الثقافة والأدب

أول محطة عربية بعد القاهرة
هنا.. القدس

ليست إذاعة القدس كباقي الإذاعات، فلوجودها على أرض فلسطين دلالات ترتقي بها إلى مصاف الشواهد التاريخية على حقيقة الوطن المسلوب الذي حاول البعض، بجرأة غريبة، التشكيك في هويته في النصف الأول من القرن العشرين.. مكتب القافلة في بيروت يحدثنا هنا عن تاريخ هذه الإذاعة، وسجلها الثقافي والفني خلال عمرها القصير.

عندما خرجت دول المشرق العربي (وبينها فلسطين) من إطار الإمبراطورية العثمانية مع نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، وبدأت تفتح عيونها على الحياة العصرية في مختلف المجالات، كان كثير من الاختراعات والاكتشافات الحديثة التي ظهرت في أوروبا وأميركا بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، تأخذ طريقها إلى التطبيق في الحياة العملية، ولكن بخطوات بطيئة في بداية الأمر.

من أهم هذه الاختراعات الحديثة الطائرة والسيارة والهاتف والمذياع والسينما والتصوير الفوتوغرافي، وسوى ذلك.

ومع أن الدعاية الرائجة عن فلسطين في أوروبا وأميركا في ذلك الوقت كانت موزعة بين شعارين، يقول أحدهما أن فلسطين هي أرض بلا شعب، ويقول الثاني أنها أرض يسكنها شعب متخلّف، فقد كان الواقع العملي لعرب فلسطين يناقض تماماً هذين الشعارين، ويضع شعب فلسطين بين مقدمة الشعوب العربية التي تعاملت مع كل مخترعات الحياة العصرية، وتطبيقاتها العملية، وما يهمنا منها في هذا المقال هو الفن الإذاعي، الذي كان وليداً في جميع أنحاء العالم يومها.

فعندما أنشئت إذاعة القدس، في العام 6391م كان ذلك بعد عامين فقط من إنشاء أول إذاعة عربية رسمية في القاهرة (منتصف 4391م)، وقبل عام واحد من وفاة العالم الفيزيائي الإيطالي الشهير ماركوني (7391م) الذي كان صاحب الفضل في تطبيق علم الذبذبات اللاسلكية في مجال البث والاستقبال الإذاعي، أي أنه بالتعبير الرائج، مخترع الفن الإذاعي (الإرسال) وجهاز الراديو (الالتقاط أو الاستقبال).

والحقيقة أن ظهور إذاعة القدس في ذلك الوقت من القرن العشرين، لم يكن فقط دليل حيوية في التعامل المبكر مع اكتشافات واختراعات الحياة الحديثة، ولكنه كان أيضاً سجلاً لحيوية ثقافية مبكرة وبالغة الخصوبة كما تؤكد كل المعلومات التاريخية عن تلك الإذاعة العربية التي عاشت حياة قصيرة لم تتجاوز اثني عشر عاماً، قبل أن تنتقل إلى رام الله في العام 8491م، ثم تنتقل مرة ثانية من رام الله إلى عمان، لتتحول بعد ذلك إلى إذاعة المملكة الأردنية.

ومن العلامات الفارقة في حياة هذه المحطة الإذاعية العربية الرائدة، أن رئاسة القسم العربي فيها قد تولاها ثلاثة في عمرها القصير، هم إبراهيم طوقان، وعجاج نويهض، وعزمي النشاشيبي، والأولان منهما إسمان لامعان في حقل الشعر والتاريخ. فإبراهيم طوقان، هو شاعر فلسطين الأول في مرحلة ما قبل النكبة، والثاني هو الأديب والمؤرخ الفلسطيني، الذي سنعتمد على مذكراته الشخصية في معلوماتنا الأساسية عن إذاعة القدس.

وللأمانة التاريخية، لا بد من أن نسجل أن المبادرة في تأسيس تلك الإذاعة العربية، صدرت عن سلطات الانتداب البريطاني، لأغراض دعائية سياسية. غير أن تاريخ هذه الإذاعة يؤكد أن السلطات البريطانية قد ركزت نفوذها واهتمامها على الناحية الإخبارية السياسية، التي كانت تمارس إشرافاً مباشراً وحازماً عليها. أما المجالات الثقافية والفنية، فقد كانت متروكة بحرية شبه كاملة لأهل البلد يعبّرون فيها عن أنفسهم كما يحلو لهم.

تأسست إذاعة القدس بثلاثة أقسام: إنجليزي وعربي وعبري، وكان القاسم المشترك فيما بينها نشرات الأخبار الخاضعة تماماً للرقابة السياسية لسلطات الانتداب البريطاني، والأساس فيها نشرات تحرر أصلاً باللغة الإنجليزية، ثم تتم ترجمتها حرفياً إلى العربية والعبرية. أما المواد الثقافية والفنية، من موسيقى وبرامج إذاعية، فكانت تترك في إنتاجها والإشراف عليها لرئيسي القسمين العربي والعبري.

إذاعة القدس فـي المجال الثقافي
يبدو أن حرص السلطات البريطانية على نجاح إذاعة القدس في أداء المهمة التي أسست لأجلها، وجذب المستمعين العرب في فلسطين وما جاورها من بلدان عربية قد دفع هذه السلطات إلى إقامة الإذاعة على دعامتين أساسيتين:

– قوة الإرسال الإذاعي الذي كان يغطي كل المناطق العربية المحيطة بفلسطين شرقا حتى العراق وجنوبا حتى صعيد مصر.

– رفعة المستوى الثقافي والفني الذي كان هدفاً تحرص عليه إذاعة القدس منذ تأسيسها. ولم يكن اختيار شاعر مرموق (إبراهيم طوقان) وأديب مرموق (عجاج نويهض) سوى دليل أول على هذا الاتجاه. فقد روى عجاج نويهض في ذكرياته عن إذاعة القدس (كتاب ستون عاماً مع القافلة العربية – دار الاستقلال بيروت – 3991م) أنه قبل وقوع الاختيار على إبراهيم طوقان لرئاسة القسم العربي في الإذاعة، كان اتجاه السلطات البريطانية قد وقع على اثنين من كبار رجال الثقافة والأدب واللغة العربية في فلسطين لاختيار أحدهما رئيساً للقسم العربي: خليل السكاكيني وعادل جبر، ولكن الاختيار تحول بعد ذلك إلى الشاعر إبراهيم طوقان.

غير أن إذاعة القدس قدمت فيما بعد عشرات الأدلة الحية على رفعة المستوى الثقافي في برامجها، ورفعة مستوى اللغة العربية المستخدمة في الإذاعة في نصوصها المكتوبة، وفي أسلوب إلقائها.

وقد بلغ من اهتمام إدارة القسم العربي في إذاعة القدس بالتشدّد في رفع مستوى اللغة العربية في الإذاعة أن الأستاذ عجاج نويهض، مدير القسم العربي، اختار مراقباً للغة العربية في الإذاعة، هو الأديب الفلسطيني المعروف خليل بيدس، الذي كان يراقب من بيته ومن خلال المذياع، مستوى نصوص اللغة العربية المذاعة، وجودة إلقائها من قبل المذيعين.

كذلك، نظمت الإذاعة مسابقة لاختيار أفضل المذيعين لغة وثقافة، وكانت النتيجة اختيار كوكبة من أهم المذيعين العرب في ذلك الوقت المبكر، أهمهم وأشهرهم الأساتذة راجي صهيون، وعلي مراد، وعقيل هاشم.

ويؤكد الأستاذ نويهض أن هذا الحرص الدؤوب على مستوى اللغة العربية في إذاعة القدس كان يلفت نظر المستمعين إليها من كبار أدباء العربية في سورية ولبنان ومصر والعراق، وأن المذيع في إذاعة القدس كان بوسعه تجنب أي خطأ لغوي حتى لو استمر نصف ساعة كاملة في القراءة. وكان الخطأ اللغوي الواحد إذا ارتكب في إذاعة القدس، يتحول إلى حديث المجتمع المقدسي، يتبادلون أخباره أسبوعاً كاملاً بعد وقوعه.

بعد ذلك، أدخلت إذاعة القدس نظام الأحاديث الإذاعية المدفوعة الأجر، الذي كان متبعاً في الإذاعات الأوروبية العريقة، كإذاعة لندن، الأمر الذي اجتذب إلى إذاعة القدس في ذلك الوقت المبكر كبار الأدباء العرب، من مختلف البلاد العربية المحيطة بفلسطين، لإلقاء أحاديثهم الأدبية الرفيعة من مذياعها. وكان بين هؤلاء أدباء من وزن العقاد والمازني من مصر، وخليل تقي الدين من لبنان ومحمد كرد علي، رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق.

أما في الشعر، فقد اشتهرت إذاعة القدس بتنظيم المسابقات الأدبية بين شعراء العرب، وكانت لجنة التحكيم مؤلفة في مسابقة العام 2491م من كبار الشعراء العرب في ذلك الحين: فؤاد الخطيب، وخليل مردم بك، وبشارة الخوري (الأخطل الصغير). وقد بلغت الأحاديث الأدبية التي كانت تذاع من القدس مرتبة أدبية رفيعة دعت إلى التفكير بنشرها في سلسلة من الكتب، لم يصدر منها، للأسف الشديد، سوى الجزء الأول بعنوان «أحاديث الإذاعة».

إذاعة القدس في المجال الموسيقي
كان القسم العربي لإذاعة القدس يضم في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين فرقتين كبيرتين للموسيقى العربية، تضم كل منها عشرين عازفاً، واحدة بقيادة الموسيقي الفلسطيني يحيى السعودي،
والثانية بقيادة الموسيقي المصري، (عازف القانون)، محمد عطية. وقد اجتهدت إدارة القسم العربي في تطوير هاتين الفرقتين بإجبار العازفين على تعلّم كتابة وقراءة النوتة الموسيقية، وذلك بوضع نظام صارم يعطي العازفين الذين يجهلون النوتة الموسيقية مهلة معينة لإتقانها، تحت طائلة الفصل من العمل إذا لم يفعلوا ذلك.

ويبدو أن هذا الأمر أثار في بادئ الأمر استياء أعضاء الفرقتين الموسيقيتين، غير أنهم جميعاً شعروا بعد ذلك بالفائدة الكبرى التي جنوها من ذلك النظام الصارم. ولعل الثمرة الكبرى لإتقان العازفين الفلسطينيين قراءة وكتابة النوتة الموسيقية في ذلك الوقت المبكر من القرن العشرين، أن هؤلاء العازفين، شكلوا بعد نكبة فلسطين في العام 8491م القاعدة الأساسية للفرق الإذاعية الموسيقية في البلدان العربية التي لجأوا إليها مثل إذاعات بيروت ودمشق وبغداد وعمان. وكان للموسيقي الفلسطيني يوسف البتروني، الذي درس الموسيقى في إيطاليا، الفضل في قيادة عملية التطوير هذه. غير أن البتروني لعب دوراً مهماً آخر في ذلك الوقت، هو قيادة الأوركسترا السمفونية التابعة لإذاعة القدس، والمشكلة من عازفين أوروبيين وعرب. ويبدو أن تلك الفرقة السمفونية كانت القاسم الفني الوحيد المشترك بين أقسام إذاعة القدس الثلاثة، ولكنها كانت توضع تحت قيادة يوسف البتروني، عندما تقدم حفلات لحساب القسم العربي من الإذاعة.

لقد بلغ مدى التطور الموسيقي في إذاعة القدس قبل ستين سنة ونيف، أنها شكلت بؤرة استقطاب للعازفين والملحنين والمطربين من كل الأقطار العربية المحيطة بفلسطين، فغنى وعزف وراء مذياعها موسيقيون ومطربون عرب كبار منهم، على سبيل المثال عازفا القانون المصريان الكبيران محمد عطية وعبد الفتاح منسي، ومطربون مثل فريد الأطرش وأسمهان ومحمد عبد المطلب. ويؤكد هذا الأخير في مذكراته أن ظهوره الأول في مصر انتهى بفشل ذريع، ولكنه عندما انتقل إلى إذاعة القدس أتيحت له فرصة الظهور والتطور والازدهار، فعاد من فلسطين إلى القاهرة (وهو المصري) مطرباً مشهوراً يشار إليه بالبنان.

كما أن الموسيقار اللبناني المعروف توفيق الباشا، الذي عمل في إذاعة القدس عندما انتقلت إلى رام الله بعد النكبة، يؤكد أن الألوان الفولكلورية اللبنانية، كانت تقدم بشكل ضعيف وفقير في إذاعة بيروت، التي كانت في ذلك الوقت ضعيفة الإمكانات، ولكن هذه الألوان وجدت في إذاعة القدس اهتماماً بالغاً، حيث كانت تعرض بمساهمة المطربين اللبنانيين الموهوبين والعازفين الفلسطينيين المهرة، بمستوى راق لعله كان أساس النهضة الموسيقية العارمة في لبنان بعد ذلك في عقدي الخمسينيات والستينيات.

والواقع أن سجل الإبداع الثقافي والفني في إذاعة القدس في ذلك الوقت المبكر من القرن العشرين، أطول من أن تختصره هذه السطور، ولكننا اكتفينا بنماذج منه كافية لتكوين صورة عن نهضة ثقافية – حضارية كبرى انقطع مسارها في يوم ما من العام 8491م.

——–

افتتاح إذاعة القدس
«افتتحت هذه المحطة بعد أن اكتملت تجهيزاتها وأجهزتها الفنية. وهي تحتوي على أحدث استوديوهات. وذلك بعد أن عدّلت الحكومة داخل المبنى في الردهات الكبرى تعديلاً يقتضيه الفن اللاسلكي، فأصبحت هذه الدار من الوجهة الفنية على أكمل وجه. و «بناية الحبشة» مؤلفة أساساً من طبقتين أنيقتين، وكانت تعدّ من أجمل بنايات القدس، وهي ملك حكومة الحبشة، وكانت مجموعة من الأجهزة الفنية للإرسال تعتبر أقوى مجموعة في الشرق الأوسط بعد أنقرة. وكان ارتفاع أعلى سارية فيها يبلغ مائتين وخمسة وعشرين متراً».

أضف تعليق

التعليقات