الحياة اليومية

الرصيف..
عمران وحياة.. وحلم

يمثّل قضاء ساعة من الوقت في السير على الأرصفة المزدحمة لأية مدينة من مدن العالم ثروة لا يُستهان بها في التعرّف إلى مدى التطوّر العمراني فيها، وفي سبر الكثير من سلوكيات ساكنيها وأذواقهم. المهندس حمزة فضل شبلاق* يقرأ في هذا الموضوع الوجوه المتعددة للرصيف كجزء من تكوين المدينة..

الرصيف جزء من حياتنا، من حركتنا الدائمة في ذهابنا إلى العمل، أو قضاء احتياجاتنا في التسوق والتنزه، أو في مجرد التسكع والتمعن بكل ما هو لافت وجديد في واجهات المحلات. وحيدين نكون أحياناً أو مع شلة من الأهل أو الصحاب. وعلى مقاهي الرصيف يحلو للكثيرين الجلوس في صباح مشمس لتناول القهوة وقراءة الصحف أيام العطل، أو في مساء لطيف نلتقي فيه بأحبائنا. وقد تُفاجئنا قطرات المطر منذرة بوابل منه، فنسرع بالنهوض دون أن ننسى دفع ما علينا فنلملم أشياءنا على عجل، ونهرب بخطى متسارعة، وفي لحظات يفرغ مقهى الرصيف.. ويفرغ حتى الرصيف.

هكذا هو مشهد الرصيف.. عالم يصخب بالناس كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءاً ويزدحم بالأشياء، بالأضواء والألوان والضجيج نهاراً، ويمتد إلى ساعات من الليل ثم يخلو ويصبح صفصفاً. يكون الرصيف هادئاً حالماً في ليالي الصيف بنسماتها الهادئة، وفي الشتاء يصبح عاصفاً بالمطر والريح، يشتد زمهريرها فيهتز لها كل ما عليه من أشجار وأعمدة وتتطاير الأشياء حتى المقاعد المهجورة في مقهى الرصيف.

إنه جزء من تكوين المدينة التي نعيش فيها. نحن ابتدعناه وكل واحد منا بإرادته أو بدونها أسهم في أن يصبح الرصيف رصيفاً. فهو ملكنا جميعاً. بعضنا يمرّ فيه عابراً، والبعض الآخر يقيم فيه أو على جنباته طوال يومه لأنه يعمل في محل أو مكتب أو مقهى يطالعه الرصيف كيفما التفت. وفي العواصم والمدن الكبيرة شريحة من الفقراء والمعوزين لم يتبقَ لها من عالم سوى الرصيف تفترشه لتنام.. وتلك صورة مؤلمة لعالم اليوم الذي تفتقده الرحمة.. أو لعله يفتقدها.

وبهذا التميّز في التعبير عن سلوكياتنا وثقافتنا وذوقنا العام وحتى حركة السوق والاقتصاد لدينا، يتفوق الرصيف على المكونات الأخرى للنسيج العمراني للمدينة من مبانٍ وشوارع. ففي المباني يقبع الناس في محلاتهم وخلف مكاتبهم أو في بيوتهم لا يرون ولا يسمعون شيئاً في معظم الأحيان، وفي الشوارع نجلس في سياراتنا، أقفاصٌ سريعة تنهب الطريق من تحتنا وتنقلنا من مكان إلى آخر.

أما الرصيف فإنه يسمح لنا بأن نمارس حواسنا الخمس الأساسية. لقد تناوله الفنانون والأدباء. روائيون وشعراء في الكثير من أعمالهم وخاصة في الدول العربية والأوروبية المطلة على حوض البحر الأبيض المتوسط حيث لفصول السنة طقوسها. وحيث أفرزت الحضارات المتلاحقة نسيجاً ثقافياً مبدعاً تمتد خيوطه من أعمق الحضارات قدماً في التاريخ إلى أكثرها حداثة.
كيف نشأ الرصيف وكيف تطوّر؟
منذ كانت الطرق المرصوفة في الحضارات القديمة كان الرصيف، فهو الجزء الذي يرتفع قليلاً عن مستوى الطريق من على جانبيها، ويخرج إليه الناس من بيوتهم أو من الأماكن العامة. وأحياناً كانت قنوات صرف المطر تحتل الجزء المنخفض قليلاً ما بين الطريق العام وحافة الرصيف. كان الرصيف إذاً عتبة ضيقة ممتدة على جانب الطريق، وظيفته الأساسية حماية المباني والمنازل على جانبي الطريق من مياه المطر. وجد هذا في طريق الأعمدة الممتدة إلى المعبد الرئيس في العمارة الفرعونية، وحول المعابد والمباني العامة أحياناً في ساحات المدن الإغريقية والرومانية.

وفي مركز المدينة (Forum) في العمارة الرومانية كان للمباني المحيطة بالساحة الرئيسة امتداد مبني من العقود الحجرية وغالباً ما كانت أرضية هذا الامتداد – الرواق مرتفعة قليلاً عن مستوى الساحة العامة وكان الغرض من الرواق هو حماية الناس من حرارة الشمس صيفاً ومن مياه الأمطار شتاءً. إنه رصيف مغطى بالعقود، ويصل عرض الرواق إلى بضعة أمتار. تطور الرصيف الرواق فعرض فيه التجار والباعة بضائعهم، واكتظ الناس بالناس والأشياء. وامتدت الطرق من الساحة الرئيسة إلى اتجاهات متشعبة وامتد معها الرصيف الرواق، وتأثرت كل الطرز المعمارية اللاحقة في أوروبا والشرق العربي بهذا العنصر الجديد، فتحولت الساحة المركزية التي نشأ فيها الرصيف الرواق إلى ملتقى للطرق يتخذ شكل الدائرة أحياناً. وأحياناً أخرى تصبح الدائرة مستطيلاً أو مضلعاً. وهكذا ترك الباعة والمشترون الساحة المركزية وانتقلوا إلى الرصيف المسقوف (الرواق). وفي عصر النهضة في أوروبا تسابق البنّاءون في تشكيل الواجهات بالطرز الإغريقية والرومانية.

وازداد الرصيف أهمية، وصار ركناً أساساً في التكوين العمراني للمدينة، وزينّت التماثيل ونوافير المياه الساحات المركزية التي تلتقي فيها الطرق، وغادرها الباعة مع بضاعتهم إلى محلات داخل المباني تفتح على الرصيف الرواق أو تحتل جزءاً منه.

وفي مصر وبلاد الشرق العربي خلال حكم الفاطميين وعهد المماليك ازداد الاهتمام بالرواق ولكن الساحة المركزية حافظت على جزء كبير من أهميتها. أما الطرق المتشعبة عن الساحة فصارت تضيق وتتعرج. تفتح على أحواش السكن من جانبيها وكانت هذه الأحواش تنمو أحياناً لتصبح حارة مستقلة في مجتمعها إلى حد كبير. وكانت بعض الحارات تُغلق بواباتها الكبيرة مساءً ولا تُفتح إلا مع صلاة الفجر. لقد فرضت العوامل المناخية نفسها إلى جانب العوامل الاجتماعية، فالطريق تتفرع منه شبكة من الأزقة الضيقة المسقوفة في الغالب، والمرصوفة بالحجر حيث اختفى الرصيف. نجد هذا واضحاً في الحارات القديمة حول قلعة حلب، وتلك التي تزخر بها مدن المشرق والمغرب العربي القديمة مثل القدس ودمشق وفاس.

الرصيف في عالم اليوم
قبل أكثر من قرن من الزمان بدأت السيارات تظهر في طرقات المدينة. هجر الناس الطريق والتجأوا إلى الرصيف الذي أوكلت إليه وظائف عديدة فازداد عرضاً؛ ليستوعب أعداداً أكبر من المشاة الذين اعتادوا استعمال الطريق طولاً وعرضاً.

والأرصفة التي نسير عليها كل يوم تخفي تحتها جملة من الإنشاءات التحتية، وشبكات الخدمات العامة تغذي المباني والأحياء. فتمتد تحت الرصيف شبكات المياه والكهرباء والغاز، إلى جانب شبكة المجاري العامة ومصارف مياه الأمطار. إنها شبكات معقدة تجري تحت أرصفتنا على أعماق مختلفة. إنه عالم ما تحت الرصيف.

وللرصيف عالم غير الذي تحته. إنه عالم ما فوق الرصيف حيث أعمدة الإنارة وإشارات المرور والأعمدة التي تحمل لافتات إرشادية أو إعلانية مختلفة. وقد نجد على الرصيف مقاعد ثابتة من الحجر أو الخشب أو الأسمنت، كما تنتشر كبائن الهاتف العمومي والأكشاك المختلفة ومظلات خفيفة لانتظار وسائط النقل العام. وفي أحيان قليلة قد نرى أحواضاً للزهور وأشجاراً جميلة خضراء.. إنه العالم الذي نراه ونتعامل معه أثناء سيرنا على الرصيف.

وهكذا أثقل كاهل الرصيف بما تحته من شبكات الخدمة العامة وما استحدث فوقه من عناصر جديدة، فصار هو الشريان الرئيسي في جسد التكوين العمراني لمدن العالم.

أضف تعليق

التعليقات