مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير - فبراير 2023

الفلسفة في المملكة بين الواقع والمآل


د. عبدالله المطيري

من الملاحظات المهمة التي سمعتها من عدد من الفلاسفة الذين شاركوا في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة في ديسمبر 2021م، أن الحضور الغالب كان من غير المحترفين في الفلسفة. والمقصود بالمحترفين هنا هم أساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا تحديدًا. فالمعتاد في مؤتمرات الفلسفة في العالم هو أن يحضرها أسـاتذة الجامعات الذين يقدمون أوراقًا علمية في المؤتمر على أمل نشرها في مجلات علمية لاحقًا، وكذلك طلاب الدراسات العليا الذين يحاولون التعرّف على الوسط العلمي في مجالهم، وربما عرض محاولاتهم الكتابية في المؤتمر، حيث تُخصص جلسات معينة للأعمال في طور الإنجاز.

سيكون من النادر حضور أناس من خارج هاتين الفئتين إذا استثنينا النشاط التجاري المصاحب للمؤتمرات من الناشرين وجهات تسويق الكتب. في المقابل، كانت التجربة في المملكة، بحسب عدد من الفلاسفة المشاركين، تجربة اجتماعية، بمعنى أن نسبة كبيرة من الحضور كانت من أهل الاهتمام من المثقفين والكتاب في مجالات علمية متعددة ومتنوعة.

العودة إلى أجواء سقراط ومقاهي باريس

هذه الملاحظة تعني الكثير للفلاسفة الأكاديميين فهي تعيد لهم أجواء سقراط الأثيني وهو يتجوّل في المدينة منخرطًا في حوارات لا متناهية مع الناس. مشاهد حيوية دونتها محاورات أفلاطون وخرج من رحمها إبداع فلسفي يختلف عن المنتج الأكاديمي الحالي.

كذلك ربما تعيد لهم الأجواء الاجتماعية في الرياض أجواء مقاهي باريس والحراك الاجتماعي الذي رافق الوجودية في النصف الأول من القرن العشرين، واللقاء المهم بين الفلسفة والناس. هذه الأجواء الاجتماعية تكشف عن البعد غير الوظيفي للفلسفة أي أنها تكشف للفيلسوف الأكاديمي البعد الآخر من عمله وشغفه المرتبط مباشرة بالحياة دون اشتراطات العمل والحسابات الوظيفية والمالية.

وفي مايو الماضي، شاركتُ بدعوة كريمة من قسم الفلسفة بجامعة الكويت في مؤتمر فلسفي حول التواصل الاجتماعي وماذا يمكن أن تقول الفلسفة عنه. قسم الفلسفة في جامعة الكويت قسم عريق وله تاريخ مهم في الفلسفة المكتوبة باللغة العربية. نتذكر هنا الأساتذة عبدالرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وعبدالفتاح إمام وأحمد الربعي، وصولًا إلى الجيل الحالي من الأساتذة في القسم.

كثير من الملاحظات التي سمعتها هناك كانت تحيل إلى التجربة السعودية على أنها تجربة محفّزة وتبث طاقة عالية في المنطقة وتمتاز بحيوية لا تتوفر في الأقسام الجامعية. لفت انتباهي مشهد يفترض أن يكون طبيعيًّا، ولكنه لم يكن كذلك بالنسبة لي، مشهد طالب الفلسفة الذي يتوجه لمسرح الكلية الذي تقام فيه جلسات المؤتمر بناء على تكليف من أستاذ أحد المقررات؛ الطالب الذي يؤدي عملًا روتينيًّا. هذا المشهد طبيعي في الأوساط الأكاديمية، ولكنه كان لافتًا بالنسبة لي باعتبار أن الفلسفة ارتبطت عندي دائمًا بالشغف والرغبة الشخصية، وهذا هو الحال في النشاط الفلسفي في المملكة، حيث لا يحضر الناس بدافع من عمل نظامي أكاديمي، ولكن بدافع الحب والاهتمام، حب الحكمة الذي عرّفت به الفلسفة منذ تاريخها المبكّر.

تمثال للعالم والفيلسوف الإيطالي غاليليو غاليلي، في جامعة كوينز بلفاست، إيرلندا الشمالية

غياب الفلسفة أكاديميًّا

الظرف التاريخي في المملكة فرض على الفلسفة أن تتحرك اجتماعيًّا في ظل غياب الأقسام الأكاديمية في الجامعات السعودية، ولكن هذا الأمر في طريقه للتغيّر. البُعد الأكاديمي مهـم جـدًّا رغم سلبيات الغرق في التخصص والانفصال عن الحياة اليومية، وهو الأمر الساري في كل المجالات المعرفية اليوم وفي كل الجامعات مما يشكّل أزمة إنسانية كبرى. إلا أن التخصص والحِرفية واكتساب مهارات الإنتاج العلمي مهمة جدًّا في تقدم أي علم وفي توفير الشروط الأساس لقيام تقاليد ومجتمعات معرفية توفر حالة من الحوار والتبادل المعرفي الذي لا غنى عنه. السياقات الأكاديمية توفر شـرطًا مهمًّا للتواصل داخل الحقول المعرفية والقراءة المتبادلة ضمن معايير المعرفة، وتُسهم في إبعاد المجالات المعرفية قدر الإمكان عن الاحترابات الأيديولوجية التي تفتقد للإنصاف، وكذلك الهوس الإعلامي الذي يدفع باتجاه الإثارة أكثر من دفعه باتجاه الإنجاز العلمي الحقيقي.

البدايات مهمة جدًّا والبداية الاجتماعية للفلسفة في المملكة قد تلعب دورًا رئيسًا في عمل الأكاديمية الفلسفية في المملكة متى ما تحققت؛ بشرط أن يكون هناك اتصال بين التجربتين وألا تكون التجربة الأكاديمية منفصلة تمامًا عن المجتمع السعودي والحراك الفلسفي فيه.

التجربة الفلسفية السعودية محفّزة وتبث طاقة عالية في المنطقة وتمتاز بحيوية لا تتوفر في الأقسام الجامعية.

الحراك الفلسفي في المملكة

اليوم في المملكة لدينا حراك فلسفي مؤسسي خارج الجامعات تقوم به جهات مختلفة من جمعيات ومراكز أبحاث ومقاهٍ ثقافية برعاية ودعم حقيقي من هيئة الأدب والنشر والترجمة. لدى الهيئة، بقيادة الدكتور محمد حسن علوان وفريق العمل معه، وعي عميق بأهمية الفلسفة في المجتمع السعودي وباستحقاق هذا المجتمع لممارسة شغفه في هذا المجال.

وباعتبار عملي في جمعية الفلسفة السعودية، فإن الفرص الجديدة تتحقق بشكل متزايد. وتقع المسؤولية هنا على أهل التخصص والاهتمام والشغف في استثمار هذه الفرص بأفضل طريقة ممكنة.

ومن أهم ما يمكن القيام به في هذه الفترة ثلاثة اتجاهات أساس. أولًا: تطوير المهارات الأساس في العمل الفلسفي، وأعني بها هنا الكتابة والبحث والحوار، وهذا يتطلب برامج تعليمية وتدريبية تستهدف هذه المهارات بشكل خاص، وما يتصل بذلك من نشر ومشاركة في المؤتمرات.

ثانيًا: الاستمرار في فتح الباب للتّجارب الجديدة والأسماء التي تقدم نفسها لأول مرة، فهذه الفرص مهمة جدًا لأنها تحقق هدف “توريط” الباحثين في القول العمومي والمشاركة العامة في المجتمع بدلًا من الكتابة الخاصة أو في دوائر ضيقة. هناك وعي خاص بالدور المعرفي لا يتحقق برأيي إلا من خلال المشاركة العمومية، وعي يجعل الباحث ينظر لذاته وعمله من زوايا جديدة، من خلال عيون الآخرين، العيون التي تجمع النقد والمحاكمة وكذلك التقدير والأمل. هنا يتحقق أفق مختلف من المسؤولية التي تربط الإنسان بما يقول وبما يكتب.

ثالثًا: من المهم للفلسفة في المملكة المحافظة على العلاقة الوثيقة بالناس، وهذا يتطلب فتح الباب لمحبي الحكمة بغض النظر عن طبيعة هذا الحب. هذا يعني كذلك الحضور في المحافل والفضاءات الشعبية المختلفة.

تمثال للفيلسوف الأندلسي ابن رشد، في جامعة برشلونة، إسبانيا

أحلام قابلة للتحقق

لدي حلم بإنشاء المعهد العالي السعودي للفلسفة والعلوم الإنسانية، الذي يمكن أن يجمع مختلف العلوم المنشغلة بالإنسان كالفلسفة والأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع واللغة وفلسفات العلوم الطبيعية وغيرها من المجالات في مجلس واحد لتوفير فرص الحوار والعمل المشترك بين المشتغلين في هذا المجال. مثل هذا العمل يحمل في رحمه إمكانية ولادة مشهد ثقافي نوعي في وقت أصبحت الحاجة فيه ماسّة للعلوم الإنسانية التي يمكن أن تساعد في الجواب عن الأسئلة الكبرى التي تفرضها التحولات التقنية والعلمية والبيئية والاقتصادية التي تواجهها الإنسانية اليوم.

ما يعوّل عليه في نهاية الأمر هو الصدق الكامن في النشاط الإنساني. هذا الصدق يتمثّل في النية المخلصة المحركة للنشاط الفلسفي في المملكة. حتى وإن كانت الفلسفة نشاطًا عقلانيًّا إلا أنها قبل ذلك “حب” للحكمة، حب للخير بمعناه العميق. هذا الحب الكامن في نشاط المهتمين بالفلسفة كفيل بفتح نوافذ المستقبل للجديد والمختلف، وبهذا يكون مصير الفلسفة في المملكة مرتبطًا ببابها المفتوح للذوات المحبّة للمعرفة والخير، الذوات التي تحضر وفي أيديها إمكانات جديدة، فرصةٌ للقاء والتعارف والعمل المشترك، فرصة للسؤال المُشكل الذي يحمل في داخله ترحيبًا ما، فرصة للنقد والاعتراض الصادق والجذري الذي يحمل في داخله اعتذارًا للآخر وتفهّمًا له. بهذا قد يكون مآل الفلسفة السعودية مرتبطًا ببابها المفتوح الذي ينادي: “مرحبا، اقلط، المحل محلك!“.


مقالات ذات صلة

خلال أمسية شعرية ضمَّت مجموعة من الأسماء، ألقى محمد الفرج في الجولة الأولى قصيدته وهو يمشي بين الحضور، متوجهًا إلى جمهوره بالكلام، ونظنه تعثَّر في قدم أحدهم. ولكنه استفاد من الإمكانات الأدائية الكبيرة التي يوفرها له دور الحكواتي الذي اعتاد القيام به؛ إذ إن الفرج فنان تشكيلي وحكَّاء إلى جانب كونه شاعرًا. غير أن مقدِّمة […]

صاحب حركة النهوض التي عاشتها الثقافة العربية، أثناء القرن التاسع عشر وامتدادًا إلى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفق عدد من المفاهيم أوروبية المنشأ التي قُدّر لها أن تغيّر مسار الثقافة العربية نتيجة لجهود العديد من المترجمين والباحثين والمفكرين لا سيما من تعلم منهم في أوروبا أو أجاد لغات أجنبية. وهذه المفاهيم كثيرة ومتنوعة تمتد […]

كان التقاء الكلمة -النص الأدبي- مع الصورة السينمائية والسينما في سنواتها المبكرة أشبه ما يكون بالتكرار والامتداد لالتقاء الكلمة والصُوَر “الرسومات”، التي نحتها الإنسان في الأزمنة الغابرة على جدران الكهوف، وكان وراء التقائهما حاجة الإنسان إلى التعبير عن مشاعره ومخاوفه وتوثيق تجربته التي لم تكن سهلة في مواجهة الطبيعة. ويمكن القول إن الحاجة لدى السينمائيين […]


0 تعليقات على “الفلسفة في المملكة بين الواقع والمآل”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *