قضايا

«ليموزين» الناصر تنهض بأسرة وتُخرّج أستاذاً جامعياً
مشوار الحياة.. وراء المقود

تخرج في جامعة الحياة، وجاب البلدان سعياً وراء الرزق متنقلاً من عمل إلى آخر، وقد بقيت السيارة رفيقة دربه ومحور حياته على مدى أكثر من أربعين عاماً…

سلمان الناصر اسم لأكثر من شخص في قريته، لكن حين تربطه بالليموزين، فإنك لا تعرِّف بالشخص فحسب، وإنما تشير إلى تاريخ السيارة في بلدته، فهو من أوائل من قاد السيارة فيها. كما أنك تحكي تجربة كفاح، فقد فتح بيتاً، وكوّن أسرة، وربى أبناءً، وخرّج أستاذاً جامعياً.. وكله من وراء «الليموزين».

البداية
يتحدث سلمان عن البدايات فيقول إنه تعلّم القرآن في كتّاب القرية على يد المعلّم منصور، الذي علّمه أيضاً القراءة والكتابة. وتزوج عندما كان عمره خمس عشرة سنة، ورزق بأولاد أحدهم يعمل في أرامكو السعودية «وقد نفع الله به أمه، فمنذ ست سنوات أصيبت بالفشل الكلوي وبدأ مشوار معاناتها، وهي تتلقى العلاج المنتظم في مركز الظهران الصحي «على نمرته»، وقد دفعتني إلى الزواج، لكنني وفاءً لها رفضت ذلك. فقد قطعت معي مشوار الحياة الصعب وصبرت معي عليها».
مع السيارة
ويقول: «منذ أكثر من أربعين عاماً وأنا في صحبة هذا المقود، أول سيارة قدتها على خط الكويت وذلك في عام 1381هـ، أتذكر أنها كانت (هاف لوري)، وكنت أنقل عليها غرف نوم وأثاث وأقمشة من الكويت إلى الرياض وغيرها من مدن المملكة، وكذلك إلى الإمارات، كانت التجارة وقتها في الكويت عامرة وأكثر نشاطاً من بقية بلدان الخليج.

كانت الحياة صعبة، لكن المشوار من الكويت إلى الرياض بألف ريال، وكانت الألف وقتها مبلغاً مجزياً، فكان المردود المالي مشجعاً على تحمل المعاناة والأسفار والبعد عن الأهل، من أجل عيشهم الكريم».

مع الليموزين
في السبعينيات الميلادية، توقف سلمان عن العمل في النقل الثقيل. وبدأ مشواره مع «الليموزين». كانت أول سيارة اقتناها من طراز «تويوتا كريسيدا» اشتراها بـ 15 ألف ريال وباعها بعد ثلاث سنوات بـ 16 ألف ريال!!

«كان عملي على الليموزين عملاً رديفاً، لكنه كان الأحب إلى قلبي، والشيء الوحيد الذي لم يتغير في حياتي، ولقد عملت في مجالات عدة، فقد سجلت في أرامكو السعودية في بداية حياتي العملية، وتجاوزت الاختبارات، ووعدوني بإرسالي إلى المدرسة، عملت فيها لمدة 18 يوماً. لم أحسب أن أرامكو ستكون هكذا، ربما كنت صاحب مليون لو بقيت فيها، لكن ليس لك إلا ما كتب الله لك».

ويضيف: «عملت بعدها في الشركة التي أنشأت ميناء الدمام مدة سنة وأرادوا نقل خدمتي إلى الكويت لكني رفضت، ثم أسفت بعدها، وعملت في مطار الظهران في السبعينيات، وفي السنوات الأخيرة عملت في سابك حوالي تسع سنوات».

سيارة تنهض بأسرة
يعامل سلمان سيارته وكأنها ولد من أولاده. فيقول إنها مصدر الرزق، ولولاها بعد الله لما أكل الولد ولبس، ولما تربى وتعلم. «وعنايتي بها وحرصي عليها كعنايتي بأسرتي فهي مصدر معاشهم».

ويروي تفصيلاً مؤثراً يؤكد أهمية الدور الذي لعبته الليموزين في حياته فيقول: «لي أخ واحد، توفي أبي وكان صغيراً، فوُفّقت في تربيته ورعايته، وتعليمه، حتى صار أستاذاً جامعياً. العصا والسيارة علّما أخي وأولادي، العصا للتأديب والترهيب، والسيارة مصدر الرزق والترغيب. لقد قسوت على أخي في سبيل تعليمه، ولم أقس عليه في غير ذلك، فقد كان لليتم دور في تخفيف القسوة عليه دون الأولاد، لكن كان لا بد من الحد الأدنى منها ليستقيم في دراسته، وعندما أراد السفر لأمريكا لإكمال دراسته العليا دفعته للزواج قبل السفر حفاظاً عليه من المتغيرات الاجتماعية، وها قد آتت الجهود أكلها، ولا أشك في أنه تفهم ذلك عندما كبر ونضج».

بين الأمس واليوم
ويطيب لسلمان أن يتحدث عن سائقي وركاب أيام زمان، فيقول: خلال عقود من الزمن رأيت أصنافاً شتى من البشر، جنسيات مختلفة، أشكالاً مختلفة، نفوساً مختلفة، وأخلاقاً من القمة إلى القاع، وبعضهم نشأت بيننا وبينهم صداقة. كان سائقو الليموزين جميعاً من البلد، وكانوا أكثر احترافاً والتزاماً بقوانين المرور وأصول السلامة، وكان يعاون بعضهم بعضاً، فلو رأى سائق آخر منقطعاً بركابه في الطريق، فيبادر إلى مساعدته وإيصال ركابه إلى حيث يريدون دون أجر، فالأجر لصاحبه. أما الآن فأكثر السائقين أفقدوا المهنة بريقها.

الركَّاب كذلك، كان معظمهم من المواطنين، وكان كبار السن منهم يتجاذبون معنا أطراف الحديث، فكنا نقطع الطرق الطويلة ولا نشعر بالزمن، أما الشباب فكان يغلبهم الخجل. أما الآن فمعظم الركَّاب من الأجانب.

وما الذي تغيّر غَيْرَ الناس؟
«الشوارع.. كانت ضيقة وخطرة، فإذا أردنا الذهاب إلى الرياض مثلاً، كنّا نملأ خزان السيارة بالوقود ونأخذ معنا (تنكة) وقود احتياطي، لعدم انتشار المحطات على الطريق. كان الشارع من الجبيل إلى الظهران عرضه حوالي 4 أمتار فقط، فإذا تقابلت سيارتان فلا بد أن تأخذ إحداهما جانباً لكي تعبر الأخرى. لكنها أفضل من الآن!!

لماذا؟ لأن السير فيها أكثر سلامة!! وذلك لانعدام زحمة السيارات، ولأن سائقي السيارات أقل تهوراً، ولو وقعت حوادث فإنها حوادث خفيفة ونادراً ما تكون حوادث كبيرة، أما الآن فمعظم الحوادث قاتلة. ويضيف: خلال فترة قيادتي للسيارة التي تجاوزت الأربعين عاماً وقعت لي ثلاث حوادث خفيفة، كان المخطئ فيها الطرف الآخر، ولم أرتكب فيها أية مخالفة مرورية.

وحول ما إذا كان يعتزم يوماً ما ترك قيادة الليموزين يقول: ستبقى يدي على مقود السيارة ما حييت، فهي تمثل لي الحياة والحركة والنشاط، كما تمثل لي عمري مختزلاً في شريط الذكريات منذ عهد الشباب إلى أن يختار الله أمانته.

أضف تعليق

التعليقات