مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر – ديسمبر | 2021

جبالُ الهُقار والطاسِيلي في الجزائر
تاريخٌ قديمٌ للجَمَال الطبيعي والإنسان الأوَّل


خالد بن صالح

في الصحراء الكبرى وعلى امتداد مساحة 450 ألف كيلومترٍ مربع، أي ما يُعادلُ رُبعَ مساحةِ الجزائر الإجمالية؛ تتبدَّى تشكيلاتٌ جبليَّة بركانية مترامية يعودُ تاريخُها إلى ملايين السنين، تُعرفُ بسلستَي جبال “الهُقار” و“الطاسيلي” وهي عبارة عن سلاسل جبليَّة أردوازية اللَّون تقع في إقليم ولايتيْ تمنراست وإليزي، أقصى الجنوب الشرقي للصحراء الجزائرية. تُصنَّفُ المنطقة على امتدادها الصحراوي كمحميةٍ وطنيةٍ تتجاوزُ شهرتها وأهميتُها البلد، لتُشكّل واحداً من أهمِّ متاحف الطبيعة العالمية المفتوحة، المسجّلة ضمن الإرث التاريخي الوطني وفي قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو.

تتكوَّنُ سلسلتَي جبال “الهُقار” و”الطاسيلي” من صخورٍ مُنصهرة وأخرى شبه مُنصهرة تحوي موادَ صلبة وسيليكية قذفتها البراكين في الأزمنة الغابرة، ثمَّ جمَّدتها وصقَلتْها الرياح الرَّملية بقممٍ حادَّة، راسمةً لوحةً على مدِّ النظر لمجسَّمات تشبهُ كائنات بشرية وحيوانية. أسفلَها توجدُ أحواض رسوبية وجزر صخرية مختلفة الأحجام، من قممٍ معزولة وقبابٍ صغيرةٍ من الجرانيت إلى سلاسل طويلة شديدة الانحدار، تتناقض أشكالُها المجدولة مع سهول الرمال والكثبان الهائلة. وهي منطقة مليئة بالأسرار غير المكتشفة عن الوجود الإنساني الأوَّل، والحيواني والنباتي في الجنوب الكبير، الغنيّ بالمواقع الجيولوجية والنقوش الصخرية التي تدوِّنُ معالمَ حضارة حياتية ما زالت آثارُها ماثلةً إلى اليوم.

الهُقار

أجمل شروق وغروب للشمس في العالم
على بعدِ ما يقاربُ ألفيْ كيلومتر عن العاصمة الجزائرية، وعلى مدى آلاف السنين، تمثلُ هذه الشواهد الطبيعية الحيَّة المصنَّفة من قبل اليونسكو كتراثٍ طبيعي عالمي، لتحكي قصَّة إنسان ما قبل التاريخ عبر رسوماتٍ ونقوشٍ جداريةٍ ملوَّنة تحتفظُ بها صخور وتكوينات بركانية متآكلة، نحتَتْها الرياح وأحاطت بها كثبانٌ رملية ذهبية يلفُّها سكونُ الصحراء المهيب.

في جبال “الهقار” (Hoggar) الاسم التاريخي للمنطقة التي تأْهَل بعشرات الآلاف من سكان الطوارق، توجدُ هضبة أتاكور (Atakor) ومنها تشمخُ أعلى قمَّة جبليَّة في الجزائر، وهي قمَّة جبل طاهات (Tahat)؛ قبَّةٌ شاسعةٌ من الصخور البركانية والبلُّورية نشأت في نهاية العصر الثالث وحتى العصر الحجري الحديث، وترتفع لأزيد من 3000 متر. كما يوجد في جبال الهقار ممرُّ أسكرام (Askram) الشهير، الذي يتيحُ لزوَّارهِ الاستمتاع والدهشة برؤية “أجمل شروق وغروب للشمس في العالم” حسب تصنيف اليونسكو في الدليل السياحي العالمي.

فنٌّ صخري في قلب الصحراء
تنقسم سلسلة جبال الهقار إلى ثلاث مناطق كبيرة تمتد من الغرب إلى الشرق: الهقار الغربي والأوسط والشرقي، وكل كيان من كياناتها يتكوَّن من عدَّة تضاريس، وحسب دراسات علم الأرض والصخريات والبناء الجيوديناميكي فإنَّ كثيراً من هذه الكتل وارتباطاتها المعدنية طُمست بفعل حبيبات الرمل. لكن تشدُّها أعناق تتوافقُ مع المداخن البركانية التي تجمَّدت فيها الحِمم اللزجة قبل أن تكونَ قادرة على طردها من البركان، لتتشكَّل عن طريق التعرية الشديدة الغاباتُ الحجرية والكتلُ الصخرية كما في كلِّ مكان في الصحراء.

من الرسومات والتمثيلات العديدة التي تمَّ اكتشافها في كتلٍ صخرية مختلفة في جبال الهقار، يتضح أنَّ الصحراء لم تكن دائماً صحراء، فالوجود الإنساني في هذه المنطقة بكهوفها ومواقعها الجيولوجية ومعالمها الأثرية، يعودُ إلى ما بين 12 ألف و5 آلاف سنة خلت. كما تُبرِزُ النقوشُ المرسومة على صخورٍ عالية نمطَ حياةٍ موغلٍ في القدم، وطرق إنسان ما قبل التاريخ في التعامل مع الطبيعة على قساوتها وأشكال الصيد وتتبُّع منابع الماء وتأمين الأكل والحماية من المخاطر. آلاف الرسوم والحفريات للأدوات المستعملة في الحياة اليومية، والحيوانات التي يظهر بعضها بحجمه الحقيقي، إضافة إلى إيحاءات وطقوس الرقص. وقد عثر علماء الآثار في الرحلات الاستكشافية المحدودة على بقايا هياكل عظمية للأسماك وأدوات الصيد.

شموخ الرجل الطارقي بلباسهِ الأزرق والجِمالُ رفيقة دربه.

شواهد طبيعية للحياة
التنظيم الطوبوغرافي لسلسلة جبال الهقار يبدأ من سفح الجبل، حيث تقع مدينة تمنراست ويصعد تدريجياً عبر ممرات صخرية تتخللها الرمال إلى قمَم هضبة أتاكور، أشهر مناطق الصحراء الجزائرية وأكثرها جاذبية للسيَّاح، لتوفُّرها على مجموعة متنوِّعة من المناظر الطبيعية، رغم أنَّ مواردها محدودة للغاية. حيث يبلغ متوسط الأمطار السنوي حسب (الموسوعة البربرية) في جميع أنحاء الهقار من 5 إلى 50 مليمتراً، مع فترات نادرة جداً من الأمطار الاستثنائية. فقط الوديان الكبيرة، القادمة من أتاكور، لا تزال تجتازها الفيضانات التي يمكن أن تتدفَّق من 100 إلى 400 كيلومتر تقريباً في الموسم البارد. وهكذا، يحتل وادي تمنراست المرتبة الرابعة من حيث أطول الوديان التي قطعتها فيضانات، لكنها تحدث بشكل غير منتظم مرَّة واحدة كل 6 أو 7 سنوات، ومع ذلك، فإنها تسمحُ بوجود نقاط للمياه.

شواهدُ كثيرة تدلُّ على تواجدٍ نباتيٍّ كثيف ومتنوِّع آيل إلى الانكماش (تشير الإحصاءات إلى 350 نوعاً)، منها شجر الأكاسيا الملتوي والطلح ونباتات الشيح ذات الاستخدامات الطبية. بالإضافة إلى الحيوانات الأليفة والبرية التي أشهرها ثعالب الصحراء والفهد الأهقاري، وهي كائنات تتميَّز بالقدرة على التأقلم مع قسوة الطبيعة وشح المياه، فالمنطقة عرفت تغيُّرات مناخية بين رطبة وباردة، وقاحلة ودافئة، لما لا يقلُّ عن مليون عام.

بين السماء والكثبان الرملية والصخور حكاية متحف طبيعي مفتوح.

أهل اللِّثام
يشتهر الطوارق بلقب “أهل اللثام” وكنية “الشعب الأزرق” لكثرة ارتدائهم لباساً من القماش الأزرق. الطوارق من التجار أو الرعاة الرحَّل يقطنون الصحراء الكبرى في إفريقيا، التي تمتد من موريتانيا في الغرب إلى تشاد شرقاً، وتشمل الجزائر، ليبيا، النيجر، بوركينا فاسو، ومالي. وهم أكثر مَن استعان بقوافل الإبل في التجارة لنقل البضائع وأهمها الذهب والفضة والملح. يقوم مجتمع الطوارق في الجزائر ممَّن يقطنون بشكلٍ خاص في مدينتي تمنراست وإليزي ومحيطهما على بُنيانِ التقارب الأمومي. يأتي ذلك من الحظوة التي تتمتَّع بها المرأة الطارقية، سليلة الملكة “تين هينان” الأم الروحية التي تحدَّت الطبيعة والعداءات لتؤسس مملكتها وتدافع عنها.

الطاسيلي ناجّر

متحف في الهواء الطلق
على مساحة شاسعة تمتدُّ على 72 ألف كيلومترٍ مربع، تمتدُّ هضبة “طاسيلي ناجر” (Tassili n’Ajjer) في وسط الجنوب الشرقي للصحراء الجزائرية بولاية إليزي. يندرج هذا المتحف الطبيعي ضمن الإرث التاريخي الوطني وفي قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو منذ عام 1982م كأكبر متحف في الهواء الطلق. وهو غنيٌّ بالمواقع الجيولوجية والنقوش الصخرية التي تدوِّنُ معالمَ حضارة حياتية ما زالت آثارُها ماثلةً إلى اليوم في مغاور الكهوف الحجرية وبين الصخور المترامية المكوَّنة من الحجر الرملي، والمتقاطعة مع شبكة وديان جافة.

تمَّ إحصاء ما لا يقل عن 17,692 موقعاً أثرياً بإقليم المحمية منذ سنة 2016م وإلى غاية 2020م، وحسب ديوان المحمية الثقافية الطاسيلي ناجر، فإن العملية التي أشرف عليها القسم التقني للجرد والدراسات تمَّت عبر ستِّ مهام ميدانية عوينت خلالها 20 بالمئة فقط من مساحة المحمية.

عدَّ علماءُ الآثار الرسومَ والمنحوتات التي تمثل في غالبيتها الحيوانات، وطقوس الصيد وبعض المعتقدات القديمة، وما تبقَّى من مقابر هي عبارة عن ضمائم صخرية صغيرة؛ من الفنون الحجرية الأشهر في العالم. وحسب منظمة اليونسكو فإنَّ الفن الحجري الطاسيلي يعبِّر عن بلاغة علاقة الإنسان ببيئته. حيث “يأوي هذا المنظر القمري الغريب الذي يتمتّع بأهمية جيولوجية كبيرة إحدى أكبر المجّمعات الفنية الصخرية التي تعود إلى فترة ما قبل التاريخ”.

مدينة الأحجار
الغابات الصخرية التي تتشكّل من الصلصال الرملي المتآكل توحي كما لو أنَّها كانت مدناً مأهولةً هجرها قاطنوها بفعل قسوة الصحراء. كدليلٍ على استمرارية الحياة على مرِّ العصور، فالكهوف تبدو كمنازل، والممرات المتعامدة كشوارع، والجدران الصماء تنطقُ بنقوشٍ شديدةِ الوضوح والدقة لكائنات يمكن للمتأمِّل فيها أن يسمع أصواتها ويرصد حركاتها كما رسمها إنسانُ تلك الحقب الغابرة.

على بعد حوالي 2400 كيلومترٍ جنوب شرق العاصمة الجزائرية، وحوالي 200 كيلومترٍ عن واحة جانت الساحرة، وفي قلبِ سلسلة الطاسيلي ناجر توجد مدينة “سيفار” (Sefar)، المدينة التي تُعدُّ أكبر مدينة كهفية في العالم، حيث تضم الآلاف من الكهوف والمنازل المتحجِّرة. مدينةُ الأساطير والجبال والبحيرات والحيوانات النادرة والكائنات الغريبة. يسمُّونها “مدينة الأحجار”، و”بوابة الجن”، و”أعجوبة العالم الثامنة”، وتحوي آلاف الرسومات والمنحوتات مثل “الرامي الأسود”، “المرّيخيُّون” و”الرؤوس المستديرة”، أُنجزت بألوانٍ متعدِّدة على نحوٍ لم يسبق له مثيل، منها الأحمر والأبيض والأزرق الرمادي والأصفر. وما زاد تلك الرسومات غموضاً كونها تجسِّد بشراً يطيرون في السّماء، يرتدون ما يشبه أجنحة للطيران، وبعضهم يجرُّ أجساماً أسطوانية غامضة، ويركب سفناً فضائية. 

لكنَّ الأكيد أن هذه المدينة المتاهة، تلفُّها الأسرار لوعورة مسالكها وصعوبة التجوُّل بين صخورها لمساحتها الشاسعة، فقليل من يغامرُ بدخول المدينة وقليل من يرجع. وبعيداً عن الأساطير التي تُنسج حولها، فإن سيفار هي اليوم عرضة للتدهور الناجم عن تغيُّر الظروف المناخية والزوابع الرملية المتكرِّرة.

كوكب ونجم في الفضاء، ولكن؟
قبل ثلاث سنوات، وباقتراحٍ من اللجنة الجزائرية المشاركة إلى جانب 112 دولة في احتفالية مئوية الاتحاد الدولي للفلك، أطلق هذا الأخير، بعد استفتاء على شبكة الإنترنت، اسمَ “طاسيلي” و”هقار” على كوكبٍ ونجمٍ خارج المجموعة الشمسية اكتشفا سنة 2011م.

“سيفار” هي علامة سياحية عالمية. دمغت جبال الطاسيلي البكر، التي لم تحصل كما “أسكرام” جبال الهقار على حقها في الترويج السياحي، والاهتمام الرسمي من الدولة بها وبما يجاورها من واحات ومدنٍ آهلة بالسكان، بوصفها لآلئ خفيَّة على الأعين رغمَ تواجد السياح من كل بقاع العالم على مدار العام، وخاصة في فصل الخريف وفي احتفالات رأس السنة الميلادية، إلا أنَّ أعدادهم تظلُّ أقلَّ من المأمول.  

• من الرسومات والتمثيلات العديدة التي تمَّ اكتشافها في كتلٍ صخرية مختلفة في جبال الهقار، يتضح أنَّ الصحراء لم تكن دائماً صحراء، فالوجود الإنساني فيها يعودُ إلى ما بين 12 ألف و5 آلاف سنة خلت.

• يشتهر الطوارق بلقب “أهل اللثام” وكنية “الشعب الأزرق” لكثرة ارتدائهم لباساً من القماش الأزرق، وهم تجار أو رعاة رحَّل يقطنون الصحراء الكبرى في إفريقيا، التي تمتد من موريتانيا في الغرب إلى تشاد شرقاً.

• حسب منظمة اليونسكو فإنَّ الفن الحجري الطاسيلي يعبِّر عن بلاغة علاقة الإنسان ببيئته. حيث يتمتّع بأهمية جيولوجية كبيرة ويأوي أحد أكبر المجّمعات الفنية الصخرية التي تعود إلى فترة ما قبل التاريخ.

تصوير: نور الدين بلفتحي


مقالات ذات صلة

على الرغم من وجود العديد من التساؤلات حول مستقبل الكتب المادية، فقد أطلقت الفنانة الإسكتلندية المفاهيمية “كاتي باترسون” في عام 2014م فكرة إنشاء “مكتبة المستقبل” كمشروع فني تطلعي يجمع بين كونه كبسولة زمنية أدبية ومشروعًا بيئيًا. كرّست “باترسون” جلّ اهتمامها بما ستتركه البشرية للأجيال القادمة؛ لذلك ابتكرت فكرة إنشاء هذه المكتبة في مدينة أوسلو النرويجية. […]

استطاعت الدول الناطقة باللغة الألمانية (ألمانيا، والنمسا، وسويسرا) أن تخلق نموذجاً في النهضة والتفوّق بالاعتماد على الأيدي العاملة المؤهلة مهنياً، وقد حقَّق هذا النموذج نجاحاً باهراً على مستوى العالم، فيما تسعى دول كثيرة داخل أوروبا وخارجها للاستفادة منه، ففي هذا البلد المزدهر اقتصادياً، يُعدُّ التدريب المهنيّ سرّاً من أسرار نجاحه، بل وربما ريادته عالمياً، فبفضله […]

من المؤكد أن للعلوم والتكنولوجيا تأثيراً عميقاً على المجتمع، لكن العكس صحيحٌ أيضاً، بحيث يشكِّل المجتمع، بصورة كبيرة، الطرق التي تتطوَّر بها العلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك، تُظهر التجربة أنه لا يمكن دائماً للعلماء، من ناحية، وعامة الناس والحكومات والشركات، من ناحية أخرى، فهم بعضهم بعضاً بوضوح، لهذا السبب كان لا بدَّ من وجود خبراء ذوي […]


رد واحد على “جبال الهقار والطاسيلي في الجزائر”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *