إن “أنسنة المدن” مفهوم حيوي مستجد، جاء ضمن التفكير الجدي في حل الأزمات التي أوجدها التطوّر المتسارع وغير المتحكَّم به للمدن، ونشوء أمراض كما التوسعات (السرطانية) التي تمادت في النأي عن فحوى مفهوم المدينة باعتبارها فضاءً للعيش، هدفه جعل المدن أكثر ملاءمة للإنسان بما يضفيه من حميمية وألفة وشعور بالألق والمشاعر الطيّبة، ويطبع في خاطره ذكرى جميلة، وليس مجرد مكان يقيم فيه من أجل العمل والنوم فحسب، بل مكاناً يقدِّم له وسائل الارتقاء العاطفي والحسي، ويترك الانطباع المرهف على خاطره والسعادة على محياه، وذلك كنتيجة لمعادلة طرقت في تراثنا العربي قبل راسكن الإنجليزي بألف عام، بأن العمارة، كما أننا نبنيها، فهي تبنينا في المقابل، وترسي ما بدواخلنا من هواجس وعواطف وسلوك.
ثَمَّة توجه عالمي يروم تحسين ظروف الحياة البشرية اضطراداً، ويخص المدن التي أمست تضم تجمعات بشرية هي الأكثر في التأريخ منذ تأسيس المدن قبل حوالي 5600 سنة خلت. وشاعت نظم وتصانيف معيارية لأحسن المدن عيشاً ورخاءً في العالم، وطُرحت مفاهيم المدن البيئية والذكية والمستدامة، بهيئاتها المادية، بعيداً عن أن مادة المدن الأهم ليس البنيان بذاته، بل الإنسان وغاياته. وبذلك فإن أنسنة المدينة وجعلها فضاءً قابلاً للعيش الكريم والمريح والهانئ، غايةٌ تحقِّقها السُبل المادية التي يسخِّرها العقل البشري، مقروناً بالحسّ الفني والجمالي.
لكل خطوة مغزى
وتتحقَّق غاية “أنسنة المدن” من خلال حبكة تصميمية متعدِّدة الروافد ضمن سطوة البيئات الثلاث: الاجتماعية والجوية والأرضية، وإثراء المحتوى من خلال مبدأ: كل خطوة لها مغزى ومعنى، وإضفاء محيط يرتقي بالحس في العلاقة بين الفرد ومجتمعه من خلال الأحجام والأشكال والألوان والبيئة الخضراء والفضاءات المتضامَّة والمفتوحة، وبما يسبغه من أثر على الاستمتاع بحياة الإنسان وتطوير ملكاته وتحفيزه على الممارسة القيِّمة والتجمُّل، والعمل الجماعي التكافلي والجدِّي والإبداعي، والارتقاء بحياته الفكرية والعملية.
ويمكن أن يكون الأمر ضمن نتائج غلو المدّ المادي وحمَّى البناء السريع والشغف بالأبراج وتوسعة المدن الهائل وتغيير معالم الأرض الطبيعية وزحف المدن على فطريتها وجمالياتها، بتسارع وتهافت، بخاصةٍ في هذا العصرِ الذي تقاربت فيه المسافاتُ، وتداخلت أنساق تواصل البشر، بالسفر والسياحة والترحال والعمل، أو التواصل الافتراضي عن طريق وسائل التقنية الحديثة.
كان توافُرُ السكنِ واقتناص فرص العمل وحدهما هما المعياران الأساسيان ضمنَ متطلباتِ الحركة السكانية فيما مضى، لكننا نجد في هذا العصرِ واقعاً جديداً، فالناسُ تريد أن تعيشَ في المدن لا أن تسكنَ وتعمل فيها فحَسْب، وكأنها “مدن نوم” كما يُطلق عليها المخطِّطون الحضريون الفرنسيون، وهي المدن التي توفّر أقل من الحد الأدنى لسياقات ومقتضيات توق النفس البشرية للحياة الكريمة المرفَّهة التي تعيش متعة الحياة.
كان توافُر السكن واقتناص فرص العمل وحدهما المعيارين الأساسيين ضمن متطلبات الحركة السكانية فيما مضى، لكننا نجد في هذا العصر واقعاً جديداً، فالناس تريد أن تعيش في المدن لا أن تسكنَ وتعمل فيها فحَسْب.
عمارة من أجل العمارة؟
وهنا ننتبه إلى حقيقة البون بين التخطيط للمدن، وبين العمارة من أجل العمارة، المفعمة بالهواجس المادية والربحية بعيداً عن محاولة خلق فضاءات مدينية حميمية، تهاجن الإنسان مع المكان، وتواشجه بعاطفة وشغف وشعور مرهف، مفعم بالتواد والتفهم والتجمل.
فإنشاء المدن ليس محض قرار سياسي، وأسلوب نمطي للتخطيط الحضري، وخطط للنسيج الشوارعي، وطُرز معمارية بعينها، وخامات بناء مستخدمة طبيعة أو صناعية، بما يرافق ذلك من خطط مالية واستثمارية، وتهافت عقاري، وسباق لاقتناص الفرص، ينبئ عن لبابة الوسائل والغايات، والسبب والنتيجة. فالمدينة تبقى وسيلة لغايات العيش المرفَّه، وفضاءً للحس والطمأنينة والفرح، وليست مصدراً تراكمياً للعبة رأس المال المؤرقة للخواطر، والمبدِّدة لهناء الشعور. وهنا نقف على الحاجة في خلق بُعد إنساني مرهف لمجتمع هانئ وصالح ومهادن، وبالنتيجة متفرِّغ للحالة الإبداعية، التي يراهن عليها في عملية الاستدامة البشرية التي تبقى الوسيلة والغاية، بل ويكرّس الانتماء للأرض وهي المواطنة الوجدانية التي تبحث عنها السياسات.
نسمي ذلك في حواراتنا (الأنسنة) humanization وفحواه تعزيز البُعد الإنساني في إبداع الظاهرة المدينية، كمبدأ أساس ضمن معايير جمالية وهندسية حداثية مستمدَّة من تراث المكان وهويته وثابته الثقافي التراكمي، بما يجعل الحياة أكثر جاذبية ويحقِّق السعادة للإنسان، وبما يحوِّلها من فضاء للأرض الخلاء، إلى مكان معمَّر ضمن مبدأ (إعمار الأرض) القرآني، ومن أجل استئناس الإنسان للإنسان. ويتحقَّق عملياً من توفير مرافِق وإضفاء لمسات محفِّزة وعناية بالخدمات المتنوِّعة وتطوير جوانب الالتزام القِيمي واحترام الغير من خلال طرق الاهتمامات الارتقائية في التواصل واللقاء والتحاور والتثاقف، ضمن سياقات الخطط وسياسات التطوير العمراني.
بيت كبير.. بيت صغير
الأنسنة لا تعني العناية ببؤر حضرية وأحياء خاصة ومواقع مصطفاة بعينها أو شوارع لأهميتها، بل حالة من الانفتاح في أنساق التواصل الاجتماعي المنساب مع عمومية تلك الأمكنة والأجواء والمساحات.. أي إن العناية بالجانب المادي لا يمكنه أن يسبغ توجهاً نفسياً وأنسنة إلا من خلال تغيير متعدِّد الأطراف والمقاصد، يجعل ممن يرمي القمامة في الشارع يخجل من فعله المشين، حتى بغياب الرادع القانوني، كون المكان تابعاً له، وهو بيته الكبير الذي يجب أن يعتني به ويرعاه ويحافظ عليه، مثل بيته الصغير. وهذا يؤسس لمفهوم التضامن والتكافل المجتمعي الذي هو أحد سمات الدين الحنيف، من خلال تجسيد مبدأ (لا ضرر ولا ضرار) النبوي، أي الوعي بالحدود بين الخاص والعام، وأن الجميع متفقون على مبدأ أن يكون حيُّهم ومدينتهم أجمل من بيوتهم الخاصة.
ثَمَّة جملة نواحٍ جمالية يشترك في إرسائها المجتمع المتعاون مع السلطات، أي التشجيع على المبادرة العامة وربط سياقات المشاركة من مختلف قطاعات الدولة والمجتمع، منسجمة مع بعضها، في تآزر بين مواطن ومسؤول وقوانين نابعة من حاجات ومصلحة عامة، تبحث دائماً عما يُكسب المواطن قناعة وجدوى وجود، بما يرفع من قيمته، ويكرِّس لديه التوجه الروحي والقِيمي، وهي مسعى مخلص يصب في غايات الأنسنة المدينية.
حريٌّ بنا الإشادة بالمعمار الذي يستوحي روح التراث قبل أشكاله ومفرداته، ففي الحياة العصرية كثيرٌ من المستجدات والمفاهيم التي لم تكن موجودة في التراث ضمن أنساق التطوُّر البشري، وهذا يلزم المعماري أن يكون مستلهماً فطناً ولبيباً لروح تراثه، وحسبنا أن الحياة البشرية محض مداميك تراثية، فما تركه الأسلاف هو تراث لنا، ولكن من يأتون من بعدنا سيجدون فيما نتركه لهم تراثاً كذلك، بما يوحي بأن الإنسان (كائن تراثي). وهذا يقتضي منا الحذر بما نقدِّم ونؤخِّر.
واقع القرن الواحد والعشرين
رصدنا أن المدن أمست تحقِّق غايات الراحة للمركبات وحركة السيارات والعناية بمواقفها، وشغلها مساحات إضافية قضمت ما كان مخصَّصاً لصانعها الإنسان، ومُوجدها لتكون وسيلة لا غاية، فالعناية بالشوارع والجسور ومعالجة التقاطعات أخذ بُعداً يُلغى فيه الفضاء العام. إذ ثَمَّة حاجة ماسَّة لخلق فضاءات بينية للقاء والتنزه ومرح الأطفال ولقاء الأصدقاء على هامش مساحاة مدروسة بعناية من جوانب الأمان والراحة والتفرد والعناية بالبيئة والخدمة المقدَّمة لمختلف الفئات.
يمكن أن تُفصَّل الأنسنة بحسب الرغبات والتوجُّهات وحتى الفئات العُمرية وطبقات الوعي بغرض ردم الفجوة بينها، أو إرساء حالة تفهم وتفاهم بينها. فلا يُعنَّف الطفل لأنه يلعب ويعمل ضوضاء في حديقة الدار أو أمام بابه في الشارع، إذا تسنَّى لنا أن نصنع له فضاءً وفرصة تسمح بتفريغ نشاطه في مكان عام مع أقرانه، ويتكفَّل المخطط بأخذ معايير السلامة بأقصاها. فثَمَّة أنسنات لكل فئة اجتماعية للأطفال وللشباب وللنساء وللبالغين ولكبار السن والشيوخ. كلٌّ منهم يتبع معايير بعينها من أجل أن يكتفي بحاجاته. وحريُّ أن نثبت بعض النقاط الجوهرية لبناء منظومات الأنسنة:
محاولة إيجاد حلول مثالية لمشكلة المركبات والازدحامات التي تؤرِّق أهل المدينة وتزيد في عصبيتهم، بل تكرِّس التلوث البيئي والسمعي. وضمن السياق نفسه لا بدَّ من استجداد حلول عملية لمشكلة مواقف السيارات.
- دمج مفاهيم المدينة الخضراء والاستدامة البيئية مع برامج الأنسنة في توجُّه مشترك ومتداخل وعضوي من خلال الدراسات العلمية والبحوث التطبيقية والاشتراطات في عقود الإنشاء الخاصة بالشركات الاستشارية.
- محاولة ردم الفجوة بين القرية والبادية والمدينة وضواحيها ولا سيما الطرفية وفي البؤر القديمة، من خلال شملها بنفس المبادئ التنظيمية التي يجعلها غير نابذة للعيش المؤنسن واستدامته، وذلك لدرء تجمعات القاع التي تُعدُّ بؤراً اجتماعية خطيرة على مستقبل حياة المدينة. فلا يؤمُّ الخرائب إلا الميَّالين للخراب.
- مهاجنة الحياة الفطرية والقروية ببعض مناطق المدينة لتنمية حسّ التواصل مع الطبيعة والكائنات وبساطة العيش، حيث نشاهد أن جلَّ العائلات تسافر للبر في عُطل نهايات الأسبوع والمناسبات، وهو مؤشر بحاجة للتوائم معه والبناء عليه وليس تحاشيه من خلال استجداد أماكن تُهيَّأ لهذا الغرض ويمكن أن تكون مصدراً تنموياً موازياً للنشاط الاقتصادي. وحري القول إنَّ الزائر يبحث عن الغريب والمثير والمختلف والأصيل، ولا ينبهر بما ألِف مشاهدته في بيئته، لذا ثَمَّة حاجة أن يكون منتج نابع من حالة إبداعية تتقمَّص روح التراث والثقافة المحلية وترتقي بها وتسعى لتكريس الذاتي ليس من أجل الاختلاف، بل بغرض المنافسة على قوة الحجة ورجاحة الفكرة والحلول المثالية التي تشكِّل ريادة، ومصدر اقتباس من الغير.
- محاولة إيجاد حلول مثالية لمشكلة المركبات والازدحامات التي تؤرِّق أهل المدينة وتزيد في عصبيتهم، بل تكرِّس التلوث البيئي والسمعي. وضمن السياق نفسه لا بدَّ من استجداد حلول عملية لمشكلة مواقف السيارات التي أمست تأخذ حيزاً كبيراً لكثرة السيارات المتداولة، بحيث توضع لها نظم محفِّزة لجعلها في قبوات المباني أو تخصيص بعض طوابقها كمواقف، من أجل ترك الشارع بحركة أقل للمركبات والرصيف حرٌّ للمشاة. وحسبنا أن تطوير وسائل النقل الجماعي كالحافلات والمترو كفيل بأن يحل الإشكال، ولا سيما إرفاق مواقف لركن السيارات عند محطات المترو المفصلية، كي تخفِّف من عددها.
- محاولة تنظيم وإعادة النظر بمفردات سادت، وأمست تقضم أوقاتنا ولا سيما أجملها، وهي الاستئناس بالأهل والأقارب والأصدقاء وزملاء العمل، ومجالس اللقاءات والمحاضرات والحوارات. وثَمَّة من يذهب إلى أن التقنيات الحديثة والأجهزة الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، والمدن الذكية تُعدُّ من المهدِّدات لمشروعات أنسنة المدن وتطوير ملكات الأماكن العامة التي يُراد منها اللقاء المباشر وليس من خلال شاشة تحمل عالماً افتراضياً مدعاة إغواء وإلهاء، ونأي عن التَّماس الروحي مع الناس، التي نعدُّها ممارسة على المحك للأنسنة.
- المراهنة على النشر والتثاقف والتوعية الحضرية والمعمارية التي تشيع المعلومة وترتقي بالوعي، لا سيما إذا كانت مفعمة بلغة ومفردات مبسَّطة، ولكنها ثريَّة بمحتواها من أجل إيجاد وعي ورأي ووجهة نظر عمومية يمكنها أن ترتقي بالحسّ وتكرِّس الشعور بالأنسنة، بما تضمنه تلك الارتقاءة من تحريكها لهواجس نقدية تستطيع أن تقوِّم ما يُبنى من الخواص والعموم. وهذا بحد ذاته يجعل الحوار مع العامة أمراً مستساغاً وفاعلاً وذا جدوى، كون الناس يعبِّرون عن حاجاتهم بإدراك واعٍ، يؤسِّس لمفاهيم وثوابت تجعل المخطط والمسيَّر أن يأخذها بالحسبان، بما يكرِّس حالة حوار، أي رفع الحواجز والفوارق بين مَنْ يسكن أبراج القرار العاجية، سواء مسيِّرين أو مخطِّطين، ويجعلهم يتعلمون من الناس، والناس ترضى بما يقدِّمونه لهم، وهذا الحوار الإيجابي المكرَّس لمبدأ الأنسنة.
- الحاجة لمواكبة تطوير المدن بشكلٍ متوازنٍ، فالمدن الوثَّابة تحتاج إلى تنويع القاعدة الاقتصادية من منظورٍ يراعي المكوِّنات البيئيةَ والاجتماعيةَ ويقدِّر التراث ويعترف به عنصراً اقتصادياً، بالإضافة إلى دوره الثقافي والاعتباري.وأن تكون المدن مرحبةً بالزائر لا طاردةً له، وميسِّرةً على المواطن حياته اليومية في الانتقال والحركة وتوفير الخدمات الأساسية، فالمواطن “كما أسلفنا” لا يريد أن يسكن في مدينة فحسب، بل أن يمارس حقه في أن يعيش فيها ويُسهم في إسباغ أجواء من الراحة والمتعة.
نتمنى أن نؤسس لهيئة عالمية تأخذ على عاتقها الارتقاء بمفهوم أنسنة المدن وتخصيص جائزة عالمية للمدن التي طبقت مبادئ معيارية بعينها، وليس المدن المئة الأحسن في العالم التي تتسابق لها المدن في قائمة سنوية. ونتمنى أن نجعل من العواصم العربية بؤراً نموذجية للأنسنة والوعي الحضري، من خلال حثِّ الخُطا لدراسة التحوُّل نحو مدن الجميع، التي لا تفرِّق ولا تفرِّط بمعطيات الحياة الكريمة، علماً أن المدينة الإسلامية تحاشت التقسيمات الطبقية التي فرضتها الحداثة، فشوَّهت مفاهيم ثقافية أخلاقية راسخة، عسى أن نستدركها.
جميل جدا ومقالات رائعه وجمل كانها من الف حرف لا من من ثمانيه وعشرون حرفا …الا انها تنصدم مع واقع حال العالم الان ..حيث اصبحت المدن الكبيره للمعامل والصناعات ..وتحول الريف الى مشاريع استثماريه….الزياده في السكان تتطلب زياده بالانتاج والتوسع بمصادر الغذاء …ولهذا ضروره حتميه..وعليه ستضعف انسانية الانسان بالارض او الموقع او محل السكن …لان الغذاء اولا وليس انسنة الانسان …تقبلوا فائق احترامي وتقديري