الثقافة والأدب

العربي المعاصر ولغته الأم

يؤكد كبار خبراء التربية الحديثة أن الـتــصــــــاق الإنسان منذ الطفولة بـلغتـه الأم يضـمـن له تواؤماً نفسـيــاً ويـعـــزز قدرته الذهنية ويجعله أقدر على اكتساب أية لغة أخرى..
الكاتب إلياس سحّاب يُلقي الضوء على مخاطر اهتزاز علاقة الإنسان العربي بلغته اليوم.

يذكر القرّاء ممن كانت أعمارهم تتراوح ما بين العاشرة والخامسة عشر في منتصف القرن العشرين، أن الأطفال العرب في تلك الحقبة غير البعيدة، كان من بين ألعابهم التي يقطعون بها أوقات الفراغ، ألعاب أدبية ولغوية (إن صحَّ التعبير)، منها لعبة التراشق بالأبيات الشعرية، التي كان على المبارز فيها أن يذكر بيتاً من الشعر يبدأ بالحرف الذي ينتهي به بيت الشعر الذي ألقاه المبارز السابق. وأذكر أن المبارزة الشعرية فيما بيننا كانت تتجاوز أحياناً نصف الساعة، قبل أن يتمكن أحدنا من إسقاط الآخر، عندما لا تسعفه ذاكرته ببيت الشعر المناسب لقواعد المبارزة. كذلك كان بين ألعابهم، في ذلك الزمن غير البعيد، الألغاز الإعرابية، فيختار أحدهم جملة معينة، ويطلب من الآخر أن يحدد موقع إحدى كلمات الجملة من الإعراب، فإذا أخفق خسر، وإذا أفلح جاء دوره لإحراج خصمه بلغز آخر في الإعراب، أشد صعوبة. ولا أنسى أننا كنا، عند ممارسة لعبة الإعراب هذه، نحتكم في اليوم التالي إلى أساتذة اللغة العربية في مدارسنا، ليحددوا لنا الرابح من الخاسر.

لو قام أحدنا اليوم باختيار «الألعاب اللغوية والأدبية» نفسها على أطفال من السن نفسه، لوجد نفسه أمام جيل من إقليم آخر من الكرة الأرضية. ولو حاول، بعد ذلك تخفيف جرعة التجربة، فأعطى هؤلاء الأطفال مقطعاً من صحيفة يومية، وطلب إليهم قراءته بصوت مرتفع. فإنه يسمع ثأثأة، تذكره بشيء اسمه اللغة العربية. ولو جرب مرة ثالثة مزيداً من تخفيض جرعة التجربة، وحاول الاستماع عن كثب إلى ثلاثة أو أربعة من جيل الأطفال العرب المعاصرين، من أهل المدن الذين يرتادون المدارس، فإنه سيستمع إلى «برج بابل»، تخالطه بعض الكلمات العربية. بل أصبح «برج بابل» اللغوي هذا، وسيلة التخاطب اليومي بين الآباء والأمهات المثقفين من جهة، وأبنائهم الساعين إلى التثقف من جهة ثانية.

أما إذا أردنا استكشاف مستقبل علاقة هؤلاء الأطفال بلغتهم الأم، فما علينا سوى الاستماع إلى مصير هذه اللغة على شفاه مذيعي ومذيعات الراديو والتلفزيون، وحالة هؤلاء التي تستدر الشفقة وهم يحاولون التعبير باللغة العربية.
ليست المشكلة جديدة على أي حال، فلقد حدثني الدكتور إحسان عبّاس، أستاذ الأدب العربي المرموق، عندما كان يدرس الأدب لطلاب إحدى الجامعات المرموقة في بيروت، فقال إنه يضطر إلى إعادة تدريس طلاب الأدب العربي (بدرجة البكالوريوس أو الماجستير) قواعد اللغة العربية الإملاء العربي، المفترض في طلاب الصفوف الابتدائية إتقانها. وكان هذا الحديث في أواخر عقد السبعينيات من القرن الماضي.

إن الأمر يتجاوز كونه غضبة مضربة للدفاع عن لغة العرب القومية، فالمشكلة أفدح من ذلك بكثير. لقد أصبح العرب المعاصرون، يزدادون في كل يوم عجزاً في التعبير عن مشاعرهم وعن أفكارهم في أي مجال من مجالات الحياة. ومن يذهب إلى البدايات الأولى لظهور هذا العجز، فإنه سيرجع حتماً إلى تلك الهجمة العنترية التي اتبعناها في سعينا للإلمام باللغات الأجنبية. ولأنها كانت هجمة عنترية عفوية، منطلقة من عقدة النقص، ومن رغبة غاضبة بالتقدم، لا تملك خطة مدروسة، ولا تصوراً واضحاً لنقطة الانطلاق وللهدف المنشود، فقد أخذت تستقر داخل نفس كل مواطن عربي يسعى إلى التثقف والتقدم، معادلة عجيبة غريبة مفادها أن اللغة العربية مرادفة للتخلف، وأية لغة أجنبية مرادفة للتقدم، فاختلت علاقة الإنسان العربي، ربما لأول مرة في التاريخ، بلغته الأم.

طبعاً، لا يمكن أن تكون المشكلة كامنة في سعي الإنسان العربي إلى إتقان لغة أجنبية أو أكثر، فطالما رددت العرب عبارة «كل لسان بإنسان»، ومارست ذلك. حتى أن ذروة عصور النهضة العربية الحضارية الشاملة، المترافقة مع ذروة النهضة العربية في الترجمة من اللغات الأجنبية وإليها، في عصر الخليفة العباسي المأمون، كانت مترافقة أيضاً مع ذروة العلاقة الإيجابية بين العرب ولغتهم الأم.

المشكلة هي بالتحديد، في أن العرب لا يسعون إلى إتقان لغة أجنبية أو أكثر انطلاقاً من قاعدة صلبة راسخة، هي إتقان اللغة الأم أولاً. ولا داعي هنا لاستحضار الأبحاث العلمية التي تؤكد كلها أن العلاقة بين أي إنسان ولغته الأم ليست مجرد مسألة لغوية، ولكنها علاقة نفسية وجدانية عميقة، تحدد نسبة التوازن النفسي لدى ذلك الإنسان، والتوازن العقلي، كما تحدد نسبة الانطلاق الحر لملكاته الإبداعية، فنية كانت أم عقلية، أدبية أم حسابية.

ولعل الإنسان الأميركي، ابن الولايات المتحدة اليوم، هو من أسعد البشر، لأسباب عديدة، من أهمها أنه من المهد إلى اللحد، غير مضطر إلى تعلّم أية لغة أخرى غير لغته الأم: بها وحدها يستطيع أن ينتمي إلى العصر الحديث، بل يتربع على عرشه، في الأدب كما في التجارة، في السياسة كما في الحرب، في شتى ألوان العلوم كما في شتى ألوان الفنون. إنه من هذه الناحية المتعلقة بقدراته التعبيرية والإبداعية، أكثر البشر المعاصرين الذين يعيشون حالة تصالح كاملة بين لسانهم ووجدانهم. أما الإنسان العربي، فلعله في هذا السلم، من الواقفين على أواخر درجاته.

لا شك في أن العرب المعاصرين قد ولدوا في عصر شديد الصعوبة والتعقيد، فلا يستطيع الإنسان العربي مواصلة دراسته العليا في الخارج، إلا بإتقان لغة أجنبية أو أكثر: اللغة الإنجليزية أولاً، لأنها لغة عالمية مشتركة في هذا العصر، ولأنها لغة الحواسيب. اللغة الألمانية، أو غيرها، للدراسات العليا في علوم الميكانيكا. اللغة الإيطالية، أو غيرها، للدراسات العليا في الفنون. اللغة الفرنسية، أو غيرها، للدراسات العليا في القانون. إلى آخر هذه القائمة من اللغات الأجنبية.

ولكن من قال أن الانطلاق نحو إتقان لغة أو أكثر من هذه القائمة الطويلة، يمر بقطع الصلة الطبيعية باللغة العربية الأم؟ إن نصف قرن من التخبط العربي العام في هذا الاتجاه، قد أنتج ما يكفي من الكوارث، في كل اتجاه.

فالعربي المعاصر الذي يفقد الصلة بلغته الأم بشكل متدرج، إنما يسير بخطى حثيثة نحو فقدان الصلة بكل محاور توازنه الداخلي، نفسياً وعقلياً: فقدان الصلة بنفسه، وبأعماقه الوجدانية المكونة عبر التاريخ على أساس اللغة العربية الأم. فقدان الصلة بمحيطه الاجتماعي الأم، مجتمع بلده وأمته العربية. فقدان القدرة على إقامة علاقة متوازنة سليمة مع المجتمع الأجنبي الذي يقيم فيه مؤقتاً للدراسة، أو نهائياً للهجرة.

إن اضطراب علاقة الإنسان العربي المعاصر بلغته الأم، أشبه ما يكون بحالة انفصام في الشخصية الحضارية والاجتماعية لذلك الإنسان، بل حتى في شخصيته الفردية. فأنت لا تستطيع أن تتقدم، بالتخلص من لغتك الأم، فإما أن تتقدما معاً، أنت ولغتك الأم، وإما أن تفقدها وتفقد ذلك معها.

وإذا كانت اللغة العربية تُبدي عجزاً في مواكبة بعض العلوم الحديثة والتعبير عنها، فمن المؤكد أن ذلك
لا يرجع إلى قصور فيها أو في بنيتها الداخلية، بل إلى كسل حضاري فظيع يبدو أن العرب المعاصرين قد استمرأوه هاربين إلى أية لغة أجنبية.

ألم نكتشف بعد أن اللغة الأجنبية قد تحل لنا معضلة العلاقة مع أي علم حديث، ولكنه ليس أكثر من حل جزئي. فقد أثبتت الدراسات أن ملكات الفهم العلمي والإبداع العلمي تكون مضاعفة عندما يمارسها الإنسان بلغته الأم. فإذا خرجنا من العلم إلى مجالات الحياة الأخرى، فإن أية لغة في العالم
لا تستطيع أن تحل محل لغتك الأم في توازنك النفسي الداخلي عندما تغضب أو تثور أو تهدأ أو تصفو أو تحب أو تكره، أو تحلم، أي عندما تريد التواصل مع نفسك، أو مع محيطك الاجتماعي الطبيعي.

أضف تعليق

التعليقات