قول في مقال

الوسطية الإسلامية في الحرية الإنسانية

بأي روح تكون رؤية التميز الإسلامي في النظر إلى الأفكار والحريات؟ لقد كانت هذه الرؤية مصدر إثراء للفكر الإنساني، لا مصدر نقص أو استعلاء. الدكتور محمد عمارة يناقش هذا الموضوع..

عندما يكون الحديث عن الحرية، والحرية الإنسانية على وجه التحديد، وعن مكانة الإنسان، التي تحددها له الحرية فـي الكون بإزاء الأغيار – وفـي المجتمع – بإزاء الآخرين.

عندما يكون هذا هو موضوع الحديث.. فلابد من الإشارة إلى المذاهب التي شغلت العقل الإنساني، واستقطبت فلاسفته ومفكريه إزاء تلك القضية الأزلية.. قضية الجبر والاختيار.. فهل الإنسان مجبر.. مسير.. ليس له من الأمر شيء.. كالريشة المعلقة في الهواء تميلها حيث مالت!.. أم أنه حر مخير.. وهو الصانع الوحيد لأفعاله، على وجه الإطلاق!.. ثم.. ماذا عن موقف الإسلام من هذه القضية على وجه التحديد؟.. وماذا تعني الوسطية الإسلامية في هذا المقام؟
الإســلام.. ديـن وســط
منذ البداية ننبه على رفض الإسلام لمذهبي الجبر الخالص والتفويض المطلق كليهما!. فلا الذين قالوا بالجبر الخالص قد أصابوا في التعبير عن حقيقة فلسفة الإسلام في هذا المقام.. ولا الذين توهموه حراً لا تعرف حريته الحدود ولا القيود، قد أصابوا كذلك.. وإنما هو الموقف الوسطي، المعبر عن فلسفة الإسلام..

فأنت حر.. تلك هي الحقيقة الموضوعية والملموسة – لكن حريتك واختيارك، ليست حرية القادر على كل شيء، ولا الذي يفعل ما يشاء وكأنه في فراغ.. إنك تختار – نعم – ولكن من بين بدائل لم تصنعها أنت، فاختيارك محكوم بحدود هذه البدائل التي ليست من صنعك!.. وإرادتك حرة – هذه حقيقة – لكن هذه الإرادة الحرة هي ثمرة لمحيط ولعوامل ولمؤثرات ليست من صنعك، سواء أكانت حولك، أو في نفسك مما ورثته، أو لا تستطيع صنعه أو تعديله، فإنها جميعاً تسهم في تلوين إرادتك الحرة، وتحديد نطاق حريتها.

حريّة الإنسان النسبية
إذن، حريتك نسبية.. وأنت حرّ، ولكن في حدود. وإذا كانت حرية الإنسان هي القوة التي يختار بها ويريد ويفعل.. وإذا كانت العوامل المحيطة والملابسات المصاحبة هي القدَر الإلهي، الخارج عن نطاق الفعل الإنساني، فإن العلاقة بين هذين العاملين هي التي تحدد نطاق حرية الإنسان.. فالحرية، هنا، ليست نقيضاً لـلقدر، وإنما هو حاكم لإطارها ومداها.. ورحم الله فيلسوف الإسلام أبو الوليد ابن رشد، 025 – 595هـ (6211 – 8911م) الذي أجاد التعبير عن مذهب الإسلام في هذا الأمر المشكل فقال: «إن لنا قوى نقدر بها أن نكتسب أشياء هي أضداد. لكن لما كان الاكتساب لتلك الأشياء ليس يتم لنا إلا بمواتاة الأسباب التي سخرها الله لنا من الخارج، وزوال العوائق عنها، كانت الأفعال المنسوبة إلينا تتم بالأمرين جميعاً: بإرادتنا، وموافقة الأفعال التي من الخارج.. وهذه الأفعال التي من الخارج هي المعبر عنها بقدَر الله.. فمذهب الإسلام هو التوسط بين الجبر المطلق والاختيار الذي لا يعرف القيود».

الإسلام.. وحرية اختيار المعتقد الديني
وإذا كان المقام لا يسمح باستقصاء تفاصيل هذا الموقف الإسلامي، من حرية الإنسان في المجتمع، بكل الميادين وإزاء سائر المشكلات، فإننا نكتفي بإرشادات توجز هذا الموقف في عدد من أبرز هذه الميادين والمشكلات..

ففي حرية الاعتقاد الديني.. شهد بذلك الإجماع المنعقد على انتصار الإسلام لحرية الإنسان في اختيار المعتقد الديني.. والقرآن الكريم عندما أعلن أنه «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ» (سورة البقرة: الآية 652)، لم يكن يصدر عن مجرد «التسامح الكريم» مع الذين اختاروا غير الإسلام دينا.. وإنما كان يعبر عن الاتساق الفلسفي في قضية التدين، الذي يستحيل أن يكون طريقه الإكراه.. فالإيمان، في عرف الإسلام: تصديق بالقلب يبلغ درجة اليقين.. وبدون الاختيار الحر لا سبيل إلى تحصيل هذا اليقين بالإيمان. والألوهية الواحدة، هي جوهر التدين، في عرف الإسلام.. وهو قد حدد النظر العقلي سبيلاً إلى معرفتها واليقين بوجودها، لأن الإيمان بالوحي والنصوص والمأثورات تابع ومتوقف على التصديق بالرسول، صلى الله عليه وسلم، الذي جاء بهذه النصوص والمأثورات، والتصديق بالرسول تابع ومتوقف على التصديق بوجود الإله، سبحانه وتعالى، الذي أرسل هذا الرسول.. فلابد من معرفة الألوهية والإيمان بها أولاً.. وأداة ذلك – قبل النصوص – هو العقل الذي يهتدي إلى الصانع بالنظر في الموضوعات.. وبدون الاختيار الحر لا سبيل لإعمال النظر العقلي الذي يفتح أمام الإنسان الباب الأول لجوهر التدين بالدين.

وهذا الانتصار الإسلامي لحرية الإنسان في الاعتقاد الديني، لا يقف عند رفض إكراه الآخرين على التدين بالإسلام، وإنما هو يرفض، كذلك، إكراه الذات إذا عرضت لها الوساوس والشكوك التي زلزلت منها يقين الإيمان.. فلو أن إنساناً تأمل، فشك فألحد، فإنه، بنظر الإسلام، مطالب بأن يبذل وسعه وجهده في البحث عن سبل ودلائل الاهتداء.. فإذا بذل الوسع، دون تقصير، وجاءته المنية دون أن يمتلك يقين الإيمان، فهو – إسلامياً – من الناجين.. لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ويمتنع في الإسلام تكليف ما لا يطاق.. وبعبارة الإمام محمد عبده 6621 – 3231هـ (9481 – 5091م): «فلقد قال قائلون من أهل السنة: إن الذي يستقصي جهده في الوصول إلى الحق، ثم لم يصل إليه، ومات طالباً غير واقف عند الظن، فهو ناج»

لكن.. لما كان الإيمان والتدين، وسبيلهما العقل، هما من كمال العقل.. ولما كان التدين – بتحريره الإنسان من العبودية للطواغيت، وبتحقيقه إنماء الإنسان للكون، وإنقاذه إياه من الاغتراب – هو من أهم ركائز النظام الاجتماعي للمجتمع الإنساني الراشد، فإن الإسلام يمنع من أصابه مرض الشك وآفة الإلحاد من نشر عدوى مرضه وإشاعة جراثيم الآفة التي أصيب بها.. وهو هنا لا يحجر على حق ولا ينتقص من حرية، وإنما يحافظ على أساس النظام الاجتماعي من أن ينتقض إذا شاعت فيه الآفات والأمراض.. إنه لا يُكره المرضى على لبس تاج الأصحاء، لأنه
لا يريد نفاقاً ومنافقين.. فقط يريد منهم البحث عن دواء أمراضهم، قدر الطاقة، والامتناع عن محادة الله ورسوله وتقويض الإيمان، باعتباره الأساس الراسخ للاجتماع الإنساني الرشيد.

الإسلام.. وحرية تملك الأموال والثروات
وفيما يتعلق بنطاق الحرية الإنسانية إزاء الأموال والثروات الاجتماعية.. فقد رفض الإسلام قطبي التطرف: تجريد الفرد من حق التملك، وإطلاق حريته في التملك دونما حدود.. ووقف الموقف العدل بين ظلمين، المعتدل بين تطرفين، موقف الوسطية الإسلامية، الجامع لا يمكن جمعه وتأليفه من القطبين جميعاً!.. فالمال مال الله، والناس مستخلفون فيه.. ملكية الرقبة – الحقيقية – في المال هي لله – وللإنسان فيه ملكية المنفعة – المجازية – وظيفة اجتماعية تتيح تنميته والاستمتاع به في حدود عهد الاستخلاف.. وللتنبيه على هذا المعنى والموقف، وإشارة إلى هذه الفلسفة الإسلامية في الأموال، كانت إضافة القرآن الكريم مصطلح المال – في آياته الكريمة – إلى ضمير الجمع في تسع وأربعين آية، وإلى ضمير الفرد في سبع آيات!.. وكانت آياته التي تعلن: «والأرض وضعها للإنام» (سورة الرحمن: الآية 01).. «وكذلك وهو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً» (سورة البقرة: الآية 92).. وأيضاً: «وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه» (سورة الجاثية: الآية 31).. وأخيراً وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه.. (سورة الحديد: الآية 7).

فالله سبحانه وتعالى، هو مصدر هذه الأموال جميعاً، خلقها وأودعها في الطبيعة، وهو وحده مالك الرقبة فيها. والإنسان – من حيث هو إنسان – وليس كفرد أو طبقة – مستخلف عن الله في هذه الأموال، يستثمرها بالعمل المشروع، ويحوز منها – كملكية منفعة ووظيفة اجتماعية – ما يحقق كفايته، وفق العرف ودرجة رخاء المجتمع وحظه من الغنى والثراء.. فميّز الله العدل، المؤسس على هذه الوسطية في الحرية المالية والاقتصادية، وهو العاصم للإنسان من الهبوط إلى درك الفقر الذي يفقد الإنسان مقومات حريته، ويسلب منه مضمون الانتماء لمجتمعه ووطنه.. وهو العاصم، أيضاً، لهذا الإنسان من الاستعلاء إلى درجة الاستغناء، الذي يركز ثروات الأمة فتكون دولة بين الأغنياء (سورة الحشر: الآية 7)، الأمر الذي يغريهم بالطغيان بواسطة سلطان المال.. «كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى» (سورة العلق: الآيتان: 6 و 7).. وهذا الطغيان المالي، مثله كمثل الفقر، عدو للحرية الاجتماعية للإنسان.

هكذا توسط الإسلام بالحرية الإنسانية إزاء الأموال والثروات، كواحدة من عمد المجتمع الإنساني.

العالم.. منتدى الأمم
وبعد.. فإننا نعيش على كوكب خلق الله أهله شعوباً وقبائل ليتعارفوا.. وجعل من آياته في خلقه اختلاف الألسنة والألوان.. ولو شاء سبحانه لجعلنا، نحن البشر أمة واحدة، ولكنه، جلّت حكمته، رأى وأراد الاختلاف والتمايز والتنوع مصادر للغنى والثراء.. وإذا كان الإنسان الراشد لا يجد حرجاً في أن يصافح الآخرين دون طمس لبصمته ومسخ لهويته، فكذلك الأمم العريقة ذات الشرائع المتميزة والحضارات الخاصة.. عليها أن تقبل كوكبنا كمنتدى لأمم الحضارات العريقة، يتم فيه التفاعل بين المستقلين الراشدين، مع الاحترام للتمايز فيما هو من الخصوصيات الحضارية، والإسهام في تنمية رصيد المشترك الإنساني العام..

وبهذه الروح تكون رؤية التميز الإسلامي في النظر إلى حرية الإنسان في المجتمع، مصدر إثراء للفكر الإنساني، لا مصدر نقض أو استعلاء !.. والله أعلم.

أضف تعليق

التعليقات