خلال هذا الصيف، كما في كل عام، سيقوم الآلاف منّا برحلات سياحية إلى أنحاء المعمورة، لكن تنظيم هذه الرحلات صار يتطلب وقفة أمام شروط الرحلة السياحية الممتعة.
فريق تحرير القافلة بحث مدىتوافر هذه الشروط في واحدة من أكثر أشكال السياحات رواجاً، ألا وهي «السياحة المعلبة».
1
السياحة الحرة.. والأخرى المعلَّبة
من السائحين من يعود إلى بيته وهو يشعر بأن رحلته كانت تستحق فعلاً ما بذله في سبيلها من وقت ومال. ومنهم من يعود خائباً، متمنياً لو أن بعض الأمور كانت خلال الرحلة على غير ما كانت عليه، أو أنه تكلف الكثير دون أن يحصل على المردود النفسي المرتجى من فسحة في الخارج. والسبب في الاختلاف بين هذا وذاك يعود إلى أنه ما بين اتخاذ القرار بالقيام برحلة سياحية إلى بلد ما، والعودة منه، تتعدد الطرق والمفترقات التي على السائح أن يختار سلوك بعضها دون الآخر، وعلى قراراته هذه تتوقف نتائج سياحته.
فمنذ البداية، يجد المسافر نفسه أمام خيارين: إما وضع برنامج رحلته وتنظيمها من الألف إلى الياء، وإما الانخراط في برنامج سياحي تنظمه، جملة وتفصيلاً، إحدى الشركات السياحية المتخصصة.
الخيار الأول لا يخلو من المحاذير، رغم هامش الحرية الكبير الذي يتركه للمسافر. فهو يستطيع تحديد شركة الطيران التي يريد، واختيار الفندق المناسب، وحجز غرفته بواسطة الإنترنت.. ولكنه قد يواجه بعض المتاعب غير المتوقعة. فصور الفنادق مثلاً، خاصة المتوسط منها، تكون عادة على الإنترنت أو الكتيب السياحي أجمل مما هي عليه في الواقع، وقد يواجه السائح خيبة أمل غير متوقعة عند وصوله إلى غرفته.. وما هو أهم من ذلك هو أن أسعار تذاكر الطيران والإقامة في الفنادق المعروضة على الأفراد هي أعلى بشكل ملحوظ مما تعرضه وكالات السياحة التي تحصل على حسومات كبيرة جداً قد تصل أحياناً إلى نصف السعر الرسمي. وهذه النقطة بالذات هي التي تدفع بالكثيرين إلى الاتجاه صوب وكالات السياحة وبرامجها المعدة سلفاً.
الشركات السياحية
مرت خدمات هذه الشركات بمراحل متعددة. واستطاعت جذب الناس إليها منذ ثلاثين عاماً أو أكثر. وكانت مزاياها مغرية في شكلها العام، إذ أنها تدعو المسافر إلى رحلة منظمة تضم مجموعة كبيرة من الناس (وربما من جنسيات مختلفة في بعض الحالات)، مقابل سعر معقول يشمل تذاكر السفر وحجوزات الفنادق وزيارات المعالم السياحية.. وبفضل هذه البرامج انتعش سوق السياحة كثيراً على الصعيد العالمي.
ولأن السياحة باتت تشكل مردوداً اقتصادياً مهماً في اقتصاد الكثير من الدول، فقد تدخلت الحكومات لتضع الضوابط اللازمة لجذب السياح عبر هذه البرامج. كما أن المنافسة الشديدة بين الشركات والدول قادت إلى تحسن كبير في نوعية الخدمات ومستوى كلفتها. وأسهمت الدعاية المباشرة أو عن طريق الانطباعات التي حملها الناس عن رحلات هذه الشركة أو تلك في انتظام السياحة الجماعية وانتشارها.
طبعاً، البعض يعود راضياً من رحلة سياحية ضمن مجموعة وفق برنامج محدد سلفاً، وقد لا يكون عنده سوى بعض الأمنيات القليلة لو أن هذا الأمر أو ذاك كان مختلفاً عما كان عليه.
ولكن الكثيرين ممن اختبروا السفر السياحي لمرات ومرات، ويعرفون مدى توافر احتمالات أفضل ينتقدون سياحة المجموعات بوصفها «سياحة معلبة»، تملؤها تفاصيل البرنامج اليومي المرتب بدقة مقيدة لحرية السائح الذي يكون بموجب نظامها مقيداً في كل تحركاته بالمجموعة. لا بل يمكن أن تكون هذه السياحة المعلبة في بعض مراحلها مصدر غيظ للسائح يجعله يندم على الاشتراك فيها.
فالبرنامج الموحّد للمجموعة يفترض سلفاً أن الاهتمامات هي واحدة عند كل أفرادها. والأمر غالباً غير صحيح. فإذا كان السائح مثلاً مهتماً بالآثار أكثر من غيره وقصد قصر الحمراء في إسبانيا ضمن مجموعة سياحية منظمة، لا يستطيع تمضية ساعة إضافية هناك لمزيد من الاستمتاع بما هو «الأهم» بالنسبة إليه، فالمجموعة لن تنتظره وعليه أن يترك القصر للحاق بالحافلة.
إلى ذلك، فإن هذه البرامج التي غالباً ما تكون مضغوطة، قد تصيب السائح بالإرهاق أو بالشعور بـ «القسرية»، الأمر الذي يتنافى مع أهم متطلبات الإجازة السياحية، وهي الراحة الجسدية والذهنية.
وفي معظم الأحيان يشعر السائح أن رحلته إلى الأماكن نفسها كان يمكنها أن تكون أفضل دون ضغط البرامج المعلبة التي تفتقر إلى الفرصة الكافية لإشباع المتعة السياحية، بل ربما فكر في العودة في رحلة فردية لاحقة إلى المكان نفسه بغية الاستمتاع به والاستكشاف الشخصي لجماله وخصائصه.
والواقع أن بعض برامج السياحات المعلبة وصل في «لا سياحيته» إلى ما هو أقرب إلى تنظيم المعسكرات منه إلى السياحة، إذ يقضي بنقل المسافر من بلده إلى منتجع محدد، وإبقائه داخل الأسوار الذهبية لهذا المنتجع معزولاً تماماً عن البلد المضيف ومعالمه الثقافية والحضارية والاجتماعية. ولهذا النوع من الرحلات زبائنه الخاصين به، وهم الذين يحتاجون إلى الراحة فقط، وليس إلى السياحة بالمعنى المتعارف عليه.
السياحة إلى المكان نفسه..؟
في فلم «المدينة» للمخرج الفرنسي جاك تاثي، يدور أحد المشاهد داخل مكتب لإحدى الشركات السياحية، حيث نرى على الجدران مجموعة ملصقات دعائية لمدن العالم المختلفة. الصورة على الملصقات كانت هي نفسها وتمثل ناطحة سحاب زجاجية، وتحتها يتبدل اسم المدينة: باريس، ريودي جانيرو، هونغ كونغ، آبيدجان.. هذا المشهد الطريف الساخر من توحيد المعالم الثقافية في العالم، يكاد يتكرر حرفياً على أرض الواقع في عالم السياحة، ولكن دون طرافة على الإطلاق.
فالإعلان السياحي النموذجي لجزيرة قبرص صار مشابهاً في جوهره للإعلان عن السياحة إلى موسكو أو القاهرة أو سنغافورة: مجموعة من أربع صور مثلاً، تمثل قصراً أثرياً، فندقاً، مطعماً، ومنتجعاً ترفيهياً..
وأين المشكلة؟
المشكلة تكمن في أن هذه الصور لا تعبّر بالضرورة وفي معظم الأحيان – إن لم نقل دائماً – عن حقيقة البلد المضيف، ولا حتى عن أفضل ما فيه من حيث القدرة على إمتاع السائح.
فالسياحة الناجحة ليست تلك التي تنتقل بك لاهثاً من قصر تاريخي إلى مطعم، ومن مطعم إلى مسبح، ومن مسبح إلى قصر آخر، ثم إلى السوق، وذلك خلال ست ساعات فقط.. مقياس النجاح في السياحة – إذا كان من الممكن وضع مقياس – هو في مدى توافر أشياء يحب السائح أن يتحدث عنها أو أن يتذكرها بعد عودته إلى موطنه. ولو عدنا إلى أحاديث الذين خبروا السياحات المختلفة للاحظنا بسرعة أن أكثر ما استمتعوا به كان المفاجئ، والمكتشف صدفة، وليس بالضرورة ذلك الذي كان ضمن البرنامج.
فإذا شاء المسافر أن يستفيد من الحسومات المالية الكبيرة على أسعار بطاقات السفر والإقامة في الفنادق والتي تؤمنها له الشركات السياحية دون غيرها، فيمكنه أن يسافر من خلال هذه الشركات وفق برنامج يترك له حرية تنظيم برنامجه الخاص في البلد المضيف. ولعل هذا من أفضل الحلول، حتى أنه أصبح هناك شركات كثيرة تعتمد مثل هذا البرنامج الحر نظراً لتزايد الإقبال عليه.
على كل حال، هناك من لا تناسبه إلا السياحة «المعلبّة»، لأنها تضبط له إيقاع السفر، فيكون لديه استعداد للتأقلم مع إزعاج المواعيد المحددة سلفاً في سبيل التخلص من منغصّات أخرى مثل ركوب سيارات الأجرة، أو قيادة السيارة بنفسه في بلد لا يعرفه.
ويضيف أصحاب وجهة النظر هذه أن عدم معرفة اللغة التي يتحدث بها أهل المنطقة المضيفة قد يكون عائقاً للسياحة الحرة، فيكون المرشد السياحي في هذه الحالة هو الوسيط للتعامل مع الناس والأماكن السياحية.
إضافة إلى ما تقدم، وبعيداً عن الجانب التنظيمي، هناك مجموعة شروط يعتبر السائح نفسه مسؤولاً عن توافرها للحصول على سياحة ممتعة حقاً.
أول هذه الشروط هو أنه على المسافر ألاَّ يتوقع الكثير مما يعتقد أنه سيلاقيه، خاصة إذا كانت الصورة المطبوعة في ذهنه تعود إلى الصور الدعائية أو الإعلام، لأن توقع الكثير قد ينتهي إلى شعور بالخيبة، حتى ولو لقي الكثير مما توقعه..
ثم على السائح أن يكتفي بوضع الخطوط العامة لبرنامجه في البلد المضيف من دون الدخول سلفاً في الكثير من تفاصيله، وبشكل خاص، من دون لَيّ ذراع الوقت بمخططات أكثر طموحاً مما يجب.
فالركض إلى ما يظنه السائح مفرحاً، لا يوصله بالضرورة إلى هدفه، ولكن استرخائه وانفتاحه على العالم الذي يجد نفسه فيه، قد يوفر له مفاجآت ممتعة تكون، رغم عدم توقعها، أجمل ما عاشه في رحلته.
وأخيراً، هناك أمر يعرفه أصحاب الخبرات والتجارب في السياحة، ويحتاج إلى بعض الوقت للاعتياد عليه والتمكن منه، ولكن لا شيء يمنع تجربته ولو في الرحلة السياحية الأولى، ألا وهو اكتشاف بلد معيّن كما هو، من خلال ارتياد الأماكن التي يرتادها أهل البلد أنفسهم.
ففي معظم بلدان العالم صارت هناك أماكن شبه خاصة بالسيّاح، تقدّم لهم ما يتوقعونه، وهو عادة ذو شكل شبه موحّد عالمياً بدءاً من تعابير المجاملة في قطاع الخدمات، إضافة إلى الأطعمة التي هي حصيلة لمحاولة تكييف مختلف الأذواق في طبق واحد لا طعم له ولا هوية.. ولذا، يطالب السيّاح العارفون ببواطن السياحة الناجحة بالأماكن والمطاعم التي يرتادها أهل البلد أنفسهم. وحتى لو لم يحب السائح طعامهم، فقد يجد لذة عندما يعود إلى بلده ويخبر أصدقاءه أنه تناول طعاماً غريباً مؤلفاً من كذا وكذا..
وبشكل عام، فإن أبناء البلد المضيف البعيدين عن مرافقه السياحية هم ألطف من أولئك العاملين في خدمة هذه المرافق والذين يتطلعون إلى السائح على أنه مورد رزق فقط، وأكثر انفتاحاً منهم على السائح الذي يعاملونه كصديق.. ومن المرجح أن أفضل المتع السياحية هي تلك التي تأتي من هذا التواصل الإنساني مع الناس أياً كانوا، ومن الاكتشاف الممتع للأشياء والأماكن، واختلاس اللحظات المدهشة التي تتناغم مع ما بداخل السائح، والذكرى التي لا تنسى عن رحلة ما.
2
سياحة المكتبات ثقافة.. وكل سياحة ثقافة
حتى القرن العشرين -وربما حتى اختراع الطائرة- كانت السياحة نشاطاً ثقافياً في الدرجة الأولى.. والأخيرة. كان السائح رحّالة يحمل أمتعته ويخرج من دياره قاصداً جهات لا تشدّه إليها غير صور ضبابية يريدها أن تكون أوضح. وأحياناً لا يشدّه إلى وجهة معينة غير الرغبة في استكشاف المجهول..
كانت السياحة عملاً عظيماً حكراً على علية القوم من الأثرياء والمغامرين غير الآبهين بما قد يتعرضون له. وكثيراً ما أثمرت هذه السياحات الكبرى أعمالاً أدبية وعلمية خالدة، بدءاً بـ «معجم البلدان» لياقوت الحموي، وصولاً إلى «رحلة الشاعر لامارتين» إلى الشرق.
وبمرور الزمن تغيّرت الأحوال..
بالأمس كانت السياحات طويلة الأمد، تدوم لأشهر عدة وأحياناً لسنوات. أما اليوم فإن متوسط أعمار سياحاتنا صار يتراوح ما بين الأسبوع والشهر الواحد في معظم الأحيان.
بالأمس كانت العودة بالمشاهدات ووصفها إنجازاً ثقافياً كبيراً، أما اليوم فلم يعد مطلوباً من السائح أن يرجع إلى بيته بكتاب يصف فيه البلد الذي زاره لأن هذا الكتاب صار موجوداً بألف صيغة وصيغة أينما كان.
ولكن وسائل النقل وأشكال السياحة لم تتغير وحدها، فمفهوم الثقافة نفسه قد تغير بمرور الوقت، والرغبة في السفر والسياحة تتغذى من مجموعة صور تكون في ذهن السائح قبل انطلاقه في رحلته، وهي ما تجعله يختار هذا البلد أو ذاك. هذا ما دفع الرحّالة الكبار إلى سياحاتهم التاريخية، وهذا ما يدفعنا اليوم إلى السفر لمدة أسبوعين خلال هذا الصيف إلى هذا البلد أو ذاك.
أي أنه على الرغم من أن الحاجة إلى الراحة من تعب العمل ورتابة الحياة اليومية صارت من ضمن الدوافع الكبرى للقيام برحلة سياحية، فإنها لا تزال لوحدها أضعف من أن تشكل مبرراً وبرنامجاً لسياحة ناجحة، إذ لا يزال «البعد الثقافي» بمعناه الواسع من أهم مقومّات السياحة الناجحة التي تؤمنها أشكال مختلفة. منها:
-1 سياحة الثقافة العامة القائمة على زيارة المتاحف والقصور والمعالم العمرانية، وهي من أكثر أشكال السياحة رواجاً في العالم. وهي تتوجه إلى أولئك الذين يريدون تكوين فكرة عامة عن شخصية البلد المضيف، أو بالأحرى عن أجمل ما فيه.
-2 السياحة الطبيعية، والغاية منها استكشاف المعالم الطبيعية المميزة لهذا البلد أو ذاك، والاستمتاع بمناظرها والعيش وسطها لبعض الوقت. وهي تتراوح ما بين جبال الألب في سويسرا مثلاً والغابات الاستوائية في أندونيسيا.. تماماً كما جذبت الصحارى في بلادنا بعض الرحّالة والسياح الأجانب..
-3 سياحة المناسبات, وتتراوح هذه المناسبات ما بين المهرجانات الثقافية و«أشهر التسوق» التي راجت في السنوات الأخيرة، مروراً بالمعارض الدولية وما شابه. ونظراً لتزايد الأهمية المعلقة على هذه السياحة، صار الكثير من بلدان العالم ينسق برامج المهرجانات وأشهر التسوّق بشكل يلائم برامج العطل السنوية في البلدان التي يرغب في جذب أبنائها إليه.
-4 سياحة الحياة اليومية, وهي من البرامج السياحية اللافتة للنظر بغرابتها، وبدأت تروج في الآونة الأخيرة، وتقضي باستقبال السائح في بيت أسرة متوسطة في بلد ما، وتركه وسط أفرادها يحيا حياتهم اليومية والعادية جداً لبضعة أيام. ويعد نجاح هذه السياحة دليلاً على وجود رغبة عند الكثيرين في معرفة شعب آخر على حقيقته.
-5 سياحة المكتبات، وهي من المعالم البارزة فـي المدن الكبرى التي يرغب السائح عادة بزيارتها. وفي أحيان كثيرة تكون سياحة المكتبات هي الدافع الأول عند السائح المثقف إلى القيام بزيارته السياحية.
وعلى الرغم من أن مكتبة مدبولي أو سور الأزبكية لا يظهران على الملصقات الدعائية للسياحة في القاهرة، فمن النادر أن يزور سائح عربي العاصمة المصرية من دون المرور بمكتبة مدبولي حيث يجد معظم الإصدارات المصرية الحديثة بشكل خاص، ذات التلوّن الذي يُرضي أكبر شريحة من اهتمامات القرّاء. أما على سور حديقة الأزبكية فيمكنه أن يجد الكتب القديمة، وبعضها يكون نادراً، كما يجد مجلات تعود إلى عقود خلت مما لا يجده في أية مكتبة حديثة أخرى.
وفي باريس فإن التجوال على مكتبات شارع سان ميشال، وشارع سان جيرمان والأزقة المتفرعة منهما، يمكنه أن يكون بحد ذاته متعة كبرى، تضاهي متعة زيارة أي قصر أو متحف. حتى أن منظر الكتب الفنية المعروضة بأسعار منخفضة على قارعة الرصيف يكاد يكون بحد ذاته متعة للعين.
وفي لندن لا تكتمل الزيارة السياحية إذا لم يزر السائح المكتبات المنتشرة هناك بكل اللغات. والسائح العربي بالذات لديه مكتباته العربية اللندنية مثل الساقي والكشكول والأهرام وغيرها، مما لا يعتبر نفسه سائحاً إلا إذا تأبط مجموعة من كتبها.
ومن أغلى الذكريات التي عاد بها أحد السيّاح العرب من اليونان، كانت مجموعة كتب بالعربية والفرنسية من إصدارات القرن التاسع عشر، اشتراها من سوق لبيع الأشياء المستعملة. ولأن اللغتين العربية والفرنسية مجهولتان تماماً في اليونان، فقد اشترى السائح كنزه بدراهم قليلة لا تزيد على أثمان الصحف اليومية.
وأخيراً وليس آخراً، هناك سياحة المنتجعات الترفيهية التي قد يرى البعض أنها أبعد ما تكون عن السياحة الثقافية بالمعنى التقليدي. إذ أنها تقوم على السفر بهدف الإقامة في أحد المنتجعات التي تضم بعض مرافق التسلية والترفيه كالمسابح وما شابه لممارسة بعض الرياضات وتقطيع الوقت.. ولكن، حتى هنا لا يخلو الأمر تماماً من أبعاده الثقافية العائدة إلى الاحتكاك مع المختلف، سواء أكان هذا المختلف نزيلاً آخر في الفندق نتعرّف عليه، أم نوعاً غريباً من الأصداف نعثر عليها على شاطئ البحر.
إلى ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن كل هذه السياحات المتنوعة، تترك مجالاً لحرية الحركة، أي لإضافة مكتسبات جديدة نضمها إلى خبراتنا ومعرفتنا. المهم هو أن نكون منفتحين عليها، وأن نفسح المجال لهذه المكتسبات غير المتوقعة لتقترب منّا، لإضافتها إلى ثقافتنا التي يجب أن نعود بها كصيد ثمين من سياحتنا.
3
السياحة عكس التيّار
من حفنة المغامرين والمكتشفين والرحالة في الماضي تحوّل السيّاح اليوم إلى سلع تباع وتشترى ويقوم عليها اقتصاد العديد من البلدان وتتصارع حولها الشركات الكبرى. بمعنى آخر تحوّل الصراع على السبعمائة مليون سائح حول العالم – وهو رقم سيتجاوز المليار خلال أقل من عقد من الزمن – إلى قيام صناعة جديدة عملاقة، لا تعرف الحدود ولا تعترف بها، تفرض قواعدها ونمط سلوكها وآدابها على بلدان يكاد بعضها يعتمد كلياً عليها إن لم نقل يرتهن بها.
ولعل هذا ما جعل بعض السيّاح يتمردون على هذا الواقع الأليم فيقاطعون صنّاع سياحة المجموعات، ويسعون لتحرير هذا النشاط الإنساني من قيود الصناعة وإرجاعه إلى جذوره الأولى. من هنا نشأ ما يسمى بــ «السياحة الثقافية» أو «التاريخية» أو «الدراسية» أو «الطبيعية».. ولكن التجارب علّمتنا أن أرباب السياحة الصناعية سرعان ما سينتبهون لهذه الظواهر الجديدة ولن يتأخروا في دمجها في مخططاتهم الترويجية. تماماً كما «استرجعوا» في الماضي الكثير من الظواهر المماثلة مثل ظاهرة البحث عن الغذاء الطبيعي أو البيولوجي والتي تحوّلت بدورها إلى صناعة.
ولهذا، فمن العبث السعي إلى معاكسة التيار السائد وكبح جماح النمو السياحي في العالم. يقول آلان مسبليه وبيير بلوك دورافور، مؤلفا كتاب «السياحة في العالم» الصادر عن دار بريال العام الماضي، وهو مرجع في هذا المجال، أن هذه الصناعة ستشهد في العقود المقبلة نمواً مذهلاً ولن تعود البلدان الصناعية المصدر الرئيس لتصدير السيّاح إلى العالم النامي كما هي الحال الآن. وبرأي المؤلفين فإن منطقة البحر المتوسط ستشكّل أكبر نسبة نمو سياحية في العالم. وهذه التوقعات قائمة في الواقع على حقيقة أساسية وهي أن 90% من التراث العالمي موجود في هذه المنطقة التي ما تزال غير مستغلة سياحياً كما يجب.
وهذه النتيجة يتوصل إليها أيضاً الباحث الفرنسي كلود أوريجيه دو كلوزو في كتابه «السياحة الثقافية» الصادر عن الدار الجامعية في فرنسا، الذي يحلل ويستكشف فيه آفاق هذا النوع الجديد / القديم من السياحة والذي سيخضع بدوره لقوانين العرض والطلب. أما الباحث روبير لانكار فيحذّر في كتابه الجامع عن «السياحة الدولية» الصادر عن الدار الجامعية نفسها عام 2002م، من مخاطر ومطبات ترك هذا النشاط الاقتصادي بين أيدي القطاع الخاص وحده، لأن هذا النشاط يرتبط في النهاية بالثقافة والترفيه معاً.