين الذين يحاولون تطوير النباتات الوهَّاجة، هو الحصول على نبتة منزلية تحل محل مصباح للطاولة، أو شجرة محل عمود إنارة.
جاءت الصدمة الأولى للمشروع من المخاوف التي أثارتها جماعات حماية البيئة، بسبب استخدام الهندسة الجينية. فأدى هذا إلى تغيير “كيكستارتر” سياستها باحتساب ما يمكن لأصحاب الحملة أن يدرّوه من مكسب، لقاء التمويل، لذلك منعت تطوير أي أحياء معدَّلة جينياً.
وقد تبيَّن أن عملية التلاعب الجيني أكثر إثارة للمعارضة مما ظن الفريق في البدء. فالنبتة تطلَّبت ستة جينات إضافية لكي تنتج ضوءاً كافياً. وبدا أن حقن ستة أخرى كان مستحيلاً. وكان يمكن أن يكون أسهل لو فعلوا ذلك بأحياءٍ أبسطَ وحيدة الخلية، مثل البكتيريا، لكن هذا أصعب جداً، مع النباتات. وهكذا أنتجت نبتتهم ضوءاً ضعيفاً للغاية وحسب. ومذّاك، تحوّلت الشركة المكلَّفة بمشروع النبات الوهّاج، وهي شركة “تاكسا” (TAXA)، إلى صنع طحلب معطَّر معدَّل جينياً، رائحته مثل رائحة المادة المضافة “باتشولي” ذات الانتشار الواسع شعبياً. فكان منتظراً أن يؤدي الربح من مشروع الطحلب المعطَّر إلى تمويل أبحاث النبات الوهَّاج. لكن المخطط فشل بسبب التلوُّث الجيني، وهكذا انتهت الشركة إلى الافتقار للمال.
وأثبتت تجربة “بيوجلو” ومشروع النبات الوهَّاج صعوبة هندسة نبات وهَّاج جينياً. لكن لحسن الحظ، كما في كل الأفكار الجذابة، كان هناك آخرون مهتمون بالانخراط في الأمر وتسخير أيديهم وعقولهم لصنع شيء فريد وجميل. ومنذ فشل مشروع النبات الوهَّاج، ظهرت مشروعات كثيرة تقدِّم حلولاً للعقبات التي تحول دون تطوير النبتة المضيئة.
النباتات النانوبيونيّة الوهَّاجة
ثَمَّة طرق أخرى لتطوير نبات وهَّاج، من خلال تشكيل الهندسة الجينية بكاملها. ففي مقالة نشرتها “إم آي تي نيوز”، في ديسمبر 2017م، أن النباتات “النانوبيونية” (nanobionic) يمكنها ذات يوم أن تحل مكان بعض وسائل الإنارة الكهربائية.
لقد طوّر علماء “إم آي تي” (معهد ماساشوستس التكنولوجي) طريقة لجعل النباتات تتوهّج بدس جزيئات نانوية في أوراق نبتة تسمَّى قُرَّة العين، أو الحُرْف (watercress: وهي بقلة مائية)، من دون الحاجة إلى تعديل جيني. وباستطاعة النبتة أن تشعّ شعاعاً ضعيفاً أربع ساعات تقريباً. ويعتقد الباحثون أنهم، مع بعض العناء، قد يتمكنون يوماً ما من تطوير نبتة يمكنها أن تحل محل المصباح الكهربائي عملياً. وستكون تلك مصباحاً حياً لا يحتاج إلى كهرباء، بل إنه يستمد طاقته بالتمثيل الضوئي – أي يمتص الأشعة الشمسية في النهار ويُصدر نوراً من نفسه عند حلول الظلام.
والنبات النانوبيوني الوهَّاج نتاج لحقل جديد من الأبحاث المسماة النانوبيونية. ويتناول هذا الحقل من العلوم كل ما يتعلَّق بتطوير مزايا جديدة وخصائص في النباتات بإقحام جزيئات نانوية فيها. والغرض هو استحداث نباتات قادرة على أداء مهام تقوم بها الآن الأجهزة الإلكترونية. ولم تكن المخترعات السابقة التي قام بها هؤلاء الباحثون أقل شأناً وإدهاشاً، ومنها تطوير نباتات تستطيع أن ترسل إشارة رقمية حين تعاني جفافاً، وكذلك نباتات يمكنها أن تكتشف متفجرات وإرسال المعلومات إلى جهاز معيَّن.
لذا ليس غريباً أن الباحثين أنفسهم يرغبون في معالجة مسألة الإنارة. فنحو %20 من استهلاك العالم للطاقة تستهلكه الإنارة. وحتى لو حلت النباتات الوهَّاجة محل %10 من الطاقة المستهلِكة للإنارة، فإن هذا يوفِّر مقدار طاقة يساوي مجموع إنتاج عدَّة مئات من محطات الإنتاج.
%20 من الطاقة تستهلكها الإنارة. ولو حلَّت النباتات الوهّاجة محل %10 من الطاقة المستهلكة للإنارة، فإن هذا يوفِّر مقدار طاقة يساوي مجموع إنتاج عدَّة مئات من محطات الإنتاج.
إن العملية نفسها التي تجعل النبات يتوهَّج، هي عملية تفاعل لوسيفيريز مع لوسيفيرين لإنتاج الضوء. لكنها هذه المرَّة تحدث بتحفيز مما يسمَّى “كو- إنزيم أ” (co-enzyme A)، وهو جزيء يزيل النتاج الكيميائي الجانبي لتفاعل لوسيفيرين – لوسيفيريز، الذي يحول دون إنتاج الضوء. وخلافاً للنباتات المعدَّلة وراثياً التي تنتج بنفسها حصتها من لوسيفيريز ولوسيفيرين، فإن الجزيئات، هذه المرَّة، مع “كو- إنزيم أ”، ينبغي حقنها في النبات بواسطة جزيئات نانوية. هذه الجزيئات تؤدي مهمة الناقل، وكل جزيء يتطلب نوعاً مختلفاً من الجزيئات النانوية. فلوسيفيريز تشحنها جزيئات السيليكا [ثاني أكسيد السيليكون] النانوية، وقطرها 10 نانومتر، أي نحو 20 ذرَّة فقط. أما لوسيفيرين و”كو- إنزيم أ” فيحتاج كل منهما إلى ناقل أكبر بقليل، فتشحنهما بوليميرات PLGA) poly lactic-co-glycolic acid)، والتشيتوزان (مادة من السكريات العُدادية) على التوالي. قبل أن ينتج الباحثون هذه الجزيئات، يجب وضع النباتات في محلول. بعدئذ تُخضَع النباتات لضغط كبير حتى تمتص الجزيئات النانوية في أوراقها من خلال المسام المجهرية التي تسمّى ثُغيرات (تصغير ثغور).
تُحدَّد مسارات الجزيئات النانوية على أنواعها بطرق مختلفة من أجل أن تصل إلى أجزاء محدَّدة من النبتة. فالجزيئات الحاملة للوسيفيريز تتركَّز في الميزوفيل (mesophyll) أي النسيج الأوسط من ورق النبات، أما الجزيئات الحاملة للوسيفيرين و”كو- إنزيم أ” فتستقر في الحيِّز الخارجي من خلية “الميزوفيل”. وتُرسَل جزيئات البوليميرات PLGA إلى خارج الميزوفيل تماماً، واحدة بعد الأخرى لتتصل بلوسيفيرين على نحو متدرّج. وتدخل جزيئات لوسيفيرين في الميزوفيل، واحدة واحدة، وتلتقي مع لوسيفيريز، وهذا يؤدِّي إلى توهّج متواصل.
إلى الآن يمكن للنباتات أن تتوهّج نحو 4 ساعات، وهذا تقدُّم محسوس على الإنجاز السابق، وهو 45 دقيقة فقط. لكن الضوء الذي يصدر عن هذه النباتات لا يزال أضعف من أن يمكِّن المرء من القراءة. ومع ذلك يؤمن الباحثون بأن مزيداً من التحسين في نوعية الجزيئات في داخل الخلايا النانوية والوتيرة التي تُطلَق بها، ستمكِّنهم من أن يحسّنوا كثيراً كلاً من التوهُّج الضوئي، ومدة هذا التوهُّج. وثَمَّة عامل آخر يأمل العلماء أن يضيفوه، وهو القدرة على إطفاء ضوء النبات بإدخال جزيئات تحفِّز لوسيفيريز. ويمكن إطلاق هذه الجزيئات استجابةً لحافز خارجي مثل نور الشمس، الذي يؤدِّي إلى إطفاء توهُّج النباتات في أثناء النهار.
الجيل التالي من النباتات
النانوبيونية الوهَّاجة
باتّخاذ دراسة عام 2017م السابقة أساساً، طوَّر باحثو “إم آي تي” أخيراً جيلاً جديداً من النبات الوهَّاج، الذي يشع حتى أكثر مما سبق.
ويصف مقال نشرته مجلة “بوبيولار ميكانيكس”، في أكتوبر 2021م، المقاربة الجديدة. لقد ضخّ الباحثون في أوراق النباتات جزيئات نانوية متخصّصة مصنوعة من ألومينات سترونتيوم، المدهون بالسيليكا. هذه الجزيئات النانوية تؤدي دور المكثِّف – الجهاز الذي يمكنه أن يخزِّن الطاقة في التيار الكهربائي.
في شبكة كهربائية ما، تخزِّن المكثِّفات الطاقة حين يكون الطلب منخفضاً، ثم تطلقها حين يزيد الطلب. وهذا يكون في المعتاد في شكل بطاريات. لكن في هذه الحالة، المكثِّف هو جزيء نانوي من ألومينات سترونتيوم، يعمل مثل فوسفور مشع ضوئياً. بعبارة أخرى، تخزِّن هذه الجزيئات الطاقة في شكل ضوء. ويمكن لهذا المكثِّف الضوئي أن يُشحَن بواسطة الإشعاع من الطيف الضوئي المرئي، أو من الضوء فوق البنفسجي. وتماماً كما في النباتات من الجيل السابق، تُحقَن هذه الجزيئات النانوية في النباتات من خلال مسام أوراقها. وفي داخل خلايا النبات تشكِّل شريحة تمتص الضوء ثم تعيد إطلاقه عند الحاجة.
إن هذه المقاربة الجديدة والمحسَّنة، في الطريقة النانوبيونية، تضيف قدرة شحن طاقة تتيح للنبات أن يشعّ توهجاً أقوى من الجيل السابق. وهي لا تعتمد على الاتحاد العضوي للمادتين الكيميائيتين لوسيفيريز ولوسيفيرين من أجل إنتاج الضوء، وبدلاً من ذلك تستخدم الفوسفورات غير العضوية. وعلى هذا، يمكن للنباتات الوهَّاجة من الجيل الجديد أن تعاود الاشتحان بلا حدٍّ زمني، بخلاف المرات السابقة، التي تكف فيها النباتات عن إنتاج الضوء بعد نحو أسبوعين، بسبب تراكم ما ينتج من كيميائيات جانبيّة. والوهج الذي يصدر عن النباتات الجديدة أسطع 10 مرات، وهذا تحسُّن كبير في التقدُّم نحو الهدف، الذي يرمي إلى تطوير بديل من المصباح الكهربائي. لقد تمكن العلماء من تطبيق هذه العملية على فصائل نباتات مختلفة، مثل التبغ، والحَبَق أي الريحان، والحُرف، ونبتة اسمها العلمي “كولوكاسيا العملاقة” (colocasia gigantea)، ويسمونها: أذن الفيل التايلاندي (Thailand elephant ear) لأن الورقة منها تناهز طولاً طول الإنسان البالغ، وهي عريضة للغاية أيضاً.
وميزة الوسائل النانوبيونية على التعديل الجيني، هي أنها يمكن تطبيقها على أي نبتة، فيما مسار التعديل الجيني يحتاج إلى مقاربة خاصة لكل فصيلة نبات على حدة.
في المحاولات المقبلة في هذه التكنولوجيا، قد يتمكَّن الباحثون من الجمع بين طريقة لوسيفيريز – لوسيفيرين لإنتاج الضوء، وبين طريقة الفوسفورات، ربما لتطوير نبتات وهَّاجة أشد سطوعاً.
اترك تعليقاً