مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو - أغسطس 2023

أكثر من رسالة

مستقبل الموسيقى في فوضى النشر الرقمي


د. محمد الإدريسي

خلال شهر مارس الماضي، أصدرت “الفيدرالية الدولية للصناعة الفونوغرافية” (IFPI) “تقرير الموسيقى العالمية”، (Global Music Report 2023). وجاء هذا التقرير في ظل وضع اقتصادي وسياسي دولي مضطرب من جهة، وفي سياق التعافي البطيء من صدمة جائحة كورونا من جهة أخرى، وكذلك في لحظة تعمق السجالات العلمية والفلسفية حول مستقبل الإبداع الإنساني في وسط طفرة الذكاء الاصطناعي العالي. لكل هذا تحظى نتائج التقرير ومخرجاته باهتمام كبير من صُنَّاع الموسيقى العالمية على السواء.

تحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة؛ اسم الملف هو back-view-woman-home-using-headphones-tablet-1024x683.jpg

استطاع قطاع الصناعات الموسيقية أن يُنقذ نفسه خلال نهاية القرن الماضي، ويحافظ على أرقام معاملات مهمَّة ونمو متواصل طيلة العقدين الماضيين. بطبيعة الحال، يرجع جزء كبير من هذه الطفرة الكمية إلى إمكانات الثورة الرقمية، في الأساس، واحترافية القطاع على حساب الشروط الفلسفية والإنسانية للإبداع الفني والموسيقي. لكن صدمة الجائحة أثبتت هشاشة مقولات الاحترافية، وذلك بعد أن وجدت نسبة كبيرة من الفنانين وصُنَّاع الموسيقى نفسها في بطالة قسرية، تماشيًا مع قوانين السوق المفتوح، وتأثير رأسمالية الميديا والصناعات الترفيهية المعاصرة. وبعد طفرة الذكاء الاصطناعي بات مستقبل الإبداع الموسيقي موضع تشكيك.

الخطر الحقيقي المتربص بمستقبل الصناعات الترفيهية عمومًا، والصناعات الموسيقية خاصة، يكمن في الشروط الموضوعية لإنتاج عالمي الإبداع والاستهلاك. فهل الموسيقى الجيدة، جيدة فنيًا أم استهلاكيًّا؟ وهل المستهلك نفسه يستهلك الموسيقى كفعل إبداعي خالص أم يقبل عليها مدفوعًا بسلطة الخوارزميات الرقمية وثقافة “الكلاوت” (التسابق على الشهرة)؟

تظل الأذواق الفنية والإبداعية بناءات اجتماعية وثقافية تختلف بموجبها معايير الحكم الجمالي باختلاف الشروط الذهنية والموضوعية لدى الأفراد والجماعات. لكن، مع ذلك، فقد تحوَّلت إلى بناءات اقتصادية بالضرورة.

أضحت منصات “الستريمنغ” فاعلًا رئيسًا في تحديد المخططات الموسيقية وبناء الوصفات السحرية للنجاح الفني. كلما حقَّقت أغنية أو ألبوم موسيقي مئات الملايين من المشاهدات، بشكل حقيقي أو مصطنع، فإنها ستحقق النجاح. وأصبحت الخوارزميات الرقمية تقترح الأغاني الأعلى مشاهدة أو تقييمًا على أنها “المقاطع الجيدة”، في حين تدفع الأقل مشاهدة صوب خانة “غير المرغوب فيها”. وعلى هذا الأساس، بدأت “تُصنِّع” المحتويات الموسيقية، إلى درجة أنه يصعب على الأذن غير الفنية التمييز بين المقومات “الميسيكولوجية” لمختلف الأغاني والألبومات الأكثر مشاهدة وتقييمًا، رقميًا، خلال السنوات العشر الأخيرة.

هناك تراجع في نِسَب مشاهدات الإبداعات الموسيقية في منصة “يوتيوب”، مع انتشار “تيك توك” والمقاطع القصيرة، وسيطرة قوانين السوق المفتوحة وصناعة النجومية بمنصة “سبوتيفاي”. انخرطت الصناعة في سياق الاجترار وفقدان الحس الفني من داخل القطاع الترفيهي نفسه، وإن كان الأمر مشتركًا بين قطاع الصناعات الموسيقية والصناعات السينمائية والتلفزيونية.

في الواقع، وفيما وراء الأرقام والإحصاءات التي تجعل من مستقبل الموسيقى رقميًا بالأساس، توجد بوادر أزمة حقيقية في قادم السنوات والعقود. ويذكرنا التاريخ دائمًا بأن الإفراط في تسليع الصناعات الإبداعية، مثل صناعة “الكومكس” والصناعات السينمائية والموسيقية، لا ينتهي بنهاية هذه الصناعات فقط، وإنما بزوال المعنى الوجودي من وراء ظهورها في الأصل في المستقبل القريب.

تماهي الموسيقى والرقمنة

يُشير التقرير إلى أن الصناعة حقَّقت رقم معاملات تجاوز 26 مليار دولار سنة 2022م، بنسبة نمو وصلت إلى %9 مقارنة بالسنة الماضية. للمرة الأولى، ومنذ سنة 2001م، تحقق مبيعات التسجيلات المادية ارتفاعًا طفيفًا (4.6 مليار دولار)، بنسبة لا تتجاوز %17.5 من رقم معاملات القطاع. بطبيعة الحال، قد لا يتعلق الأمر بنمو ملحوظ، مقارنة بـ4.4 مليار دولار خلال سنة 2021م، إلا أنه يشير إلى نتيجة حتمية لبدايات فقدان الثقة في مستقبل الإبداع الإنساني في ظل تطوُّر وتيرة تماهي الموسيقى مع الذكاء الاصطناعي المحاكي للفعل الإنساني من جهة، وتزايد نطاق سوق الإنتاج الموسيقي الفردي الشبابي من جهة ثانية، واستمرار مسلسل تهميش صُنَّاع الموسيقى الأقل انتشارًا في سياق قوانين السوق المفتوحة من جهة ثالثة.

تآلف الموسيقى والرقمنة والذكاء الاصطناعي ليس وليد اليوم. في الواقع، لا يمكن فصل تاريخ الموسيقى المعاصرة عن سيرورة التصنيع، والتحضر والتقانة. ففي ظل تراجع ثقافة المجموعات الموسيقية لصالح الأداء الفردي، اعتمدت جلُّ أنماط الموسيقى الشبابية الحضرية، بدءًا بـ “تراب” إلى “ريغيتون”، على هندسة المحاكاة الموسيقية والإيقاعات الرقمية (DJ, 888 Mixer-recorder) ومحسنات الصوت (Autotune) وغيرها، وباتت الموسيقى صناعة رقمية بامتياز. وعلى هذا الأساس، وبقدر سيطرة الذكاء الاصطناعي على مدخلات ومخرجات هذه الصناعة، ينحصر تدخل العنصر البشري بالشكل الذي تضعف معه وتيرة تطور الإبداع الإنساني وتهيمن النمطية.

لقد بلغ رقم معاملات منصات “الستريمنغ” حوالي 18 مليار دولار، أي %67 من حجم الصناعة خلال سنة 2022م، ويظل هذا الرقم مرتفعًا ومرشحًا للتطور في سياق رهان مختلف الفاعلين على تآلف أسس الاقتصاد الرقمي للموسيقى مع تحوُّلات الثورة الصناعية الخامسة. والمدهش في الأمر أن حوالي نصف العائدات قادمة من اشتراكات الستريمنغ.

يُقارب عدد المشتركين في الباقات التي توفرها منصات “الستريمنغ” الموسيقي (سبوتيفاي، أبل موسيقى، يوتيوب، ديزر، أنغام…) حوالي نصف مليار مستخدم نشط. ويعكس هذا الرقم عائدات تقارب 13 مليار دولار. لكن، فيما وراء هذه الأرقام، لا يتآلف الانتقال نحو الاقتصاد الرقمي للموسيقى مع “مهننة” حقيقية للقطاع.

ما زال الفنان، خاصة من فئة الشباب، الحلقة الأضعف في معادلة الانتقال الرقمي. فهو لا يستفيد كثيرًا من صغار المبدعين وصُنَّاع الموسيقى المهمشين، سوى من عقود عمل هشَّة تُترجم في شكل فتات من كعكة الصناعة. وبين بيروقراطية القطاع وهيمنة الشركات الكبرى، تحصد بعض الأغاني ملايين المشاهدات تترجم في شكل ملايين الدولارات كعائدات لشركات الإنتاج، ولا تتجاوز نسب أرباح الفنانين منها %10، ويفقدون في الغالب حقوق أعمالهم، وإلى جانب ذلك تنتهي مسيرة آخرين قبل أن تبدأ.

مخاوف المستهلكين

تُثير برامج الذكاء الاصطناعي العالي مثل “شات جي بي تي”، كمدخل أولي لمستقبل البرمجيات ذاتيـة التعلُّم وربما الوعي الاصطناعي، مخاوف المستهلكين وصنَّاع الموسيقى على حدٍّ سواء، من مستقبل تكون فيه الآلة الذكية أو الواعية قادرة على إنتاج وإبداع “الفن” والقضاء على مئات المهن والوظائف بالموازاة مع إفراغ فعل الإبداع من حمولته الإنسانية والفنية.

وفي سياقنا العربي، ما زال الوضع مربكًا للغاية. ليست هناك “مأسسة” حقيقة لقطـاعٍ احتل المرتبة الثالثة في قائمة الأسواق الأكثر نموًا خلال سنة 2022م.

تهيمن موجة الإنتاج الفردي واستثمار الشركات في نجوم العالم الرقمي وضعف التمثل الجمعي لمكانة الاقتصاد الرقمي للموسيقى في التنمية الشاملة، على شروط إنتاج الصناعة. لذلك، ليس بغريب أن تقوم السوق العربية في %95 من عائداته على ثقافة “الستريمتغ”. في الواقع، تُظهر نظرة خاطفة على سوق أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، الأكثر استثمارًا في الهوية الثقافية المحلية، أن الموسيقى العربية قد انخرطت في أزمة معنى، مرافقة لسيرورة تهجين الإبداعات الشبابية الحضرية، وصناعة النجومية الرقمية. يجب أن نطرح على أنفسنا السؤال حول مستقبل هذه الصناعة، الذي تأخرنا في طرحه فلسفيًا واقتصاديًّا.


مقالات ذات صلة

رأت ما نشره الكاتب أحمد السعداوي في مجلة القافلة، في العدد الماضي (العدد 700)، تحت عنوان “الرواية.. فن التواضع”، إذ استعرض رأي “جون برين” بخصوص كتابة الرواية الأولى التي أشار إلى أنها تبدو أشبه بالتنويعات على السيرة الذاتية.

ذا أردت أن تقرأ بفاعلية، فاقرأ كتبًا مُعمّرة، أي تلك الكتب القديمة المُتخمة بالدروس الحياتية طويلة المدى؛ كتبًا قديمة ذات قيمة عالية، مليئة بـ “الزبدة” والطاقة الكامنة للمعلومة، ذلك لأنها استمرت طوال السنين وقودًا لتقدم البشرية.

يقول أبو العلاء المعري في واحدة من قراءاته لمستقبل الطفولة: لا تَزدَرُنَّ صِغــارًا في ملاعبِـهِم فجائزٌ أَن يُرَوا ساداتِ أَقوامِ وأَكرِمـوا الطِّفلَ عن نُكـرٍ يُقـالُ لهُ فـإِن يَعِـشْ يُدعَ كَهـلًا بعـدَ أَعــوامِ المعري وهو الذي لم يُنجبْ أطفالًا؛ لأنَّه امتنع عن الزواج طوال عمره، يؤكد من خلال خبرة معرفية أهمية التربية في البناء النفسي للأطفال، […]


0 تعليقات على “مستقبل الموسيقى في فوضى النشر الرقمي”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *