الثقافة والأدب

فهد المصبّح والقصة السعودية القصيرة جداً

الحذف الفني.. يبحث عن متعة

القصة القصيرة جداً جنس إبداعي حديث لم يتجاوز عقده الثالث في العالم العربي بعد. لكنه أخذ يتكرس في وعي القصّ العربي على نحو يمكن التقاطه وإدراك أبعاده الجمالية في بعض الأعمال القصصية السعودية..
القاص ناصر الجاسم واحد من المشتغلين بحثاً في هذا الجنس الإبداعي القادم، ويقدم لقراء (القافلة) هنا نموذجاً سعودياً صاعداً، من خلال تجربة القاص فهد المصبّح التي تعرضها مجموعته الأخيرة: «الزجاج وحروف النافذة»..

التأسيس هو أصعب ما يواجهه المعماري، حين يشرع في البناء، وقد أدرك البنّاءون – منذ عرف الإنسان التشييد – أن البناء الرأسي أسهل بكثير من البناء الأفقي وأقصر زمناً. وما ينطلق على البنّائين والمعماريين في مسألة التأسيس ينطبق أيضاً على المفكرين والمبدعين حين يبنون ثقافة أو يؤسسون إبداعاً أو يضعون أركاناً.

قدرهم الجميل أن يكون بناؤهم رأسياً حتى يقف عند نقطة ما، أو مستوى معين، وهكذا يكون الخلق الفني في كافة الأجناس الأدبية. إنها تنمو رأسياً وليس أفقياً؛ لذا كان الجدل ينشب دائماً حول الأسس المميزة لكل جنس من الأجناس الأدبية بين النقّاد. إن الأجناس الأدبية بيوت فنية لا تتشابه ولا تتساوى في القصر أو الطول أو الحجم وإن كانت مادة البناء أو الطوب شيئاً واحداً هو «اللغة»، وقدر القص أنه فن لا ينقطع، وقد ارتبط في البداية بحاسة التذوق «اللسان» وبحاسة السمع «الأذن»، فكان الفن الأول من فنون القول البشري، ودخلته المشاعر الذاتية والرموز والأساطير، وأتى بعده فن الشعر ليزاحمه ويتصارع معه، وما زال التزاحم والصراع مستمرين حتى يومنا هذا!!، والقص القديم المعروف بـ «القص الديني» هو بداية الفنون جميعاً، وقد جاء قصاً طبيعياً سلساً لا تكلّف فيه، ثم تولى الإنسان مهمة القص حين يركب على ظهور الدواب، أو حين يمشي على رجليه في الفيافي والقفار، أو حين يريد السلوى أو السمر فنشأت، تبعاً لهذه المهمة، مهمة أخرى هي وضع القوانين لهذا القص حتى يحقق أهدافه المنشودة، فاكتُشف الناقد الأول تلقائياً لينقد هذا القص الذي يسمعه، فأخذ يحدد بحاستيه معاً (اللسان والأذن) قواعد الإعجاب والإبهار، فصاغ الناقد العربي الأول ما يُعرف بقواعد سجع الكهان، وهو فن قصصي ديني الطابع.

القصة القصيرة جداً
ولكن لماذا يقص القاص الحديث قصصاً متناهية في القصر؟! القضية ليست قضية تحول فني؛ لأن القصة القصيرة جداً أو الأقصوصة هي الدرب القصير غير الممهد، غير المضاء، وغير الواسع أيضاً، ومع ذلك يصر القاص الحديث على السير فيه برغبة وطموح غير محدودين!!

ألم يعِ القاص الحديث أن الإبحار في المحيطات أسهل من الإبحار في مضائق المياه؟! إذن لماذا هذا التحدي وذلك التعنت؟!

إن ما استشعرته في الأدباء السعوديين، شعراء أو قصّاصين، هو العمل الدؤوب على محو مقولة إننا بلد نفطي فقط، وأن ثقافتنا نفطية، فلذلك سارعوا إلى تجريب الكتابة في كل جنس من أجناس الأدب المتنوعة، الموروثة أو الوافدة. وكانت القصة القصيرة جداً من الأجناس الأدبية الوافدة التي أخذوا يجربون فيها إبداعهم خصوصاً وأن عمر هذا الجنس الأدبي في العالم العربي لا يزيد على ثلاثين عاماً. ولجوء القاص السعودي إلى كتابة القصة القصيرة جداً لم يكن بدافع التجريب فحسب، إنما يضاف إليه دافعان آخران هما: الإبداع في هذا الجنس الأدبي والإضافة إلى الإبداع؛ وأقول الإضافة إلى الإبداع لأن الإبداع الإنساني فعل جماعي وليس فعلاً فردياً.

القصة القصيرة مثلاً بدأت على يد كاتب فرنسي ولكنها تطورت كثيراً من بعده، تطورت على أيادي كتاب عرب وأجانب، ولكن الدراسات النقدية المقارنة ضعيفة على مستوى العالم حتى تثبت صحة ما أقول.

الحذف الفني
القصة القصيرة جداً هي قصة الحذف الفني والاقتصاد الدلالي الموجز الحي وإزالة العوالق اللغوية والحشو الوصفي، إن هذا الإجراء التجريبي ليس إجراءً حسابياً رقمياً بأية حالٍ من الأحوال وإلا كان نهايته الفشل في التجربة الكتابية وفي الظفر بإبداع حقيقي؛ إنه إجراء فني تصنعه مهارة كتابية مؤصلة بخلفية لغوية ومقدرة على الخلق الفني والتعامل المبدع مع الفكرة. والثوب الواسع يمكن أن تجعله ضيقاً، أما الثوب الضيق فمن المحال إحالته إلى ثوب واسع إلا بإضافة مواد خام جديدة هي رقعٌ من أثواب أخرى وليس من الثوب نفسه، والذين يكتبون القصة القصيرة جداً بإجادة هم في الأصل كتاب قصة قصيرة وروائيون، أي أن المهارة السردية بمجملها موجودة لديهم، فهم مهيأون لشيء اسمه قص طال أو قصر!!

ومثلما كان الجاحظ يرى أن: «الشعر صناعة وضرب من الصبغ وجنس من التصوير»، فإن القص صناعة أيضاً، فيها الجيد وفيها الردئ، فيها ما أُحكم نسجه وصبغه، وفيها ما لم يُحكم نسجه وصبغه، ونقاد كل عصر أدبي تقع عليهم مسؤولية الفرز الأدبي، والكلية في النجاج البشري محالة فلا بدَّ من أخطاء فنية، والأخطاء تكبر عند كتّاب وتصغر عند كتّاب آخرين، وكتّاب القصة القصيرة جداً لدينا واعون ومثقفون جيداً ولكن ما ألاحظه هو وجود خلط في الكتابة بين قصيدة النثر وبين القصة القصيرة جداً، وحيرة لدى بعض الكتّاب في تسمية ما يكتبونه لدرجة أن بعضهم يجبنُ من أن يصنّف شكل إبداعه!!

المصبّح واللذة الفنية
وفي مجموعته القصصية الخامسة المعنونة بـ«الزجاج وحروف النافذة» ينحو القاص السعودي فهد المصبح منحى صعباً في الكتابة القصصية، حين اختار الكتابة في آخر أخبار السرد، أو آخر ما ابتكره القاصون في تجريبهم المستمر نحو الوصول إلى غاية اللذة الفنية وأقصى درجات الإمتاع ومنتهـى الحرفية، فقصّ في هذه المجموعة اثنتين وعشرين قصة قصيرة من النوع الأحدث فنياً المصطلح على تسميته بالقصة القصيرة جداً والمرموز له (ق.ق.ج)، ليسجل لنفسه ريادة في هذا الجنس من أجناس السرد الأدبي المتعددة على مستوى وطنه المملكة العربية السعودية حيث ما زال القاصّون السعوديون الآخرون يتهيبون الخوض في غمار هذا الجنس الأدبي الجديد ويَحذرون الحذر الكبير من إشكالياته النقدية وتبعاته الذوقية المتعددة، ولم يزل أيضاً نقاد السرد الأدبي وقرّاء القصة العربية في تذبذب وتأرجح حول الاتفاق على جمالية هذا الشكل الأدبي، ومردّ تذبذبهم وتأرجحهم عائد إلى تناهي هذا الشكل الأدبي في الحجم أو الصغر، وإلى أركان وخصائص هذا الشكل التي قد تدفع بهم إلى وضعه في خانة من غير خانات القص وتحديداً في خانة الشعر. وسارِدُنا الذكي فهد المصبح وعى ذلك كله، فهيأ قلمه لهذا التحدي، وأسس نفسه تأسيساً نقدياً عالي القيمة باستيعاب ما كتب من نظريات ودراسات حول هذا الشكل الأدبي، وأشبع ذائقته إشباعاً واضح الأثر بقراءة ما كتبه الكتّاب العرب والأجانب في هذا الجنس السردي المتسّم بعدم الثبات تقنياً، فقدم بعد ذلك هذه المجموعة الفريدة فنياً التي تعد – في رأينا – أنموذجاً صالحاً للتعليم المدرسي وللشرح والتطبيق في كثير من قصصها!!

وحين نقرر فرادة هذه المجموعة فنياً فلا بدّ من أن نبرر ذلك تبريراَ موضوعياً يبعدنا عن الانحياز إلى مؤلفها الذي اعتمد القصّ التقليدي المتفق عليه بين جمهور النقاد إطاراً عاماً في أغلب قصص هذه المجموعة، وشُغِف كثيراً بإبراز عنصر الحدث القصصي – وهو العنصر الذي اهتمت به القصة القديمة على حساب سواه من العناصر القصصية الأخرى – وتلا ذلك في الشغف إبراز عنصر الشخصية الإنسانية حتى لا يفقد القصّ محوره الأساس، ولم يُعْنَ المؤلف إلا قليلاً بالعنصرين المكاني والزماني؛ ولكنه لم يهملهما الإهمال المخل بقواعد الفن القصصي، وفي داخل هذا الإطار العام إطار القصّ التقليدي أدخل وطبّق بمهارة فنية واضحة في أغلب قصصه أركان وخصائص القصة القصيرة جداً، فجاءت أغلب نصوص هذه المجموعة نسيجاً قصصياً محكماً احتوى عناصر القصة القصيرة بمفهومها القديم عند النقاد والقراء وعناصر القصة القصيرة جداً بمفهومها الحديث الذي لم يكتمل عند النقاد والقراء أيضاً، ومن أركان وعناصر القصة القصيرة جداً التي اعتنى المؤلف بإظهارها عناية قصوى في قصصه، تلك التي استخرجها الدكتور أحمد جاسم الحسين في كتابه «القصة القصيرة جداً» الصادر عن منشورات دار عكرمة بدمشق في العام 1997م، ورتبها من حيث الأهمية كالتالي: 1- القصصية 2- الجرأة 3- وحدة الفكر والموضوع 4- التكثيف 5- خصوصية اللغة والاقتصاد 6- الانزياح 7- المفارقة 8- الترميز 9- الأنسنة 10- السخرية 11- البداية والقفلة 12- التناص.

وقد تقصّيت وتتبعت وجود هذه الأركان والعناصر في مجموعة «الزجاج وحروف النافذة» فألفيتها متحققة بوفرة فيها، ولم يُسقط المؤلف إلا عنصر التناص وربما لصعوبة التحقق الفني لهذا العنصر الإشكالي المشاكس بطبعه، وأوغل المؤلف إيغالاً حسناً في تحقيق عناصر مثل القصصية، التكثيف، المفارقة، الترميز، السخرية، البداية والقفلة. وليس من الصواب أن يسعى أي مؤلف في هذا الجنس الأدبي إلى إتخام قصصه بهذه الأركان والعناصر الاثنتي عشر كلها؛ إنما لا بدّ من وجود نصفها على الأقل في القصة القصيرة جداً الواحدة، وله مشروعية الاختيار في الأركان والعناصر التي تلائم قصته دون إلزام بعناصر وأركان محددة على أن العنصر والركن الأهم وجوداً في أية قصة قصيرة جداً هو عنصر القصصية، ولا ننسى احتفاظ المؤلف وحرصه على وجود مكونات القصة القديمة (الشخصيات + الحدث + المكان + الزمان) في أية قصة يكتبها.

ومن قصص هذه المجموعة التي تجذب القارئ وتصيبه بالدهشة وتخلف في نفسه عمق الأثر وتدعوه ملياً إلى التأمل والتفكير قصتان اثنتان نراهما جديرتين بالتقديم، الأولى قصة «يداه تقطران حبراً» والثانية قصة «الزجاج وحروف النافذة» وهذه الأخيرة حملت عنوان المجموعة القصصية.

——–

إقرأ للمصبّح

– ولد القاصّ فهد المصبّح بالأحساء عام 1373هـ، ويعمل بالتدريس في مدينة الدمام.
– له حضور منبري في الفعاليات الثقافية ومشاركات في الصحافة المحلية وعضويات في مؤسسات أدبية رسمية.
– أصدر إلى الآن خمس مجموعات قصصية.

صاحب السيارة البرتقالية
صدرت عام 1408هـ – 1988م في 85 صفحة من القطع الكبير، واحتضنت 14 نصاً قصصياً تقاسمته مضامين إنسانية متنوعة، وتغلب عليها الوصفية السردية. وهذه المجموعة هي باكورة إنتاج المصبّح الذي عبّر فيها عن صوته المحافظ.

للدموع لغة أخرى
صدرت عام 1414هـ – 1993م عن نادي المنطقة الشرقية الأدبي، في 150 صفحة من القطع الكبير، واحتوت على 25 نصاً، ورسم غلافها الفنان عبدالرحمن السليمان. وقد سجّلت هذه المجموعة حساسية أكثر اهتماماً بالإنسان.

الآنسة أولين
صدرت عام 1418هـ – 1998م عن نادي جازان الأدبي، متضمنة 16 نصاً، حاول المصبّح أن يكون فيها أكثر تكثيفاً والتصاقاً بأبطال قصصه القادمين من هامش الحياة.

رداء الذاكرة
صدرت عام 1423هـ – 2002م عن دار الكنوز الأدبية في 84 صفحة شغلتها 13 قصة قصيرة عُنيت أكثر من غيرها بالحنين الجميل إلى البيئة الأولى. وكما أملى العنوان فإن الذاكرة أمدّت المجموعة بالكثير من الإيحاءات.

الزجاج وحروف النافذة
صدرت هذا العام عن نادي القصة السعودي بالرياض، في 55 صفحة من القطع الصغير، احتشدت فيها 22 قصة قصيرة جداً توزّعت على ثلاث مجموعات.

———————-

من قصص فهد المصبّح:
1: يداه تقطران حبراً
عندما تواجهه معضلة يفرُّ إلى الطرقات، حامداً ربه أن ساقيه سليمتان.. الجوع يسكن أمعاءه، فلا يدعه يقر في مكان.. داره لم يعد فيها ما يسد رمقه.. المطاعم لفظته إلى الطرقات.. كان الشارع طويلاً، المارة تسير بوهج الظهيرة الحارق.. وجد نفسه قريباً من مكتبة.. دخلها.. أخذ يتفرس محتوياتها.. وقعت عيناه على كتاب قديم يعرفه.. سحبه، وجلس على الطاولة، ثم أخذ يمزقه قطعاً.. عيون الموجودين تراقبه بدهشة، وهو يلتهمه بتلذذ.. صوتُ مضغه يثير الشهية.. صبي المكتبة أحضر له كوب ماء إشفاقاً عليه، فاكتملت المائدة.. في حين استدعى صاحب المكتبة الشرطة.. شاهدوه يجلس هادئاً.. الشكوك تسمه بلوثة.. أحاطوا به، وانهالت عليه الأسئلة:
– يدعي صاحب المكتبة أنك أكلت كتاباً؟
ابتسم قائلاً:
– وهل يعقل ذلك؟
– الصبي والحضور يشهدون بذلك.
– أين هم؟
كانت المكتبة قد خلت من روادها.. قال الشرطي بلهجة صارمة:
– سنجري لك فحصاً، وإن تبين صدق الشهود ستنال عقابك.
– لا تصدق كلام المجانين.
– بل أنت المجنون.
أخرج الشرطي القيد.. سحب يديه بقوة، وهو يحاول نفي التهمة عنه، وقبل أن يقيده كانت يداه تقطران حبراً.

2: الزجاج وحروف النافذة
كانت تمسح زجاج النافذة بفوطة وبخاخ مناظر، كلما داومت النظر في صفحة الزجاج تهيأ لها أنها غير نظيفة، فتعيد مسحها ورشّها بالرذاذ المتناثر، وتنظر.. تخترق نظراتها زجاج النافذة، متناثرة على أرض الشارع حيث صبية يلعبون بكرة أكبر من حجمهم.. أصواتهم تنبعث قوية، ومطارداتهم جادة.. تعاود المسح من جديد، والنافذة تئن، وهي لا تغيّر مكانها فكلما غادرته ما تلبث أن تعود إليه حتى دخل والدها، ورآها على تلك الحالة.. اقترب منها هامساً:
– ابنتي الزجاج يشف.
– هذه النافذة لا تريد أن تنظف.
– كيف؟
– كلما مسحتها عاودها الغبار.
دنا والدها من النافذة.. حدّق بإمعان، ثم ابتسم وهو يمد يده من الطرف الآخر ويغلقها، ثم انصرف.. عاد الهدوء إليها وهي ترى النافذة نظيفة.. تنفست بارتياح غير أن أصوات الأطفال لم تعد تراها رغم بقاء صورتهم النشطة في سمعها.

أضف تعليق

التعليقات