موسوعة الأوبئة الوثائقية.. كورونا من المهد إلى اللقاح
إعداد: حمزة العليان
الناشر: ذات السلاسل، 2021م
15 فصلاً جمعها الباحث والكاتب اللبناني المقيم في الكويت حمزة العليان، ليقدِّم خلال العام الماضي “موسوعة الأوبئة الوثائقية.. كورونا من المهد إلى اللقاح”، حيث استشعر الباحث بأن جائحة كورونا لن تكون قصيرة، بل ستكون جزءاً من تاريخ البشرية، لذا عمل على فكرة الموسوعة بعدما تمَّ تصنيف كورونا بأنها جائحة من قِبل منظمة الصحة العالمية.
حول فكرة الموسوعة قال العليان إنه استشعر أهمية وخطورة ظهور الجائحة منذ الشهر الأول عام 2020م، وكنت أتابع بشكل يومي ما يحدث في هذه “الجبهة الصحية” من العالم، يومها عقدت العزم على أن أفعل شيئاً، وبالفعل شكَّلت “فريق عمل” أو “خلية طوارئ” وقمت بتوزيع الأدوار، وكان الفريق يتكوَّن من باحثين ومتخصِّصين، أحدهم في لندن، وآخر في القاهرة، بالإضافة إلى بيروت، ومجموعة أخرى في الكويت، وكانت هي المقر، نتلقى التقارير والأبحاث ومن ثم نعدُّها للنشر، منتصف العام 2020م قرَّرت أن أصدرها بشكل موسوعي، وخصَّصنا فصولاً جديدة تتعلق بتاريخ الأوبئة، لا سيما طاعون القرن الرابع عشر (الموت الأسود)، والطواعين في المنطقة العربية، وأضاف بأن “الوقت الذي استغرقه فريق العمل على الموسوعة، ما بين إعداد وكتابة وبحث ومتابعة، كان في حدود عشرين شهراً، وهو تاريخ طباعتها، بعدما ارتأينا أن الوقت قد حان للانتهاء منها”.
وعن جائحة كورونا / كوفيد – 19 يقول العليان “خصصنا فصلاً عن الكويت، ثم فصلاً من أين جاء هذا الوباء، وكيف انتشر على مستوى العالم وصولاً لدول الخليج العربي، وقصة اللقاح الشامل والحق المتكافئ في الحماية، إذ إن الجائحة أعادت صياغة الحياة وكذلك صراع الإنسان مع الأوبئة”.
صدرت الموسوعة في 750 صفحة، متضمِّنةً خمسة عشر فصلاً، رصد فريق عملها بدقة بداية وانتشار فيروس كورونا، وحلّلوا الدراسات والتقارير الطبية، وتُعدّ الموسوعة أول موسوعة شاملة من نوعها، تتناول تاريخ الأوبئة.
خصَّصت الموسوعة الفصل الأول عن الإرادة الإنسانية، فيما تناول الفصل الثاني كورونا من أين جاءت وكيف انتشرت بين الطب وأشياء أخرى، وتم تخصيص الفصل الثالث عن رحلة كفاح الكويت ضد كورونا، بينما حمل الفصل الرابع عنوان الجائحة تعيد صياغة الحياة، وبعد عرض عدد من الدراسات والتقارير الصحافية المعتمدة في الفصول الأولى ذهب الفصل الخامس في رحلة اللقاح وجاء تحت عنوان اللقاح الشامل والحق المتكافئ في الحماية، فيما عاد الفصل السادس للحديث عن الأوبئة التي مرَّت على المنطقة العربية تحت عنوان الطواعين في المنطقة العربية، وتناول الفصل السابع الموت الأسود: طاعون القرن الرابع عشر وموروثه الباقي، وعودة إلى الإنفلونزا، جاء الفصل الثامن ليتحدَّث عن بداية القرن الأمريكي والإنفلونزا الإسبانية، فيما ذهب الفصل التاسع لاستعراض الحياة بعد انتشار اللقاحات ليكون بعنوان العودة للطبيعة وخطر الانفصال عنها.
تحدَّث الفصل العاشر عن التحوُّل المناخي في العالم وصناعة المستقبل، لكنه عاد في الفصل الحادي عشر ليحكي عن التأثيرات الثقافية وعالم الكتب، ليتوقف الفصل الثاني عشر عند القارة الكبرى وسط المحيطات ويوثق من خلالها بعض اللقاحات والأوبئة، وكذلك الفصل الثالث عشر الذي جاء عن أستراليا ونيوزلندا.
وتوقف الفصل الخامس عشر عند القارة الأوروبية وتأثير الوباء عليها، لكنه ذهب في الفصل الأخير لحالة التفاؤل بصناعة عالم جديد معتبراً إياه حالة تحدي الإنسان لهذه الأوبئة والأمراض.
لغز الفن.. قراءة اختبارية في التشكيل العربي
تأليف: طلال معلّا
الناشر: دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع، 2021م
إن قراءة كتاب “لغز الفن” للفنان التشكيلي والناقد الفني السوري طلال معلّا، تضع القارئ في قلب مشروعٍ نقدي منفصل ومتكامل في آنٍ واحد. وهو المشروع الذي يحاولُ فيه الباحثُ طرح التساؤلات الجديرة بالنقاش حول أحوال الفنون التشكيلية والبصرية في العالم العربي، راهنها وإشكالياتها النظرية والتطبيقية في محيطٍ متغيِّر على الدوام وعبر الحقب التشكيلية المختلفة.
ينشغل كتاب “لغز الفن” بتفكيك هذه الإشكاليات، وطرح الأسئلة التي تبحث عن إجابات لها في الفضاء النقدي العربي، وهو بذلك حفر واعٍ واختباري في متغيِّرات الفنون البصرية وتحوُّلاتها الجمالية والثقافية، وما رافقها من انزياح للمفاهيم والوسائط الفنية. وهنا، يضع طلال معلّا خبرته وتجاربه المتعدِّدة ومتابعاته الفلسفية في صلب المقالات المشكّلة للكتَّاب، التي كتبها انطلاقاً من دراية ومعرفة بالتجارب التشكيلية في الجغرافيا العربية وخارجها، وبلغة شاعرية أثرَت الطرح الموضوعي للعمل وإشكالياته الجديرة بالدراسة والبحث، يقول معلّا في كتابه: “غالباً ما يتحدث جيل المحدثين في التشكيل العربي المعاصر عن آثار الصدمة والدهشة، التي لاقوها مقابل الأعمال المتميِّزة للقرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين في أوروبا، ومدى تأثير هذه المواجهة على التغيرات الإبداعية، التي لحقت فيما بعد بالأحلام والتطلعات، التي كانوا يضمرونها لاستيعاب جذورهم البصرية”.
من الأفكار المهمة التي ناقشها معلّا في الكتاب، تحليل هيمنة النقد الغربي ومعاييره في نقد الفنون البصرية، ومدى تأثير الحداثة في الكتابات التشكيلية التي تحدثت عن قطيعة بين المحامل التشكيلية العربية وإرثها الجمالي والفني، واعتُبِرت تقليداً جامداً للتيارات الفنية الغربية، وخاصة فنون التصوير المتنوِّعة. ليبرز سؤال إشكالي آخر حول هذا المسعى، هل هو بحث عن هوية خاصة أو انسلاخٌ من الإرث ككل؟ ولكن الكاتب يقف على اعتبارات أخرى أدت إلى تضارب الفرضيات حول مفاهيم التبعية والحداثة وما بعدها. ومن بينها غياب البحث التحليلي للظروف التي أحاطت بحركة التشكيل العربي وتطوُّره عبر الزمن. بالإضافة إلى ما سمَّاه بـ “اغتراب التشكيل العربي” وهو انعكاسٌ للتأخر المنهجي التأصيلي للمدارس والأكاديميات الفنية في العالم العربي، ما يجعلها بعيدة عن تطلعات الفنَّانين الذين يسيرون بخطا حذرة، في ظل انتقال الولاء الجمالي إلى محمولات نقد الواقع والمجتمع الحاضر.
يسعى الكتاب عبر صفحاته إلى نقض التعميم حول الإنتاج العربي واتهامه بالتبعية للغرب، دون الوقوف على السياقات التاريخية والنكسات التي شهدها الفضاء التشكيلي والفني. لأن الحاجة المُلِحَّة الآن هي ضرورة تبنِّي المؤسسات الثقافية مهمة حماية الفن العربي وتوثيقه، ومنحه فرصة المشاركة في المحافل الدولية، انطلاقاً من طلائعية بعض التجارب العربية، والتأكيد على ذلك، يأتي كون صاحب الكتاب طلال معلّا يُعدُّ فناناً تشكيلياً وناقداً واسماً بارزاً في مدونة الفن التشكيلي العربي رسماً وكتابةً. كما أنه كان مسؤولاً عن إدارة بينالي الشارقة الدولي لمدة زمنية طويلة.
“لغز الفن.. قراءة اختبارية في التشكيل العربي” الصادر عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع بالأردن، في 268 صفحة؛ كتابٌ جدليٌّ يُعالج قضايا الفن التشكيلي العربي المعاصر وعلاقته بالموروث والفضاءات النقدية الحداثية، مفاهيم الهوية والآخر، والإمكانات المستقبلية.
انتعاشة اللغة.. كتابات في الترجمة
تأليف: عبدالسلام بنعبد العالي
الناشر: منشورات المتوسط، 2021م
يسعى المفكِّر المغربي عبدالسلام بنعبد العالي في اشتغاله الفكري والفلسفي المعاصر إلى مقاربة واقعية للمفاهيم والمصطلحات لا تستكين إلى المدونة التقليدية، إنما تفتح أفقاً جديداً للفكر من منطلقات يومية، يدخل معها في سجالٍ يؤسِّس لأرضية مغايرة تتولَّد من خلالها أسئلة غير متوقَّعة لعددٍ غير محدود من القضايا. وبما لا يغفل المتغيِّرات الإنسانية والفكرية المعاصرة. لذلك اعتبر الناقد والمفكِّر المغربي عبدالفتاح كيليطو، في تقديمه، كتابَ “انتعاشة اللغة.. كتابات في الترجمة”؛ “أول دراسة فلسفية أُنجِزَت عن الترجمة في الثقافة العربية المعاصرة”، مشيراً إلى أنَّ بنعبد العالي يعالج الترجمة بكونها قضية الفلسفة وموضوعها الأساس، ناسجاً علاقة زمنية متبادلة وشبه حتمية بين أزهى عصور الفكر وازدهار حركة الترجمة.
من هنا يمضي بنعبد العالي في صياغة نصوص وإن تعدَّدت عناوينها تبقى على تماس مع عنوان الكتاب، الذي يرمي إلى أن كثيراً من الآداب قد يخفتُ صوتها في لغتها وبلدها الأصليين، لكنها تستعيد بريقها وتبث في جسدها دماءً جديدة في لغة أخرى وبلدٍ آخر عبر جسر الترجمة، مما يتيحُ لها الانفتاح على ثقافات أخرى، وآراء مختلفة لقرَّاء جُدد، وهذه الانتعاشة، كما يورد الكاتب، تجعل الأدب يرى نفسه في أدب آخر ولغات أخرى، كما يرى نفسه أيضاً على نحو مغاير. أي إنه بشكل ما خروج للأدب عن ذاته واستنباته في غير موطنه.
من النصوص المؤسسة للكتاب، ما جاء في اعتبار الترجمة إبداعاً، ذلك أن المترجم ليس مجرد ناقل، وإنما هو مبدع مؤلف، والنص المترجم يحاكي عملية الإبداع التي تحاول، انطلاقاً من اللغة المألوفة، أن تعطي الحياةَ لِلُغة مغايرة. كما يُعدُّ بنعبد العالي في نص آخر الترجمة قضية “فلسفية” انطلاقاً من قصة برج بابل، حيث مُنع الشعب الواحد من أن يفرض لغته على أنها اللغة، وحكمَ عليه بالتعددية والترجمة. صفة الخيانة التي باتت لصيقة بالترجمة، كانت أيضاً موضع تساؤل للكاتب الذي اعتبر كما رولان بارت، أن الكتابة في حدِّ ذاتها خيانة للغة، ليزعزع الموقف السائد الذي يقول إذا كانت كل ترجمة مبدئياً خيانة، فإن ترجمة نص عن غير أصله خيانة مضاعفة، وليذهب إلى مفهوم آخر وهو الترجمات “الحفيدة” التي انتقلت من خلالها، عبر لغاتٍ وسيطة، كثير من الفلسفات الألمانية إلى اللغة العربية، دون أن ينكر قيمة ترجمات الدرجة الثانية هذه، أهميتها.
تضمَّن الكتاب الصادر عن منشورات المتوسط بإيطاليا، تقديماً لعبد الفتاح و42 فصلاً قصيراً – وهي طريقة عبدالسلام بنعبد العالي في الكتابة الشذرية – وتوزَّعت الفصول على 272 صفحة، تطرَّق فيها الكاتب إلى قضايا فلسفية أساسية تقارب موضوعية الترجمة. وقد عمد في مقاربته هذه إلى طرح أسئلة شائكة تتقاطع في جوهرها مع ثقافات أخرى، ومع نصوص ومقولات عبرت بين لغات عديدة.
كتاب “انتعاشة اللغة” اشتغال دائم بأسئلة متجدِّدة على قضية إشكالية قاربها بنعبد العالي بأسلوبه الخاص، وبمعاناة خفية مستترة، هي معاناة الفيلسوف الذي يخالف الأفكار الجاهزة، ويطرق الموضوعات الأساسية.
العالم كما تراه الفيزياء
تأليف: جيمي الخليلي
ترجمة: د. عبدالعزيز الخلاوي العنزي
الناشر: دار أدب للنشر والتوزيع – الرياض، 2021م
يبدو العالم المادي غريباً ومليئاً بالمفاجآت، وتبعاً لذلك فهو يحتاج إلى بيان يسبر أغوار التعقيد الذي يكتنف الأحداث والظواهر، عبر الوصف البسيط والعميق والدقيق للمبادئ الأساسية للعالم بوصفه مزيجاً من التفاعلات الفيزيائية الهائلة، وبطريقة كفيلة بجعل المعرفة الموسعة للآفاق في متناول جميع القرَّاء، حتى أولئك الذين لا ينتمون إلى الفيزيائيين.
إنها المعادلة السحرية لتعميم المفاهيم العلمية المعقَّدة وفق أساليب بيانية تستثير العقل وتنمِّي الإدراك، وتعفي أغلب الأشخاص من اللجوء إلى نظام غير علميّ للعثور على إجابات لأسرار الحياة خارج خطوات ثلاث: الافتراض الدقيق، والاختبار، واستنتاج الحقائق. وتمثّل هذه الخطوات الثلاث السمة المميزة للطريقة العلمية، من وجهة نظر الفيزيائي العراقي جيمي الخليلي، الذي أثبت ذلك من خلال كتابه “العالم كما تراه الفيزياء” الصادر في طبعته الأولى عن دار أدب للنشر والتوزيع في الرياض في عام 1443هـ/ 2021م.
قسّم المؤلف كتابه، الذي ترجمه إلى العربية الدكتور عبدالعزيز الخلاوي العنزي، إلى عشرة فصول، تضمَّن الأول سياقاً موضوعياً عن رهبة الفهم، وما لا نعرفه، وكيف نتقدَّم، والبحث عن البساطة. والثاني: القياس: السمة الكونية، والتناظر، والاختزال، وحدود السمة الكونية. والثالث: الزمان والمكان: نظريتا أينشتاين الخاصة والعامة، وتوسع الفضاء.
فيما ناقش الفصل الرابع: الطاقة والمادة، والكتلة، ولبنات بناء المادة، وتاريخ موجز للمادة والطاقة. الخامس: تمهيد لميكانيكا الكم، والتشابك القياس وفك الترابط. السادس: الديناميكا الحرارية وسهم الزمن: الميكانيكا الإحصائية والديناميكا الحرارية، واتجاه الزمن، والحتمية والعشوائية، وما هو الزمن إذن؟
وفي السابع والثامن ناقش المؤلف قضايا: التوحيد، ونظرية الحقل الكمي، والبحث عن الجاذبية الكمية، ونظرية الأوتار، والجاذبية الكمية الحلقية، ومستقبل الفيزياء: المادة المظلمة، والطاقة المظلمة، والتضخم والأكوان المتعدِّدة، والمعلومات، وأزمة في الفيزياء؟ أسباب تجعلك متفائلاً. فيما تطرَّق الخليلي في الفصلين التاسع والعاشر إلى: فائدة الفيزياء حيث تلتقي الفيزياء بالكيمياء والبيولوجيا، واستمرار الثورة الكمومية، والحواسيب الكمومية وعلوم القرن الحادي والعشرين، والتفكير كفيزيائي: الشك واليقين، وفي النظرية والمعرفة، وفي الحقيقة، والفيزياء إنسانية.
وتحت تلك العناوين ذات النسق التفصيلي، قدَّم المؤلف وصفاً شاملاً للفيزياء الحديثة، مفككاً عقد الاصطدام لدى الآخرين بعلم الفيزياء، ووفق أسلوب واضح خارج التكلُّف أو الإغراق في التأملات الفلسفية أو الميتافيزيقية، رغم مقامات الحديث المغرية عند نقاش بعض الأفكار الرائدة والأكثر عمقاً في الفيزياء، سواء حول طبيعة المكان والزمان، أو التفسيرات المختلفة لميكانيكا الكم، أو حتى معنى الواقع نفسه، بل نسج الموضوعات الجديدة والمألوفة برؤى مقبولة عند المتلقي (بنوعيه: المثقف، والبسيط) اختزلت كثيراً من العلم بمفهومه الفلسفي لإعطاء نظرة عامة وسهلة الفهم عن كمية هائلة من الفيزياء الحديثة، دون الشعور بالاندفاع، ليقدِّم لمحة عن الكيفيات التي يفكِّر بها علماء الفيزياء المعاصرون في بعض أصعب المشكلات في الكون، بهدف إيصال العلم إلى القرَّاء الذين لا يَعُدُّون أنفسهم من ذوي الخلفيات العلمية.
لاصق: العلم السري للأسطح
Sticky: The Secret Science of Surfaces,
by Laurie Winkless
تأليف: لوري وينكليس
الناشر: Sigma, 2022
ما الذي يربط بين أقدام حيوان الوزغ، والصفائح التكتونية، ولعبة الكيرلنغ الشتوية، والمركبات الفضائية التي تدخل الغلاف الجوي من جديد؟ بالنسبة للفيزيائية والكاتبة العلمية لوري وينكلس، الإجابة هي: الالتصاق. يتناول كتابها كل هذه الأشياء وأكثر، لأنها تبحث في القوة التي نشعر بآثارها في كل لحظة من حياتنا ولكنها تقاوم بعناد محاولات التفسير النظري، ألا وهي قوة الالتصاق.
تميل الذرّات والجزيئات إلى أن تنجذب إلى بعضها، مما ينتج عملية الالتصاق. وقوة الالتصاق هذه هي التي تبقي سياراتنا على الطريق، والقطارات على المسارات المخصصة لها، وأقدامنا على الأرض، وبالمثل، فإن أي شيء يتحرك عبر الماء أو الهواء يتعرَّض لقوة الجذب، وبالتالي الالتصاق، وهي قوة ناتجة عن الطبيعة اللزجة للسوائل. بعبارة أخرى، هناك كثير من الالتصاق يحدث طوال الوقت، لكن ما الذي نعرفه بالفعل عن فيزياء الالتصاق؟ ما الذي يحدث حقاً؟ كيف تطوَّرت الطبيعة للاستفادة من هذه الظاهرة، وما التطورات التكنولوجية التي توصّل إليها البشر من خلال قوة الالتصاق؟
تقول وينكلس إن دراسة الالتصاق عمل مهم يمكنه توفير مليارات الدولارات، ومليارات الأطنان من انبعاثات الكربون، إذا تمكّن الباحثون والمهندسون من جعل سفن الشحن تخترق المياه بسهولة، أو تقليل مقاومة إطارات السيارات للدوران عند احتكاكها بالأرض، مما يجعلها أكثر كفاءة في استهلاك الوقود. وهي تقول إن التوصّل إلى نتائج إيجابية فيما يتعلق بهذه الدراسة صعب للغاية، لأن التأثيرات التي تجعل الأشياء تسير بشكل أسرع أو أبطأ، أو تستقر في مكانها، أو تتحرك بسلاسة، تنشأ من عشرات الأجزاء المتحركة من المقياس العياني إلى الذري. ونتيجة لذلك، فإن عزل أي تأثير من تلك التاثيرات بشكل منفرد، ناهيك عن قياسه، عملية صعبة جداً. فلا توجد حالياً طريقة علمية واضحة للتنبؤ بمدى وقوة ومدة الالتصاق من خلال المبادئ الأساسية الموجودة لمعامل الاحتكاك (وهو نسبة تدل على مقدار قوة الاحتكاك بين جسمين). ومن ثم تتحدث وينكلس عن المحاكاة الحيوية، وتقول إن في هذا الفرع من علم المواد والتصميم، يحاول الباحثون فهم التأثيرات المرئية في الطبيعة وتكرارها.
عند مناقشة كيفية تشبث حيوان الوزغ بالأسطح الشفافة دون استخدام مواد لاصقة، تشير وينكلس إلى أن ذلك يعود إلى الحواف الموجودة على أقدام ذلك الحيوان، والشعر المجهريّ الذي يغطيها، والبنى النانوية في نهايات الشعيرات، والقوى على المستوى الذري التي تعمل بين تلك الأعضاء وجزيئات الأسطح. كما تشير إلى كيفية بقاء أوراق سرخس سالفينيا جافة حتى بعد أسابيع من غمرها في الماء، وذلك لأن الشعر الرقيق الصغير الموجود على سطحها يصدّ الماء، لكن الأطراف غير الشمعية لكل شعرة تجذبه إليها، ولكنها تبقيه في مكانه من خلال حبس الهواء تحته.
يمكن العمل على محاكاة مثل هذه الخصائص الفريدة في الاستخدامات البشرية، بحيث يمكن أن يؤدي العمل على كيفية تسجيل المستقبلات الموجودة في أطراف أصابع الإنسان لنسيج الأسطح إلى تحديث شاشات برايل لمستخدمي الكمبيوتر المكفوفين وضعيفي البصر. كما يمكن لأي قارب مغطى بطلاء أن ينسخ قدرة نبات السرخس على التوازن بين التنافر والجاذبية للماء، والإبحار في المياه دون أن يبتل أو يقلل من قوة احتكاكه بالمياه، وهو الأهم، إذ يمكن أن يكون ذا قيمة كبيرة في خفض الانبعاثات الضارة.
على الرغم من أن هذا الكتاب يتعلق في الأساس بعلم المواد من خلال قوة الالتصاق، لكنه يتطرَّق أيضاً إلى موضوعات واسعة، مثل الطب وعلم الروبوتات والجيولوجيا، ليظهر كيف أن هناك عديداً من الألغاز التي علينا اكتشافها فيما يتعلق بالعوامل التي تؤدي إلى التصاق الأشياء بالأسطح المختلفة، وأن الحضارة البشرية تدين بكثير لمعرفتنا بعلم الالتصاق.
حول العالم في 80 كتاباً
Around the World in 80 Books,
by David Damrosch
تأليف: ديفيد دامروش
الناشر: Pelican, 2021
في هذا الكتاب يحاول ديفيد دامروش، رئيس قسم الأدب المقارن بجامعة هارفارد ومؤسس معهد هارفارد للأدب العالمي، أن يحذو حذو بطل رواية الكاتب جول فيرنز “حول العالم في ثمانين يوماً”، التي نشرت في عام 1873م، “فلياس فوغ” الذي حاول أن يجول العالم في ثمانين يوماً، ولكن الفارق أن دامروش عزم، لمواجهة القيود التي فرضها وباء كورونا بمنع السفر، على استكشاف العالم من خلال ثمانين كتاباً استثنائياً من جميع أنحاء العالم، ساعدت في تشكيل أفكارنا عن العالم. وذلك لأن دامروش كان يعتقد بفكرة الأدب كمشروع إنساني واسع، وعملية فنية للمعرفة والاكتشافات، تمتد عبر الحدود الاجتماعية والسياسية وحتى العصور التاريخية، لذلك فهو يأخذنا من الشرق إلى الغرب، ويستكشف 16 مجموعة جغرافية من خلال خمسة كتب لكل منها. وبينما كان يتنقل بينها، كان يتعمق في المؤامرات والشخصيات والموضوعات والنثر والشعر على مرّ القرون، وينسج أعمالاً متشابكة واسعة من الكتب داخل الكتب.
في نهاية مقدِّمته للكتاب، يقدِّم لنا دامروش نصيحة اقتبسها من قول باللاتينية، للكاتب لوكيوس أبوليوس في رواية “الحمار الذهبي”: Lector intende laetaberis، أي “تنبّه أيها القارئ وستستمتع”. يبدأ الكتاب في لندن مع واحدة من أكثر الروايات “محلية” كما يسميها دامروش، وهي رواية “السيدة دالواي”، للكاتبة فرجينيا وولف، وهي القصة التي تسافر إلى الماضي والمستقبل، داخل وخارج عقول الشخصيات، لترسم صورةً لحياة كلاريسا دالواي والتركيب الاجتماعي في مدينة لندن خلال فترة ما بين الحربين. ومن ثم نذهب إلى باريس وكراكوف والبندقية وفلورنسا مع مؤلفات لماركو بولو ودانتي وبوكاتشيو، ورواية إيتالو كالفينو “المدن لا مرئية”، التي يرى فيها دامروش ما يشبه كتابه الحالي نفسه، لأن كالفينو يصف “العالم الحديث من خلال عدسات متعدِّدة لعوالم في أماكن أخرى”.
أما عن رواية “اسمي أحمر”، للكاتب أورهان باموك، فيرى فيها دامروش “مزيجاً نابضاً بالحياة، يعيد خلق الماضي العثماني الغابر لأغراض حالية”، بينما يعدَّ أن كتاب “أجرام سماوية” لجوخة الحارثي يتحدث عن “الحياة في عُمان في ظل العولمة الكاملة”. ومن ثم يسافر دامروش بخطا سريعة ويأخذنا إلى الكونغو وفلسطين وكلكتا وشنغهاي وبكين، قبل وصوله إلى طوكيو، حيث يستكشف كتابات “أعظم وأغرب” كاتب في اليابان يوكيو ميشيما، وقدرته على التحدث عن العصور القديمة والحديثة والتقاليد الآسيوية والأوروبية في آنٍ واحد. أما البرازيل فهي موطن لواحدة من “أكثر الكتَّاب المحليين دنيوية”: كلاريس ليسبكتور، مؤلفة كتاب “الروابط العائلية”، حيث عبَّر دامروش عن إعجابه بـ “المجموعة القصصية القصيرة الرائعة” التي يحتويها. ومع كتاب روبرت مكلوسكي “صباح واحد في ولاية ماين”، يعيد دامروش النظر باعتزاز بكتاب كان يستمتع به عندما كان طفلاً.
في المجمل يرى دامروش أن السفر يمثل تحدياً عقلياً وأخلاقياً وليس تجربة كتجربة “فلياس فوغ” السريعة في اختصار الفضاء وتسريع الوقت ولكنها رحلة توسع نطاق معرفتنا، وتدفعنا إلى التعرّف على الإنسان الآخر والتعاطف معه أينما كان في أقطار الأرض الواسعة.
تاريخ موجز للحركة: من العجلة إلى السيارة إلى ما سيأتي بعد ذلك
A Brief History of Motion: From the Wheel, to the Car, to What Comes Next,
by Tom Standage
تأليف: توم ستاندج
الناشر: Bloomsbury Publishing, 2021
في هذا الكتاب يأخذنا الكاتب والمحرِّر الرئيس في مجلة “الأيكونومست” توم ستاندج، في رحلة تمتد عبر 5500 عام من تاريخ وسائط النقل البشري، ليكشف لنا كيف شكَّل النقل الحضارة الإنسانية، وأسهم في تغيير اقتصادات المدن وتصميمها ونظافتها. يقول ستاندج إن كل شيء قد بدأ مع العجلة، وأنه على الرغم من تباين الآراء حول أصولها، ولكن من المحتمل أن تكون أول عجلة قد صُنعت في جبال الكاربات في أوروبا خلال العصر النحاسي، ومع ذلك لم يتم استخدامها على نطاق واسع إلا مع اختراع عربة يجرّها حصان.
ولفترات طويلة بقيت وسائل النقل بدائية إلى حد ما، حتى قدوم القرن التاسع عشر، حيث تطوّر النقل بشكل كبير مع اختراع المحرك البخاري والدرَّاجة ومحرك الاحتراق الداخلي والقطار البخاري، ومن ثم جاء اختراع السيارة التي أحدثت التحوُّل الأكبر على الإطلاق، بحيث غيرّت السيارات الطريقة التي كان يُدار بها العالم ويُنظم ويُراقب، كما غيَّرت شكله وحتى رائحته.
تمثل السيارة جوهر هذا الكتاب، بحيث يروي لنا ستاندج كيف أسهمت السيارات في زيادة عدد الحوادث، وفي تعبيد الطرقات، وفتح الأوتوسترادات، واختراج إشارات المرور، ويفسِّر سبب اعتماد اللون الأخضر كإشارة للمرور بدلاً من الأبيض، لأنه كان يمكن الخلط بين الضوء الأبيض وبين أضواء المنازل، كما أسهمت السيارات في نمو ضواحي المدن لسهولة الوصول إليها. يدعي ستاندج أن السيارة كانت “الهاتف الذكي” في عصرها، حيث جلبت الحرية والمكانة، وسهَّلت عملية التسوق، وغيَّرت بعض المفاهيم الاجتماعية المتعلقة بالجندرة. يقول ستاندج: إن من المفارقات، أن جاذبية السيارة الكبيرة، في الأيام الأولى لاختراعها، كانت كوسيلة للحد من التلوّث والازدحام، لأن مراكز المدن في أواخر القرن التاسع عشر كانت مزدحمة وصاخبة وقذرة، إذ بحلول تسعينيات القرن التاسع عشر، مثلاً، كان يعيش 300 ألف حصان في لندن وحدها، وكان كل واحد منها ينتج 10 كيلوجراماً من الروث يومياً. ولكن من المؤسف أن السيارات اليوم أدت إلى تلوث من نوع آخر.
وأخيراً، يتطرَّق ستاندج إلى مستقبل السيارة بعد النمو الهائل لمشاركة الركوب حول العالم، وسيارات النقل “أوبر” في كل مكان، وشحنات الطائرات بدون طيار، والحديث عن السيارات ذاتية القيادة، كما أنه يجد في التحوّلات الاجتماعية التي حفّزها فيروس كورونا، والأهمية المتزايدة التي اتخذتها مسألة تغيّر المناخ، فرصة فريدة لإعادة النظر بشكل حاسم في علاقتنا بالسيارة. وفي النهاية، يدعونا إلى النظر إلى الماضي بأعين جديدة، حتى نتمكن من إنشاء المستقبل الذي نريد رؤيته.
الساعات تخبر الأكاذيب: العلم والمجتمع وبناء الوقت
The Clocks are Telling Lies: Science, Society, and the Construction of Time
by Scott Alan Johnston
تأليف: سكوت ألن جونستون
الناشر: McGill-Queen’s University
Press, 2021
حتى القرن التاسع عشر، كان التوقيت المحلي هو الذي يُعتمد في كل مكان في العالم، بحيث كانت كل مدينة تحدِّد لنفسها توقيتاً محلياً تبنيه على أساس التوقيت الشمسي، فكانت الساعة 12 ظهراً توازي وقت أعلى مكان للشمس في السماء، وباقي اليوم مقسَّم حسبها إلى 24 ساعة، 12 منها “بعد الزوال” و12 “قبل الزوال”. وسواء أكان السفر مشياً على الأقدام أم على ظهر الخيل، كان من المستحيل التنقل بسرعة كافية للاكتراث بأن يكون موعد الظهيرة، مثلاً، قبل بضع دقائق أو بعد ذلك بين مدينة وأخرى. ومع ذلك، أدَّى اختراع السكك الحديدية والتلغراف إلى إيجاد عالم مترابط اتخذت فيه الفروق الزمنية بين المدن المختلفة أهمية أكبر.
يستكشف المؤرِّخ المتخصِّص بالعلوم والتكنولوجيا سكوت ألن جونستون، في هذا الكتاب الأسباب التي أدت إلى تنظيم الوقت بالطريقة التي نتعامل بها اليوم، مما يدل على أن إنشاء نظام زمني عالمي جديد لم يكن مهمة سهلة على الإطلاق. اصطدم النظام الزمني للمناطق، الذي تصوّره مهندسو السكك الحديدية، مثل المهندس والمخترع الكندي السير سانفورد فليمنغ، بالتوقيت العالمي الذي روّج له علماء الفلك، لذلك عندما التقى الجانبان في عام 1884م في مؤتمر ميريديان الدولي في واشنطن العاصمة لمناقشة أفضل طريقة لتنظيم الوقت، ساد الخلاف بينهما.
نطّلع مع جونستون في هذا الكتاب على الجوانب المهمة التي سادت النقاشات التي تضمَّنها ذلك المؤتمر، كما يكشف لنا كيف تعامل بعض الأشخاص مع التناقضات في ضبط الوقت العالمي بطرق مفاجئة، من أمثال عالِم الفلك الإيطالي-البريطاني تشارلز بياتزي سميث، الذي دعا إلى أن يكون الهرم الأكبر في مصر بمثابة خط الطول الرئيس، إلى ماريا بيلفيل التي كانت هي ووالدتها ووالدها جون هنري يبيعون الناس الوقت من باب إلى باب في لندن الفيكتورية عبر تعيين ساعة يملكونها على توقيت ساعة غرينتش، ومن ثم كانوا يقومون ببيع الوقت من خلال السماح للأشخاص بإلقاء نظرة على ساعتهم مقابل المال، إلى كيف استخدمت بعض المجموعات من السكان الأصليين في أماكن متفرقة من العالم مسألة ضبط الوقت للنضال من أجل الحكم الذاتي.
باختصار، يقدِّم هذا الكتاب سرداً مختلفا يركِّز على الناس والسياسة، بدلاً من التكنولوجيا، ليروي قصة نشوء التوقيت العالمي، ومع تزايد الاهتمام بالتخلص من تعقيدات التوقيت الصيفي، فإن تسليط الضوء على بعض المشكلات المتعلِّقة بالعودة إلى التوقيت القياسي وتقدير كيفية تأثير التغيير في التوقيت على المجتمع والنظام القائم فيه يصبح أمراً أكثر أهمية.
مقارنة بين كتابين
المكتبات وتدفُّق البِتّات والتهديد الذي يواجه مستودعات المعرفة
المكتبة: تاريخٌ هش
تأليف: أندرو بيتيغري، آرثر دير ويدوين | الناشر: Basic Books 2021
The Library: A Fragile History by Andrew Pettegree, Arthur der Weduwen
تدفق البِتّات: مستقبل الإرث الأدبي الرقمي
تأليف: ماثيو كيرشنباوم | الناشر: University of Pennsylvania Press 2021
Bitstreams: The Future of Digital Literary Heritage by Matthew G. Kirschenbaum
يؤكِّد كتابان صدرا مؤخراً على الحيوية والأهمية الدائمة للمكتبات، بحيث يتناول كل منهما التحديات التاريخية والمستقبلية التي واجهت وستواجه هذه المؤسسات المهمة. في كتاب “المكتبة: تاريخ هش” يقوم المؤرِّخان: أندرو بيتيغري، وآرثر دير ويدوين، بإلقاء نظرة عامة على تاريخ المكتبة، تمتد عبر آلاف السنين، أما ماثيو كيرشنباوم، أستاذ العلوم الإنسانية المتعلقة بشؤون التكنولوجيا الرقمية في جامعة ماريلاند، فيركِّز في كتابه “تدفُّق البِتّات”، على القضية التي تزداد أهمية يوماً بعد يوم، المرتبطة بكيف يمكننا، في عالمنا الرقمي الحالي، ضمان الحفاظ على النصوص الأدبية وفهمها في المستقبل.
يبدأ بيتيغري وويدوين كتابهما بإلقاء نظرة سريعة على مكتبات العالم القديم، وتلك التي تعود إلى العصور الوسطى، ومن ثم يركّزان على المكتبات في أوروبا الحديثة، ويستكشفان تأثير الظاهرة المزدوجة للحركة الإصلاحية واختراع الطباعة بالحروف المتحركة على وجود وشكل تلك المكتبات. فقد أدت الزيادة الكبيرة في توافر النصوص المطبوعة وتداولها، الذي أعقب هذين التطوّرين إلى بروز تحدّيين كبيرين أمام المكتبات الأوروبية منذ منتصف القرن الخامس عشر فصاعداً. أولاً، صار هناك حاجة لتوسيع المكتبات من حيث المساحة، وإقامة مبانٍ أكبر حجماً وأكثر تنظيماً، وثانياً، أدى نمو حجم المعرفة المتاحة إلى استجابة أكثر فلسفية، حيث كان على المكتبات والقيّمين عليها مواجهة مسألة الاختيار بين النصوص، وتحديد الأولويات من حيث أهميتها، وتسهيل الوصول إليها.
ومن المؤكد أنه عندما يصبح عالم المعرفة كبيراً جداً، وتكون الموارد محدودة، يصير هناك حاجة إلى قواعد جديدة للمساعدة في اختيار ما يجب اقتناؤه وما يجب التخلي عنه، كما أنه مع وجود مجموعاتٍ معرفيّة أكبر من أي وقت مضى، كان يتعيّن على المكتبات ابتكار تقنياتها الخاصة، لتمكين المستخدمين من التنقل عبر المواد، فظهرت تقنيات مثل الكتالوجات، ومخططات تصنيف الموضوعات.
كما يسمح لنا المؤلفان استكشاف بعض المكتبات العظيمة التي لم تكن معروفة خارج دائرة صغيرة من المهتمين بتاريخ المكتبات، وتشمل المكتبة التي أنشأها فرناندو كولون، نجل المستكشف كريستوفر كولومبوس، الذي أسس ما اعتبره المؤلفان أولى وأكبر مجموعة من الكتب في العالم الحديث، والتي لا تزال موجودة في كاتدرائية إشبيلية، بالإضافة إلى مكتبة الملك ماتياس كورفينوس، ملك المجر، المليئة بأحدث المعارف الإنسانية من القرن الخامس عشر، والتي أصبحت اليوم موزعة بين عديد من المكتبات في أوروبا وأمريكا الشمالية، كما يطلعنا بيتيغري وويدوين على بعض من المعلومات الفريدة المتعلِّقة بالمكتبات، مثل أن مكتبة بودليان في جامعة أكسفورد البريطانية كانت أول مكتبة تفرض قاعدة التزام الصمت كأول شرط لكل من يدخل إليها.
وفي حين يعدّ المؤلفان بيتيغري وويدوين مشكلة توسع حجم المعارف وصعوبة تنظيمها كانت من أبرز التحديات التي واجهتها المكتبات عبر التاريخ، يرى ماثيو كيرشنباوم، في كتابه “تدفق البتات”، أن الصعوبة اليوم تكمن في الطبيعة شديدة التوزيع للإبداع الأدبي في عصر متصل بالشبكات، حيث يؤدي عديد من المنصات عبر الإنترنت، مثل وسائل التواصل الاجتماعي والمدونات وحسابات البريد الإلكتروني الخاصة، بالإضافة إلى مجموعة الأجهزة التي يستخدمها الكاتب (أو القارئ)، إلى تعقيد الطريقة التي يمكن من خلالها فهم الأدب والحفاظ عليه ونقله إلى الأجيال المقبلة. وبسبب ذلك، بحسب كيرشنباوم، تصبح مهمّة أمناء المكتبات والعلماء شديدة التعقيد، إذ على الرغم من السهولة التي يمكننا من خلالها الوصول إلى الخدمات السحابية والبرامج المجانية والتخزين، تظل النصوص الرقمية – وخاصة النصوص الأدبية – من نواحٍ عديدة، سريعة الزوال، وهشّة، وخاضعة لكل أنواع التغيير بمحتوياتها، مما قد يؤثر على إمكانية قراءتها واستيعابها والمحافظة عليها لفترة طويلة في المستقبل.
ومن هنا يسأل كيرشنباوم: ما هي الآفاق المستقبلية للمعرفة الأدبية بعد أن تم اختزال النصوص الأدبية، والمواد الخاصة بالتأليف والنشر والقراءة، إلى تدفقات من البتّات وسلاسل رقمية وأصفار؟ وما هي الفرص والالتزامات المتعلِّقة بتاريخ الكتاب والنقد النصّي والببليوغرافيا عندما يتم توزيع النصوص الأدبية عبر المنصات الرقمية والأجهزة وكافة أنواع الصيغ والشبكات؟
يأخذ كيرشنباوم القارئ إلى جولة لاستكشاف مجموعة من النصوص الأدبية من “أوراق” الكاتبة الأمريكية توني موريسون، التي نقرؤها معه بواسطة التكنولوجيا الرقمية، إلى كتابات الشاعر كاماو براثويت من خلال الخطوط النقطية لجهاز ماكنتوش الذي كان يستخدمه في كتاباته، إلى مكاتب شركة ميلشير ميديا Melcher Media، وهي شركة صغيرة رائدة في مجال إعادة تصوُّر مستقبل المخطوطة، وهي التي أصدرت الكتاب الشهير بعنوان “S” في عام 2013م، الذي هو عبارة عن رواية تفاعلية متعدِّدة الطبقات، تتمحور حول قصة سفينة ثيسيوس التي صدرت عام 1949م، ومؤلفها الغامض ف.م. ستاركا، بحيث إن كل الكتابة فيها تمت بشكل يدوي، وتتضمَّن عشرين قطعة أخرى مصممة بدقة مدسوسة داخل صفحاتها، من خريطة مكتوبة على منديل، إلى قصاصات بعض المجلات والصحف القديمة، إلى عجلة تشفير تكشف عن رسالة مخبأة داخل نص الكتاب. وتعدّ هذه الرواية نموذجاً رائداً عن النصوص التفاعلية التي يمكن للقرَّاء تغيير النص فيها والتفاعل معها. وقد أدرج كيرشنباوم كل هذه الأمثلة وغيرها ليظهر الطبيعة شديدة التغيير والزوال للنصوص الأدبية المعاصرة، وليقول إن البتّات (وحدات الحوسبة وأصفارها)، ليست متطابقة مع ذاتها أبداً، ولكنها دائماً ما تتأثر بالحقائق المادية لأنظمة ومنصات وبروتوكولات معينة. ومن هنا يتساءل عن كيفية الحفاظ على الإرث الأدبي في المستقبل.
قد يكون من أفضل النقاط التي يمكن استنتاجها من استكشاف بيتيغري وويدوين في كتابهما “المكتبة” هو مدى قابلية المكتبات للتكيّف والابتكار مع مرور الوقت، مما يعطينا الأمل باستمرار المكتبات مستقبلاً في استيعاب كل التغيّرات التكنولوجية القادمة لتضمن بقاءها، أما في ما يخص كتاب “تدفق البتّات” فإن كيرشنباوم يعطينا الأمل أيضاً ولكن من ناحية أخرى، وهي أن المكتبات والعلماء بدأوا الاستجابة إلى التحوُّل للأدب الرقمي، وذلك عن طريق بحثهم في ابتكار طرق جديدة لضمان قدرة المجتمع على دراسة الأدب والحفاظ عليه وتقدير ما يتم إنشاؤه اليوم.
اترك تعليقاً