مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر – ديسمبر | 2021

الشيخ راشد آل خليفة..
فنانٌ بالفطرة ومُولعٌ بالتفاصيل


عبدالوهاب العريض

رسم لوحته الأولى عندما كان في المرحلة الثانوية، قاده الشغف لدراسة التصميم بداية السبعينيات في المملكة المتحدة البريطانية، وعاد الشيخ راشد بن خليفة آل خليفة في منتصف السبعينيات ليمارس حياته العملية والفنية في مملكة البحرين، حيث عمل في عدد من المناصب الحكومية منها وكيل وزارة الإعلام للسياحة، ووكيل وزارة الداخلية للهجرة والجوازات، في عام 2021م تم تكليفه ليصبح رئيس المجلس الوطني للفنون.
لا توقفه المدارس الفنية، فهو من عشَّاق التجريب، والذهاب في أعماق الفكرة المبتكرة، أقام عشرات المعارض الشخصية داخل وخارج البحرين، كما شارك في مئات المعارض الجماعية. الشيخ راشد ليس مجرد رسّام تشكيلي فقط، بل يُعدّ كذلك من أهم المقتنين للأعمال الفنية في البحرين، فمؤسسته وحدها تضمّ ما يزيد على ألفي لوحة ومجسَّم فني، إذ إنه أعاد تصميم بيت العائلة ليتحوَّل إلى متحف فني (شخصي)، حيث زارته “القافلة”، وحاورته عن بداياته، وكيف تعلَّق باللوحة الفنية وعَشِقَ الجَمَال، عن مشاركاته الخارجية والمحلية، وكذلك عن رؤيته لمستقبل الفنون في مملكة البحرين ودول مجلس التعاون الخليجي.

بدايات حُبّه للرسم واتجاهه الفني، ذلك ما استفتح به الشيخ راشد آل خليفة، حديثه مع “القافلة”، ليعود بالذاكرة إلى فترة دراسته للمرحلة الثانوية، وهو بذلك يَعدُّ المدرسة التي دَرَس فيها بمثابة معلِّمه الأول، مُرجعاً الفضل في دفع موهبته الفنيّة للنجاح إلى الأستاذ عبدالكريم البوسطة – رحمه الله -، الذي قال إن له دوراً بارزاً وكبيراً في دعمه وتشجيعه على الرسم والعمل التشكيليّ، هو وبقية زملائه الطلَّاب، فقد كان يحثّهم على ممارسة الرسم في حصته، ويحرص على إعطائهم حصصاً إضافية لهذا الغرض مرَّة أو مرَّتين كل أسبوع، مضيفاً أنه لا يزال يذكر أول لوحة رسمها، حيث كانت من خلال (بوستر) أعطاه له الأستاذ عبدالكريم كي يقوم برسمه. فإلى بقية الحوار:

• حدِّثنا عن دور المدرسة في دعم اتجاهاتك الفنية؟
كانت وزارة التربية والتعليم في تلك الفترة تنظِّم معرضاً سنوياً لطلبة المدارس، وفي عام 1968م كنت أحد المشاركين معهم في المعرض، الذي كان برعاية رئيس دولة البحرين الشيخ عيسى بن سلمان – رحمه الله -، وقد شجَّع جميع المشاركين حينها، وكان مما يقوله لنا “كفو عليكم يا عيال ممتازين بارك الله فيكم”، حيث كانت كلماته تلك بمثابة تحفيز كبير لنا، لأن سماع مثل تلك الكلمات تبعث على التشجيع والتحفيز، خصوصاً أنها تأتي من حاكم البحرين في ذلك الوقت. لم أتجاوز حينها سن الخامسة عشرة، وقد تواجد في ذلك المعرض أيضاً رئيس الوزراء – المرحوم – الشيخ خليفة بن سلمان، الذي سألني: ماذا تفعل؟ فقلت له: أنا أرسم. فقال لي: “ماشاء الله عليك ولا تتوقف عن الرسم”. وأذكر أنني خرجت من المدرسة في ذلك اليوم متوجهاً للمنزل، وحدث أن رأيت مشهد الغروب، وتذكرت كلمة الشيخ
خليفة بن سلمان ونصيحته لي بألَّا أتوقف عن الرسم، فشعرت بأن تلك الكلمات بمثابة رسالة لي في مثل هذه اللحظة، فأخذت أرسم وأرسم.

ذهبتُ بعد المرحلة الثانوية للدراسة في بريطانيا، وتخصَّصت في التصميم، لكنني توقفت عن الرسم، وعندما عدت للبحرين، وصادف أن التقيت بالفنان التشكيلي راشد العريفي – رحمه الله – الذي سألني: لماذا لا تشارك معنا في المعارض الفنية؟ وكنت وقتها مشغولاً بمجال التصاميم وتركت الرسم، لكن طلب العريفي أعاد شحن طاقتي، وجعلني أعود من جديد لمجال الرسم، وكان العريفي ومعه التشكيلي عبدالكريم العريض والدكتور أحمد باقر، بمثابة المشجِّعين والمحفِّزين الجُدد لي، وأذكر أنني كنت أذهب لمحل أستاذنا عبدالكريم العريض في سوق المنامة القديم، لعمل براويز للوحات، وكان دائماً يشجِّعني للغاية، وأعتقد أن مثل هذا التشجيع مهم للغاية في مجالنا.

جزء من جدار بيت العائلة الذي تحوَّل إلى متحف فني.

بداية الانطلاقة

• وماذا عن بداية مشاركاتك الفنيّة عقب عودتك من بريطانيا وبداية انطلاقتك الحقيقية؟
توقَّفت عن المشاركات منذ عام 1975 وحتى 1980م، وقد كانت تلك الفترة بمثابة فترة جمود جاءت بعد نشاط كبير، فقد أقمت معرضي الشخصي الأول في عام 1970م، وقبلها شاركت مع مجموعة من الفنانين في معرض جماعي عام 1969م، وذلك بمناسبة افتتاح فندق الخليج، وبعتُ في هذا المعرض عدداً من اللوحات، كان سعر اللوحة منها يقارب 25 ديناراً بحرينياً، حيث كانت رسوماتي حينها مستوحاة من الطبيعة (البحر والبيوت والبساتين).

• أين كان مرسمك الأول؟
كان مرسمي الأول في منزلنا الذي شُيِّد في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، والذي تربَّينا وعشنا فيه، في ذلك البيت كان مرسمي الأول، أما المرسم الثاني فقد قمت ببنائه بعد عودتي من بريطانيا، حيث بنيت محترَفاً خاصاً بالرسم (لم أستخدمه) في هذا المنزل الذي قمت بتحويلة إلى مؤسسة فنية، يحتوى على مئات اللوحات وكثير من المجسمات التي قمتُ باقتنائها خلال الأربعين سنة الماضية، وكذلك كثير من أعمالي الفنية التي سبق عرضها، وأخرى لم أشارك بها في المعارض، وفي بداية الثمانينيات طلبت وزارة الإعلام البحرينية منّا (الفنانين التشكيليين في البحرين) إنشاء جمعية خاصة بالفن التشكيلي، على أن تقوم الوزارة بدعمنا، وبالفعل أقمنا جمعية الفنون التشكيلية، وصرت أرسم فيها، فتحوَّلت إلى مرسم جماعي لي ولزملائي الفنانين.

الطبيعة جميلة في كل مكان، لكن التفاعل معها يختلف من فنان لآخر، فكل عين ترى المنظر الجميل، لكن التفاعل معه والتعبير عنه برسم أو بعمل فني قد يتفاوت، وأنا شخصياً لم أتفاعل مع ما هو خارج البحرين.

• نستطيع القول إن العودة كانت مطلع الثمانينيات، والبداية الفعلية للدخول في عالَم الفن التشكيلي كانت من خلال الجمعية.. حدِّثنا عن مرحلة إنشائها؟
كما سبق أن ذكرت أن وزارة الإعلام طلبت منا إنشاء جمعية سمَّيناها “جمعية البحرين للفنون التشكيلية”، وساعدتنا الوزارة على إنشائها، وقمنا بعمل الكثير من أوجه النشاط في حينها، كما ظهرت بعد ذلك جمعية أخرى هي “جمعية الفن المعاصر”، التي أقامت عدداً من المعارض، ولديهم عدد من الفنانين المتميِّزين الذين يملكون طموحاً ونشاطاً كبيرين، ولديهم الرغبة في التطوُّر، وقد حضرت معرضهم الأخير وانبهرت من مستواهم الفني الذي يتطوَّر باستمرار.

علاقته مع اللوحة والطبيعة

• انقطعت ما يقرب من سنوات خمس عن الرسم.. خلال تلك السنوات الخمس كيف كانت علاقتك مع اللوحة التشكيلية؟
دعني أقولها بصراحة: كانت اللوحة التشكيلية في تلك الفترة موجودة معي في داخلي، وأنا موجود معها، لكنني لم أكن حينها أمارس العمل الفني، وكان انشغالي خلال فترة دراستي في بريطانيا يبعدني عن مجرد التفكير بالرسم، لكن بمجرد ما أعود إلى البحرين أشعر بحالة من الرغبة في الإبداع والعودة للمرسم، فهذه الأرض الطيبة تجعلني أحنّ إلى الرسم، وأذكر أنني عندما كنت أسافر في طريق العودة إلى بريطانيا، أحرص على اصطحاب أوراق وأدوات معي للرسم، ولكن عبثاً حاولت، فلم تكن رغبتي قوية في الرسم خارج البحرين، ولديَّ عدد من اللوحات التي حاولت أن أرسمها في بريطانيا لكنها من وجهة نظري أعمال غير مكتملة، ولم تخرج بالشكل الذي يرضيني.

• هنا يحضرني سؤال حول الطبيعة والألوان في منطقتنا العربية، هل تختلف عن الطبيعة والألوان في الغرب؟ وهل الطبيعة في البحرين تحديداً أكثر إلهاماً مما هو خارجها؟
دعنا نعترف أن الطبيعة جميلة في كل مكان، لكن التفاعل معها يختلف من فنان لآخر، فكل عين ترى المنظر الجميل، لكن التفاعل معه والتعبير عنه برسم أو بعمل فني قد يتفاوت، وأنا شخصياً لم أتفاعل مع ما هو خارج البحرين. وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى انطباع كل فنان عن المكان الذي يرسم فيه، فهناك مثلاً الانطباعيُّون الذين تأثروا بطبيعة إفريقيا بسبب الضوء والشمس الساطعة هناك، وكثير من الفنانين الفرنسيين، خاصة من يرسم عن الطبيعة، ذهبوا لجنوب فرنسا سعياً لإدخال الضوء إلى لوحاتهم، حيث كان الفنانون الذين يرسمون في الشمال الفرنسي يتميَّزون باللوحات الداكنة، وحينما ذهبوا للجنوب رأوا أن ذلك هو المكان المناسب لرسم الحياة بتفاصيلها.

المدارس الفنيّة

• وصلتَ اليوم لمرحلة متقدِّمة من الإبداع الفني.. حدِّثنا عن مشاوير الإبداع في حياتك الفنية ما بين المدارس الانطباعية والتجريدية وغيرها؟
من وجهة نظري فكل أسلوب له جمالياته الخاصة، ولهذا أحب أن أرسم بجميع الأساليب، ولا أحب أن يتم حصري في أسلوب بعينه، لكلِّ لونٍ ولكل أسلوب رونق جمالي وذوق فريد، وهذا يرجع إلى الإنسان في حياته الطبيعية، فحتى في الأكل والطعام لكل صنف طعمه ومذاقه وامتيازه الخاص، لهذا لا أرغب في القول إنني لا أحب الانطباعيين أو لا أحب السرياليين أو لا أحب الكلاسيكيين، فلكل نمط زاوية جمالية قوية، وينطبق ذات الشيء في مختلف شؤون الحياة، كل مجال يرسم فيه الفنان يستطيع أن يبدع فيه وأن ينتج من خلاله فناً راقياً.

• يلاحظ كثير من النقَّاد بأنك دقيق في اختيارك للألوان، وأنها تمتلئ بكثير من البهجة، فكيف تختار ألوانك في اللوحة؟
هو اختيار مردّه الذائقة الشخصية، إذ إن عيني هي التي تختار اللون المناسب، وتتطابق رغبة عيني مع إحساسي باللون، وبطبيعة الحال فمن الناحية التكتيكية يتعلَّم دارسو الفنون في الكليات والجامعات بعض الإشارات في اختيار الألوان، بحيث يستوعب الدارس الألوان التي تنسجم مع بعضها بعضاً، ويقوم بتنسيقها ومزجها وتركيبها بجانب بعضها بعضاً، لكن الفنان أولاً وقبل كل شيء هو الذي يشعر باللون المناسب للوحة.

بطبيعتي أنا عاشق للجمال، وأراه وألتمسه في كل شيء، ففي الحقيقة لا أكاد أجد شيئاً خالص القبح، وإنما أرى في كل شيء جانباً جميلاً ونقطة ذات بُعد جمالي يمكن التركيز عليها.

• هنا نتساءل.. هل دراسة وتأسيس الفنان أكاديمياً أمر مهم؟
هذا سؤال لم يتم الاتفاق على إجابته حتى يومنا هذا، ولا يستطيع أحد أن يقطع بإجابة جازمة عليه، فإن قلنا إن التأسيس الأكاديمي للفنان صحيح، سيقول لك البعض “لا”؛ بدليل أن كبار الفنانين الذين سبقونا لم يتعلَّموا، وعلى الرغم من ذلك أبدعوا، وعلى الجانب الآخر نجد بأن هناك فنانين كانت بدايتهم ضعيفة، ولكن حينما صقلوا موهبتهم بالتعليم الأكاديمي أبدعوا، لذا أرى شخصياً أن الصواب هو في التوسط بين الحالين، فلا يجب أن يكون الفنان أكاديمياً بكل تفاصيله ويؤدي عمله كالآلة، ولا يجب أن يبتعد تماماً عن التعليم الأكاديمي، بل عليه أن يتعلَّم الأساسيات، فالله سبحانه وتعالى وضع في الحياة مقاييس للتوازن في كل شيء، وكل شيء بقدر موزون كما يخبرنا القرآن الكريم، وحتى إن الإغريق على سبيل المثال تأملوا الجوانب الجمالية في الأشياء وتوصلوا إلى اكتشاف كيف يكون الشكل جميلاً، فالجمال له قياسات هندسية معيَّنة ودقيقة، وهذه القياسات الموزونة إذا أدركها الإنسان فإنه سيُبدع في مجاله، وفي كل شيء يدخل “التصميم”، تجد أن الجماليات بداخلها موزونة وكذلك في توزيع الألوان وتوزيع الكتل والفراغات المتروكة فيما بينها لها قياسات وقد يجد المبتدئ مشكلة في التعامل معها لكن رويداً رويداً يصبح قادراً على الإبداع، وأما إن كانت دراسته أكاديمية بحتة فإنه سيجد صعوبة في الإمساك بالفرشاة والرسم.

• هل يمكن في هذا الإطار اعتبار الأكاديمي فناناً؟
حتى نهاية السبعينيات كانت الجامعات لا تقبل أي طالب في مجال دراسة الفنون إلا من يثبت أن لديه مستوى عالياً من الموهبة والحِرَفية، فكان من متطلبات القبول أن يمتلك الطالب موهبة قوية، ولهذا السبب كان هناك عزوف كبير عن الدراسة الأكاديمية في مجال الفنون، خاصة في ظل دخول التكنولوجيا إلى المجال الفني، أصبح الطلاب يُقبلون على التخصصات الأخرى، وهنا وجدت كليات الفنون بأن عدد الطلاب بدأ يقل، حينها قاموا بتسهيل إجراءات القبول، وبدأوا يسمحون بقبول الطلاب غير الموهوبين، ومن المفاجئ أن تلك الطريقة خرَّجت فنانين كباراً، وصنعت أسماءً معروفة عالمياً في مجال الرسم.

علاقة الفنّان بالثقافة

• يلاحظ أن الجانب الثقافي لدى الفنان الغربي مختلف كثيراً عن فناني المنطقة العربية.. هل ثقافة الفنان مهمة؟
من الصعوبة المقارنة ما بين الفنانين في الغرب والعالم العربي، إذ إن الغربيين منهم يعيشون حالة فنية متقدِّمة، فنحن نجد المواطن الغربي العادي يتحدَّث عن المدارس الفنية بوجهة نظر نقدية، ولديهم شغف مبكر بالفنون، وتنظِّم كثير من العائلات في تلك المجتمعات زيارات أسبوعية للمتاحف، يتحدثون مع أبنائهم عن التاريخ والشِّعر والفكر، حيث يقومون بزراعة الشغف فيهم وتنمية ذائقتهم الفنية، وكذلك بالنسبة للمؤسسات التعليمية التي تقوم بتأسيس الأطفال على حُبّ الفن والثقافة، وهذا ما نجده غائباً أو ضعيفاً في عالمنا العربي، بينما بدأ بعضنا يتنبه لأهمية ذلك الجانب، فأصبحوا يصطحبون أبناءهم لزيارة المتاحف والمعارض الفنية، لذا علينا أن نسعى لتنشئة أبنائنا على هذا الشغف، حيث إن مثل هذه الجولات تمثِّل فرصة لبناء الشخصية والوعي الفني، وتنمِّي الذائقة والحس المرهف لدى أبنائنا.

• وماذا عن ثقافة القراءة والاطلاع في حياة الفنان؟
مع الأسف هناك ضعف كبير لدينا في هذا الجانب، وكثيراً ما نجد بعضهم عاجزاً عن قراءة الأعمال الفنية قراءة ناقدة، وذلك يعود لضعف الرغبة في التعلُّم من الآخرين أو الاستماع لرؤيتهم الفنية، وهذا يعني أنَّ هناك نوعاً من القصور لدى الفنان وعدم التفاته لأهمية القراءة والاطلاع. ومن وجهة نظري فإن الفنانين، لا سيما الشباب منهم، سيتنبهون مع الوقت لأهمية القراءة والاطلاع والاستماع لرؤى الآخرين من حولهم، سواء في الداخل أم الخارج، فمن المهم أن يكون لدى الفنان خلفية معرفية لما يدور من حوله في العالم، ونحن رأينا في الغرب كيف يمثل الوعي والثقافة والفنون بمختلف أنواعها أمراً في غاية الأهمية، ويشكِّل محوراً أساسياً في جلساتهم الحوارية في كثير من الأحيان، فتجدهم يتحدثون عن أعمال ومسرحيات شكسبير وكأنهم يحفظونها عن ظهر قلب، وهو ما يشكِّل الوعي لدى المجتمع عموماً، وليس لدى الفنانين فحسب.

المعارض والمشاركات الخارجيّة

• ما آخر المعارض الفنية التي شاركت فيها؟
مؤخراً عرضت أعمالاً في النمسا، كما عرضت في العاصمة الفرنسية باريس مع فنانين من جمعية الفنون التشكيلية، وقبل عدة سنوات نظَّمت معرضاً شخصياً في لندن بعنوان “مشربيّة”، وقريباً سيكون لي معرض في مدينة ليختنشتاين وهي إمارة صغيرة بين سويسرا والنمسا.

• حدِّثنا عن معرضك الشخصي الأول في لندن؟
كان أول معرض لي في لندن جيداً للغاية، فقد لاقى اهتماماً كبيراً من قِبَل الأوروبيين الذين أدهشهم أن فناناً خليجياً يقدّم معرضاً ذا سمات حداثية في قارتهم الأوروبية، وأنا أذكر أنني عندما دُعيت لإقامة المعرض، تساءلت ما الذي سأقدِّمه هناك ليكون شيئاً جديداً، ويمثلني شخصياً في الوقت نفسه ويمثل بلادي، وتوصّلت إلى أن ما سأعرضه يجب أن يتميَّز بأعمال تمثِّل تاريخ بلادي ويواكب العصر الحديث في الوقت نفسه، فجاءت فكرة تقديم أعمال تمثل وقت “الغسق”، وما يمثّله من رمزية البدايات، حيث يمثل الغسق بداية اليوم، وبهذا الإلهام استوحيت إحدى القطع المعروضة فيه من التصميم المعماري العربي التقليدي لنافذة “المشربيّة”، وكان المعرض يحمل شيئاً جديداً ومختلفاً، حيث كانت التدرُّجات اللونية مختلفة في عدد من الأعمال التركيبية، وقد لاقى المعرض تشجيعاً كبيراً من المواطنين الغربيين الذين زاروا المعرض، كما لاحظتُ إعجابهم ودهشتهم في حديثهم وفيما كتبوه في التعليقات على الكتاب الخاص بالمعرض، وقد تلقيت في هذا المعرض تشجيعاً كبيراً ودعوات بتنظيم معارض أخرى.

حتى نهاية السبعينيات كان من متطلبات القبول في مجال دراسة الفنون لدى الجامعات أن يثبت الطالب المتقدِّم للدراسة فيها أنه يمتلك موهبة فنية عالية، وكان هذا سبباً للعزوف الكبير عن دراسة الفنون.

• وماذا عن معرض النمسا؟
معرض النمسا انعقد في صالة مخصَّصة للعروض الفنية، وكان يواكب أسبوع الفن في فيينا، وشهد إقبالاً كبيراً من الزوار الذين تفاعلوا مع لوحاته بطريقة إيجابية ورائعة، ويذكّرني ذلك الإقبال الكبير بمعرض عقدناه في العاصمة الفرنسية باريس عام 1998م، حيث كان يضم خمسة أو ستة فنانين بحرينيين من أعضاء جمعية الفن التشكيلي في البحرين، وكان سفيرنا في باريس آنذاك الدكتور علي فخرو، الذي دعانا لحفل عشاء عند الساعة التاسعة والنصف بعد انقضاء وقت المعرض، وكان افتتاح المعرض في تمام الساعة السادسة مساءً، ولكننا فوجئنا بأنَّ زائري المعرض استمروا بالتوافد حتى الحادية عشرة إلا ربع تقريباً، وهو أمر يندر أن يحدث في أي معرض فنيّ في العالم، حيث كان الحضور والاهتمام كبيرين، وكان الزوّار يتحدَّثون معنا في أدقّ التفاصيل، ما اضطرّنا بسببه أن نعتذر عن عشاء السفير، وبدلاً من حفلة العشاء التي كانت في انتظارنا، لم يُسكتْ جوع بطوننا بعد خروجنا في ذلك الوقت المتأخر غير مطعم للبيتزا.

• وهل حضور المعارض الفنية العربية في أوروبا يكون نوعيّاً أم ماذا؟
قد تُدهش إذا قلت لك إن الحضور من مختلف أطياف المجتمع، من أكاديميين وغير أكاديميين، وفنانين وغير فنانين، ومواطنين من مختلف الفئات والأعمار، وتجدهم يقدِّمون لك كل ألوان الدعم والتشجيع والتقدير، وهو ما يثير الفرح في نفس الفنان حين يجد تثمين وتقدير عمله جلياً أمامه، وهو أمر لا يتشابه كثيراً مع حال الحضور في معارضنا في العالم العربي، وإن كنت أجد الإقبال والحضور في آخر معرض لي في البحرين باعثاً للتفاؤل، حيث كان الإقبال كبيراً والحضور مشجّعاً. بشكل عام أرى أن الزائر للمعارض الفنية في عالمنا العربي لا يناقش الفنان كثيراً، بعكس الزائر الغربي الذي يحرص على الاستفسار عن أدقّ التفاصيل في العمل الفني، وأذكر أنني في معرضي بلندن قابلت أوروبياً يصطحب عائلته لزيارة المعرض، وظل يدقِّق في اللوحات الفنية، وعندما تحدَّث معي أخبرني بأنه أحد مهندسي تصميم سيارات اللاندروفر، وأنه تقاعد في عام 2010م تقريباً، وأخبرني بأنه سمع أن المعرض يضم بعض اللوحات التي تدور حول فن التصميم فجاء ليشاهد الأعمال ويستمتع مع عائلته بتأمل اللوحات الفنية.

أسلوب فنّي فريد

• ماذا عن تأثير التصاميم على أعمالك الفنية؟
بطبيعتي أنا عاشق للجمال، وأراه وأتلمّسه في كل شيء، ففي الحقيقة لا أكاد أجد شيئاً خالص القبح، وإنما أرى في كل شيء جانباً جميلاً ونقطة ذات بُعد جمالي يمكن التركيز عليها، فأنا أهتم بكثير من الأشياء ذات التصاميم المختلفة، ولديَّ أشياء كثيرة أحب تصميمها، فحتى المادة الخام فيها جانب جمالي من الممكن أن يمنحك الإيحاء ويُلهمك عملاً فنياً، ولهذا أحب أن أنفِّذ كثيراً من الأفكار غير التقليدية، فتجد على سبيل المثال بعض لوحاتي محدبة، وذات مرَّة أهداني الفنان عباس الموسوي ثلاث لوحات بيضاء، طول الواحدة منها 170 سنتيمتراً، وعرضها 50 سنتيمتراً، وعندما سألته ماذا يمكن أن أفعل بمثل هذه اللوحات؟ طلب مني فقط أن أفكر وأرسم، وتركهم عندي وذهب، وبعد فترة أمسكت بالفرشاة وبدأت الرسم عليها، وأخذت أضعها على الأرض في شكل مثلث، لأراها بطريقة ثلاثية الأبعاد، ولم يعجبني ذلك التصوُّر، فبدأت العمل عليها من جديد بحيث أرى الصورة من جانبين فقط، وهنا عملت عليها بشكل محدّب بحيث تبرز إحداها، بينما ضممتها جميعاً لتستقيم الثلاث مع بعضها، وعندما بدأت أرسم على اللوحة المحدّبة وأقارنها بالأخرى المستقيمة وجدت بروزاً جميلاً في المحدّبة، ووجدت أن الشكل النهائي للعمل سيصبح أجمل، فأتممته على هذا المنوال.

• كيف يبني الشيخ راشد فكرته في اللوحات؟
إذا كانت اللوحة (زيتية) وكانت الفكرة واضحة المعالم في ذهني، أقوم بتنفيذها سريعاً، وأحياناً أبدأ في الرسم بدون فكرة، بحيث أبدأ بالرسم وأنتهي بالفكرة، وأحياناً أبدأ بفكرة ولكن اللوحة تخرج معبِّرة عن فكرة أخرى. بالنسبة للوحاتي الأخيرة فيها فكر هندسي وألوان أكثر من مجرد لوحة فنية.

• وهل اللوحة هي التي تدعو الشيخ راشد إليها، أم أن هناك وقتاً محدداً للرسم؟
الأمر يختلف، فإذا كان لديّ فكرة أو هدف واضحٌ فإن هذا يدفعني للرسم على الفور، وإذا بدأت فإنني لا أتوقف، حيث يكون لدي الشغف في إتمام عملي وأريد أن أرى النتيجة سريعاً.

• وكيف يكون الاستعداد والتحضير عندما يكون لديك معرض تحتاج لإنجاز لوحاته؟
عندما يكون لدي معرض في موعد محدَّد فإني ألتزم بمواعيد التسليم، وأبذل وقتاً مضاعفاً لحضوري في المرسم، ولهذا يجب أن أنجز الأعمال سريعاً، ويكون لدي حماس أكثر واستعداد أكبر للإنتاج.

نشاطات مؤسسيّة

• إذا خرجنا من إطار اللوحات وطلبنا أن تحدثنا عن المجلس الوطني للفنون في البحرين فماذا تقول عن خططه واستعداداته المستقبلية؟
هذه مسؤولية حمّلني إياها جلالة الملك وسمو ولي العهد – حفظهم الله – لأترأس هذا المجلس، وأنا فخور بهذا التكليف، ومملكة البحرين تحتاج حقيقة لهذا النهج، فالمجلس سيساعد كل الجهات، وسيمثّل السند والعون للمؤسسات الرسمية والتجارية وكذلك الأفراد، ونحن نسأل الله التوفيق لنصل إلى هدفنا بأن يكون المجلس قبلة لكل الفنون وداعماً لها، وأن يقدِّم يد المساعدة لجميع أوجه النشاط الفنية المختلفة، من مسارح وموسيقى ومعارض فنية وغيرها، بحيث نوفّر لهم المشاركات داخل وخارج البحرين.

• تشهد مملكة البحرين مؤخراً نشاطات فنية مستمرة، كما هي الحال في المملكة العربية السعودية، فلا يكاد يخلو يوم من افتتاح معرض هنا، أو تجربة جديدة هناك. فكيف ترى مستقبل الفن التشكيلي في دول الخليج العربي؟
بالطبع أنا سعيد حين أرى تلك الأنشطة في دول مجلس التعاون، فمنذ عام 2000م صارت هناك حركة تشكيلية تبعث على السرور، والقاعدة عندنا تقول: عندما تنشط دولة خليجية في مجال ما، فإن ذلك الأمر يُشجّع بقية أشقائها من الدول الخليجية على مجاراتها، فتأثير الرواج الفني له تأثير مباشر وغير مباشر، وعندما يجد الفنان فعالية فنية قريبة منه فإنه يحرص على زيارتها، فاليوم في الرياض وغداً في الدوحة وبعدها في أبو ظبي فالكويت ومسقط، وهكذا فإن الأنشطة الفنية تقرب بيننا كفنانين في حدود دول الخليج، والأنشطة اليوم في السعودية أصبحت عالمية، وتثير الإعجاب والفخر، وصار لدينا والحمد لله فنانون عالميون في دول مجلس التعاون وهم يطوّرون من إمكاناتهم ومهاراتهم يوماً بعد آخر، وهذا ما يثير فينا جميعاً الفرح والبهجة.

لوحة: الهدوء قبل العاصفة
في ديسمبر ، من عام 1990م، وأثناء اجتياح دولة الكويت، كثيراً ما كنت أذهب إلى مرسمي الخاص في جمعية البحرين للفنون التشكيلية، في حدود التاسعة مساءً، فأجلس وحيداً وأرسم إلى وقت متأخر، وكنت أثناء ذهابي إلى المرسم وخلال عودتي متأخراً إلى منزلي بالرفاع، أجد الشوارع خالية من البشر.. كان هدوءاً موحشاً وغريباً، فاستلهمت من ذلك المشهد لوحتي هذه التي سمّيتها “هدوء ما قبل العاصفة”، حيث نرى أشخاصاً يرقصون في اللوحة وبينهم نوع من التشابك، وكأنهم ينتظرون لحظة هجوم بعضهم على بعض.

الشيخ راشد بن خليفة بن حمد آل خليفة
• رسَّام وسياسي بحريني.
• رئيس المجلس الوطني للفنون، منذ 2021م.
• أول رئيس لجمعية البحرين للفنون التشكيلية في عام 1983م.
• تلقَّى تعليمه الأكاديمي في جامعة برايتون البريطانية.
• أول معرض شخصي في البحرين عام 1970م.
• أول مشاركة دولية في معرض كلية الفنون البريطانية عام 1972م.
• نال جائزة السعفة الذهبية لدول مجلس التعاون الخليجي في الدوحة، 1991م.
• نال جائزة الدانة لدول مجلس التعاون الخليجي في الكويت، 1989م.

التعبير عن التقدير

• وكيف ترى أهمية الجوائز للفنان؟
الجوائز تدخل في نطاق التشجيع، والتشجيع له وسائل متعدِّدة، وأنا شخصياً أرى أن الثناء والشكر والتقدير، ولو بالكلمة، يُغني عن ألف جائزة، ولكن هذه الجوائز التقديرية والتحفيزية من شأنها أن تعطي الإنسان ثقة ودافعاً، فالإنسان في أي عمل إذا لم يجد أي تقدير فإنه قد يشعر بأن عمله غير مُثمَّن أو مُقدَّر، ولهذا فإن التعبير عن التقدير والشكر مهم، كما إن الجوائز التقديرية مهمة أيضاً، ومساعدة الفنانين بكل الطرق والأساليب مهمة جداً، وتوفير بيئة العمل لهم مهم للغاية، فإذا كان لدينا موسيقيّ ولا يجد مكاناً يعزف فيه فإن يواجه مشكلة قد تخبو معها روح الإبداع لديه، والأمر نفسه مع المسرحي والرسام وغيرهم من الفنانين، فالبيئة إذا لم تكن جيدة ومحفّزة فإن لها تأثيراً مُحبطاً، وفي أوروبا تجد أن هناك جهات مُختصة لافتتاح ورش واستوديوهات للفنانين لممارسة أوجه نشاطهم، وهذا أمر في غاية الأهمية.

• نود التعرف بتفصيل أكثر على أول لوحة رسمتها؟
هي لوحة رسمتها عام 1966م، وكان عمري حينها 15 عاماً، وقد عبّرت والدتي – رحمها الله – عن إعجابها وفرحتها الكبيرة بها، وكنت قد رسمتها على الجدار بجوار غرفة نومي مع شقيقي، وقد تأثّرتْ بسبب عوامل الزمن لكني حافظت عليها في موقعها داخل هذا البيت، وكنت حريصاً على بقائها ضمن مجموعاتي الفنية، كما أحرص دائماً على اقتناء أعمال فنية من الروَّاد والشباب في البحرين وكذلك الفنانين العرب.

• وماذا عن أول عمل اقتنيته؟
أول عمل اقتنيته بشكل رسمي كان لوحة للفنان هنري مور، وكان اسمه في السبعينيات معروفاً جداً، حيث اشتريتها بستمئة جنيه إسترليني، وكان هذا المبلغ يمثل ثروة في ذلك الوقت، فلم يكن معدّل مرتباتنا في تلك الفترة يزيد على 50 جنيهاً.. وهذا ما جعل البعض يتهمني بالجنون لقيامي بشراء لوحة بهذا الثمن الباهظ، لكنني حرصت على الادخار من مدخولي الشهري كي أقتنيها.

تصوير: حسين المحروس


مقالات ذات صلة

يستطيع المتأمل في تجربة محمد الفرج بسهولة ملاحظة ملمح يتكرَّر في أعماله، وهو أن الفنان لا يتورَّع عن كشف الذهنية التي أوصلته إلى تنفيذ عمله الفني.

صاحب حركة النهوض التي عاشتها الثقافة العربية، أثناء القرن التاسع عشر وامتدادًا إلى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفق عدد من المفاهيم أوروبية المنشأ التي قُدّر لها أن تغيّر مسار الثقافة العربية نتيجة لجهود العديد من المترجمين والباحثين والمفكرين لا سيما من تعلم منهم في أوروبا أو أجاد لغات أجنبية. وهذه المفاهيم كثيرة ومتنوعة تمتد […]

من الملاحظات المهمة التي سمعتها من عدد من الفلاسفة الذين شاركوا في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة في ديسمبر 2021م، أن الحضور الغالب كان من غير المحترفين في الفلسفة. والمقصود بالمحترفين هنا هم أساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا تحديدًا. فالمعتاد في مؤتمرات الفلسفة في العالم هو أن يحضرها أسـاتذة الجامعات الذين يقدمون أوراقًا علمية في المؤتمر […]


0 تعليقات على “الشيخ راشد آل خليفة..”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *