مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
2023

أكثر من رسالة

للراوية جلبابها الواسع


علي الصالح

قرأت ما نشره الكاتب أحمد السعداوي في مجلة القافلة، في العدد الماضي (العدد 700)، تحت عنوان “الرواية.. فن التواضع”، إذ استعرض رأي “جون برين” بخصوص كتابة الرواية الأولى التي أشار إلى أنها تبدو أشبه بالتنويعات على السيرة الذاتية. وبناءً على هذه الفرضية، فلا صعوبة تُذكر في كتابة الرواية الأولى، ولكن الاحترافية تبدأ مع الرواية الثانية وما يليها؛ لأن مادة الكاتب الشخصية محدودة وسيتحتم عليه أن يخرج إلى المجتمع ويجمع مادته منه.

المقالة مثيرة للتفكير حقيقة، لكنها تثير بعض التأملات. فهناك الكثير من الكتَّاب الذين لم تكن أعمالهم الأولى مستوحاة من حياتهم الشخصية بشكل رئيس، وإن كانت قد تُطعَّم بشيء من ذلك بالطبع. وهذا ظاهر في الكتّاب الذين بدؤوا مسيرتهم الروائية في مجال الروايات التاريخية أو الخيال أو التحريات.

على سبيل المثال، كتبت الروائية الشهيرة، آغاثا كريستي، روايتها الأولى “قضية ستايلز الغامضة” استجابة لتحدٍّ من أختها. ولا علاقة لهذه الرواية بالسيرة الذاتية للكاتبة، ولا نرى فيها محاولة لظهور هوية الذات أو صوتها على لسان أبطال روايتها.
أما من حيث استمرارية الأعمال، فيوجد أيضًا روائيون محترفون لهم مسيرة حافلة، وما زالت أعمالهم المتأخرة تتحدث عن تجاربهم الشخصية وبيئتهم المباشرة، أو النسق العام لأعمالهم من شخصيات وأحداث تتكرر حتى تكاد لا تختلف من بداية المشوار إلى نهايته.

ومن ناحية أخرى، فالنظرية قائمة بشكل عام على الاستقراء الناقص، ويبدو أنها منطقية مجملًا ويمكن قبولها. ومع ذلك، يمكن افتراض أسباب أخرى تدعو الكتّاب الجدد لأن يبدؤوا مشوارهم الروائي من مخزون تجربتهم وبيئتهم المباشرة. كمثال: يمكن تفسير هذه الظاهرة بأن الإنسان بطبيعة الحال سيتكلم عما يعرفه جيدًا، وليس لأن المسألة ترجع إلى نوع من الأنا المتضخمة. ولكن، هل فعلًا كل الكتّاب في البداية يختارون صيغة “المتكلم الأول” أو “سيل الوعي”، ويسترسلون في روايتهم من منطلق ميكانيكي فقط صادف أنه الوسيلة الأنجع للتعبير عن مخزونه العاطفي كما توحي المقالة؟ أعني أن الراوي، وإن كان غضًا، يُفترض أن لديه على الأقل إلمامًا مجملًا بصيغ السرد وكيف تُستخدم وأيها يختار، ولربما هو فعلًا اختار بعد تقييم تلك الآليات صيغة المتكلم الأول اختيارًا واعيًا، وإن كانت بطبيعتها قد توحي بالذاتية المفرطة.

وعمومًا ليس من التكلف أن نفترض أن جلّ من يمسك بالقلم ليكتب رواية، وإن كان مبتدئًا، يدرك تمامًا الفرق بين السيرة الذاتية والرواية، وأنه لو كان بصدد مجرد الكتابة عن سيرته الشخصية لاختار الأول.

ثمَّ هل يمكن فصل التجربة الشخصية عن هموم المجتمع؟ بحسب المقالة يمكن تبسيط المعادلة إلى أن الشعر هو صوت ذاتي، بينما السرد هو صوت المجموع. لكن من أين يأتي الفرد بمادته؟ التجربة الشخصية نابعة من المجتمع وهمومه. قد ينساق الراوي مع مشاعره وتجاربه، لكنها في النهاية هي نتيجة معطيات مجتمعه. فهل صوت الراوي مجرد صوت شخصي محض؟

لنفترض أن الراوي يكتب عن معاناته مع النظام البيروقراطي أو المؤسسي (الكوربرت)..إلخ، أو أنه فرد ضمن أقلية معينة؛ فهل هنا يمكن القول إن صوته مجرد صوت شخصي؟ بالطبع لا. فصرخة بطل الرواية من خواء الحياة الحديثة تمثل صرخة طائفة من المجتمع.

فإذا كان الأمر كذلك، يمكننا أن نتأمل في منطلق نضج الراوي الذي تتناوله المقالة، وأنه “منجذب هنا إلى معمار التجربة المتخيّلة التي يبتدعها… إن الرواية، على وفق هذا التأمل، هي مشغل معرفي، بقدر ما هي مشغل فنّي وبلاغي. إنها لا تعكس فقط خبرة الكاتب مع اللغة وإمكاناتها، وإنما انشغال الكاتب بالمجتمع وشؤونه ونماذجه البشرية…”. هذا المنطلق يبدو ضبابيًا؛ لأننا قلنا إن الكاتب وليد مجتمعه وهمومه، وهذا هو الواقع وجدانًا، فلا نكاد نرى عملًا روائيًا مبنيًا كليًا على التجربة الشخصية بحيث يقال إنه مجرد “مشغل فني وبلاغي” صرف. وإن كان قد يخيل في بعض الأحيان أن العمل شخصي صرف، إلا أن له جنبة أخرى تجعل منه عملًا عامًا.

كمثال رواية “جيمز إليس” التي تحكي قصة رجل “عدمي” يعمل خبازًا في أحد مخابز لندن، ثم ما يلبث أن تحصل له نقلة روحية فيعود مسيحيًا مؤمنًا. هذه الرواية في الوهلة الأولى مجرد تجربة فردية واقعية للكاتب نفسه، فهي أشبه بالسيرة الذاتية، إلا أنه يمكن أن يُنظر إليها على أنها تحكى حياة العدميين بشكل عام، ثم وصف التجربة الروحية التي يمكن أن يمسها كل إنسان مهما كان منغمسًا في ماديته، وهذا غرض الكاتب الأساس.

والذي ينبغي أن يُقال إن فنّ الرواية فنّ فضفاض يسع التجارب البشرية بأشكالها المختلفة، سواءً كُتبت بصوت فردي أو اجتماعي أو تاريخي أو معاصر أو تحليلي علمي أو خيالي أدبي، فما الحاجة إلى أن تُؤطر وأن يُقترح لها صوت مثالي معين؟ ختامًا، حياة الفرد لا يمكن أن تُختزل في قصة واحدة إذا كتبها وصل إلى “نهاية المطاف”، وإنما هي قصص وتجارب متنوعة كلٌّ منها يمكن أن يُحوّل مع شيء من الخيال والابتكار إلى رواية، أو كما قال “كامو” على لسان بطل روايته: “أدركت حينها أن الرجل الذي عاش يومًا واحدًا فقط، يمكن أن يعيش بسهولة مائة عام في السجن. إذ سيكون لديه ما يكفي من الذكريات كي لا يشعر بالملل”.


مقالات ذات صلة

ذا أردت أن تقرأ بفاعلية، فاقرأ كتبًا مُعمّرة، أي تلك الكتب القديمة المُتخمة بالدروس الحياتية طويلة المدى؛ كتبًا قديمة ذات قيمة عالية، مليئة بـ “الزبدة” والطاقة الكامنة للمعلومة، ذلك لأنها استمرت طوال السنين وقودًا لتقدم البشرية.

يقول أبو العلاء المعري في واحدة من قراءاته لمستقبل الطفولة: لا تَزدَرُنَّ صِغــارًا في ملاعبِـهِم فجائزٌ أَن يُرَوا ساداتِ أَقوامِ وأَكرِمـوا الطِّفلَ عن نُكـرٍ يُقـالُ لهُ فـإِن يَعِـشْ يُدعَ كَهـلًا بعـدَ أَعــوامِ المعري وهو الذي لم يُنجبْ أطفالًا؛ لأنَّه امتنع عن الزواج طوال عمره، يؤكد من خلال خبرة معرفية أهمية التربية في البناء النفسي للأطفال، […]

أتصور أن العلاقة بين الشخصيات الروائية والمكتبات المتخيلة في الرواية، تحفزنا إلى خيال أكثر صخبًا في العلاقة بين القارئ والشخصيات، أو بين القارئ ومكتبته المنزلية. عندما قرأت المادة المنشورة في مجلة القافلة لعدد مايو – يونيو 2023م، تحت عنوان “مكتبات الشخصيات الروائية.. تتبدل النظرة إليها بتبدل الأبطال”، تبادر إلى ذهني عندئذٍ هذا السؤال: هل ينعكس […]


0 تعليقات على “للراوية جلبابها الواسع”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *