قول آخر

شرقُ وغربُ الكتابة الساخرة

مثلما يغلَّفُ قرص الدواء بطبقة رقيقة من السكَّر ليسهلَ تناوله، تُغَلَّفُ حدة ومرارة التعبير عن الواقع بمسحة فكاهية تجعل النصَّ أكثر قبولا من أسلوب الخطاب الوعظي الجاف. هكذا تأتي الكتابة الساخرة مزيجاً من المرارة والدعابة تخفف عبءَ التوترات وتلطف حمى الانفعالات النفسية المرهقة، أو هكذا تأتي مُرَكَّبا اختصره المتنبي بقوله: «ولكنه ضحك كالبكاء».

وعلى الصعيد الثقافي العربي فقد أُهْمِل تاريخ الكتابة الساخرة إلى حدّ الإجحاف، واحْتُفِيَ بتاريخ الكتابةِ الجادةِ إلى حدِّ الإسفاف، مع أن التراث زاخر بروائع هذا اللون الأدبي شعراً ونثراً. لقد أثرى أبو عثمان الجاحظ المتميز برشاقة أسلوبه ومرارة سخريته التراثَ العربي بفيضٍ من روائعه الساخرة، ومنها كتابه البخلاء، وفيه تعريفٌ بفلسفةِ الضحك، ورصدٌ لأخبار البخلاء، وتصويرٌ لطباعهم وعاداتهم. ومنها، كذلك، رسالة «الجد والهزل». أما رسالة «التربيع والتدوير» فتصويرٌ كاريكاتوري ضاحك لنماذج بشرية تتواجد في كل عصرٍ ومِصر، وإن كانت شخصية أحمد بن عبد الوهاب هي الهدف المباشر لذلك الكاريكاتور اللغوي الساخر.

ومقامات بديع الزمان الهمذاني تحفة نثرية رائعة، مع رشاقة في الأسلوب، وفكاهة وسخرية لاذعة. وأول ميزة لبديع الزمان – كما يرى زكي مبارك – أنه يُشعرك بفهمه للحياة، فهو «يتحدث عن أشجان وأغراض هي في صميمها ألوان للنفوس الإنسانية، ويطالعك بطائفة من الأزمات النفسية والروحية هي أزماتك لو درستَ نفسَك وتطلعتَ إلى وجدانِك».

وقد تجاوز أبو العبر بعبثه واقتحامه فضاء اللا معنى معاصريه، وذلك بتوظيف الارتجال والمصادفة لتخليق ذلك العبث الهازل، ولعل ذلك تعبير عن عبثية التناقضات التي يزخر بها المجتمع البغدادي آنذاك. كان يقف على الجسر ليكتب ما يسمعه من كلام المارة من الملاحين والمكارين وغيرهم حتى يملأ وجهي القرطاس، ثم يقطع القرطاس بالعرض، ويلصقه مخالفاً، «فيجيء منه كلام ليس في الدنيا أحمق منه» كما يقول.

ولم يكن هذا اللون الأدبي وقفاً على أدباء المشرق العربي، فقد برع فيه كتّاب المغرب والأندلس كذلك. وإذا كان بديع الزمان قد كتب المقامة الإبليسية فقد أفرد ابن شهيد الأندلسي عملاً سردياً منسوجاً على ذلك المنوال في رائعته المعروفة «الزوابع والتوابع».
وإذا كانت شخصية أحمد بن عبد الوهاب موضوعَ رسالة التربيع والتدوير، فقد كانت شخصية ابن عبدوس موضوعَ «الرسالة الهزلية» لأديب الأندلس ابن زيدون. وهي رسالة زاخرة بالفكاهة العذبة والسخرية اللاذعة. ويلاحظ بعض النقاد تأثر ابن زيدون في هذه الرسالة بالجاحظ أسلوباً ومنطقاً. بل ويذهب بعضهم إلى أنه واقع تحت تأثير كتَّابٍ مشارقة آخرين مثل أبي إسحاق الصابي وبديع الزمان الهمذاني. إن قائمة الكتَّاب العرب الساخرين حافلةٌ بأسماء كثيرة لا تتسع لها هذه العجالة. أما الكتابة الشعرية الساخرة فحديثها يطول لولا أن موضوعنا هو النثر الساخر.

وللنثر الساخر في الأدب الغربي مبدعوه الكبار، ممن جُبِلوا على النظر إلى الأشياء بعينِ الفكاهة، وتعهدوا هجاء القبح «والذهاب به حتى التشوه، والانتقال من المشوَّهِ إلى المضحك» كما يعبر برغسون. ومن هؤلاء سرفانتس مؤلف رواية «دون كيخوته».

أما سخرية فولتير فلم تقتصر على المساوئ الاجتماعية وحدها بل تجاوزتها إلى نقد الذات، شأنه في ذلك شأن الجاحظ. وفي عبارة مطعَّمةٍ بالسخرية يقول فولتير عن نفسه: «لقد اضطهدوني أكثر مما أستحق»! وتعتبر رواية (كنديد) نقداً اجتماعياً وسياسياً وهجاءً مقذعاً لكثير من القيم الأوربية السائدة آنذاك. كاتب آخر سخر من مساوئ عصره ودافع عن الحريات والقيم الجميلة حتى حصل على لقب «فولتير أمريكا» هو مارك توين.

أما الكاتب الروسي تشيخوف فهو أخف كتَّاب القصة الروسية ظلاً. تتميز أعماله القصصية بالحس الساخر، وبالقدرة على تصوير كثير من شخوص قصصه تصويراً كاريكاتورياً معبِّراً. ويرى الأديب الروسي كورولونكو أن صفة «السوداوي المرح» التي أطلقها بوشكين على جوجول وصفٌ دقيق لكنه ينطبق على تشيخوف كذلك. أما مكسيم جوركي فيقول عنه: «كان يمقت كل ما هو مبتذل وقذر، ويصف كل حقارات الحياة بلغة نبيلة شاعرة لشاعر، وبضحكة ناعمة لفكاهي.. وفي كل قصة قصيرة من قصصه الفكاهية أسمع آهة خافتة عميقة من قلب نقي إنسانيٍّ حقا».

كتابات هازلة من الشرق والغرب لكنه «هزل في غوره الجد». هزل يحاول تقويم ما اعوَجَّ من الطباع، وشذَّ من العادات، وانحرفَ من الممارسات.

أضف تعليق

التعليقات