ديوان اليوم

فخر المرأة بالرجل

من أشهر ميادين الكلمة الشاعرة، فخر الإنسان بنفسه أو بمن يمت له بصلة. هذا الميدان الذي اشتهر فيه الرجل لم تنل المرأة نصيبها فيه من البحث وتسليط الضوء، رغم ما لها من صولات
لا تقل عن صولات الرجل.. محمد أبو المكارم من فريق التحرير يسلّط الضوء هنا على:

بمراجعة سريعة لمعاجم شعراء العربية، سنلحظ ضآلة نسبة الشواعر إلى الشعراء، كما سنلحظ قلة عناوين الفخر في شعرهن، فهل هذا لأن المؤرخين والرواة بخسوا شعر المرأة والفخر منه بخاصة، حقه من الحفظ؟ أم أن المرأة تفاخر بالفعل ولا حاجة لها إذن في القول؟ أم أن هناك أسباباً أخرى؟

نعم إن في ثنايا شعرهن فخراً بذواتهن، وأقوامهن، وكل من يمت لهن بصلة، وبالرجل في حياتهن، فخراً يضج حيوية ويتدفق شاعرية، وأكثر ما نجد هذا الفخر متقمصاً أحيانا ثوب الغزل، ومعظم الأحيان ثوب الرثاء الذي اشتهرت المرأة فيه بصدق عاطفتها وحرارتها.

الرجل في حياة المرأة هو وجودها بحق، فهو الأب والأخ والزوج والحبيب والابن وكذلك القائد والزعيم، وليس كون كل فتاة بأبيها معجبة، قاصراً إعجابها وبالتالي فخرها فقط بأبيها فما كان ذلك إلا لقصة المثل، وإلا فكل أنثى فخورة بمن ترتبط به وتحس أنها تنتمي له أو ينتمي لها. وكما افتخرت بأبيها، افتخرت بزوجها، وحبيبها، وابنها، وافتخرت أيضاً بقبيلتها، وزعيمها.

أما مادة الفخر الأساس، فهي الصفات المادية والمعنوية (الذاتية والخارجية): الحسب والنسب، والقوة الجسدية، والشجاعة والبطولة، والكرم والأخلاق الحميدة، والمهابة والزعامة.

كل فتاة بأبيها معجبة
قالت خالدة بنت هاشم بن عبد مناف، في أبيها:
هاشم الخير ذي الجلالة والحمد
وذي الباع والندى الصميم
وربيعٍ للمجتدين ومزنٍ
ولزازٍ لكل أمر(1) جسيم
شَمَّريٍ(2) نماه للعز صقر
شامخُ البيت من سراة الأديم
شيظمِّيٍ(3) مُهَذَّبٍ ذي فضول
أبطحي مثل القناة وسيم

أما بنات عبد المطلب بن هاشم، فيرثين أباهن قبل موته بطلب منه وهو على فراش الموت، كي يعلم ما سيقلن، قالت أروى:
طويلِ الباعِ أبيضَ شيظميٍّ
أغَرَّ كأن غرَّتَه ضياءُ
أقبِّ(4) الكشحِ(5) أروعَ ذي فضول
له المجد المقدمُ والسناءُ
أبيِ الضيمِ أبلجَ هبرزيٍّ(6)
قديمِ المجدِ ليس به خفاءُ

وقالت أميمة:
ألا هلك الراعي العشيرة ذو الفقدِ
وساقي الحجيج والمحامي عن المجد
ومن يُؤلفُ الضيفَ الغريب بيوته
إذا ما سماء الناس تبخل بالرعد

وقالت برة:
على ماجد الجدِّ واري الزناد
جميل المُحيَّا عظيمِ الخطر
على شيبة الحمد ذي المكرُماتِ
وذي المجد والعزِّ والمفتخر

وكذلك قالت صفية وعاتكة، مثل مقالتهن، وكان الرثاء الممتلئ فخراً بأبيهن وأوصافه الجسمية والنفسية والخلقية.

الزوج
قالت الخِرنَق أخت طَرَفة بن العبد تفخر بزوجها بشر بن عمرو:
لقد علمت جديلة أن بشراً
غداة مربِّح مرُّ التقاضي
غداة أتاهم بالخيل شعثاً
يدقُّ نسورها حد القِضاض(7)

وحينما قتل في يوم (قلاب) رثته بقولها:
فلا -وأبيكِ- آسى بعد بشر
على حي يموت ولا صديق
وبعد الخير علقمة بن بشر
إذا نزت النفوس إلى الحلوق
ومال بنو ضبيعة بعد بشر
كما مال الجذوع من الحريق

وقالت هند بنت زيد في زوجها حجر بن عدي:
تلفت أيها القمر المنير
تبّصر هل ترى حجراً يسير؟
تجبرت الجبابر بعد حجر
وطاب لها الخورنق والسدير

وقالت الرباب بنت امرئ القيس في زوجها أبي الشهداء:
سبطَ النبيِّ جزاك الله صالحة
عنّا وجُنّبت خسران الموازين
قد كنت لي جبلاً صعباً ألوذ به
وكنت تصحبنا بالرحم والدين
من لليتامى ومن للسائلين ومن
يغني ويؤوي إليه كل مسكين
الابن
قالت السلكة في ابنها السليك:
أي شيء حسن
لفتىً لم يكُ لك
طال ما قد نلت في
غير كدٍّ أملك
إن أمراً فادحاً
عن جوابي شغلك

وقالت عمرة الخثعمية في ابنيها:
هما يلبسان المجد أحسن لبسة
شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما
شهابان منّا أُوقِدا ثم أُخمِدا
وكان سناً للمدلجين سناهما

الحبيب
من النادر أن تجد جرأة تصل إلى إعلان رثاء الحبيب أو الفخر به، لكن شغف الهوى ولوعة الفراق تصنع ما تصنع. قالت ليلى الأخيلية في توبة بن الحُمَيِّر:
وتوبةُ أحيا من فتاةٍ حييةٍ
وأجرأُ من ليثٍ بخَفَّانَ خادرِ
فتى يُنهلُ الحاجاتِ ثم يُعِلُّها
فيُطلِعُها عنه ثنايا المصادر

الأخ
ولعل أشهر ما ورد في الفخر ولو مضمَّناً في الرثاء هو فخر الأخت بأخيها، فعاطفة الأخوة المتأججة تنفخ روح الشعر ونار الفقد فيتدفق الجمال.

قالت الخرنق ترثي أخاها طَرَفة:
عددنا له خمسا وعشرين حجة
فلما توفاها استوى سيداً ضخما
فُجِعنا به لمّا انتظرنا إيابه
على خير حال لا وليداً ولا قحما

وقالت الخنساء:
وإن صخراً لوالينا وسيدُّنا
وإن صخراً إذا نشتو لنحّارُ
أغرُّ أبلجُ تأتم الهداةُ به
كأنه علمٌ في رأسه نارُ

وقالت زينب الطثرية:
فتى قُدَّ قَدَّ السيف لا متضائلٌ
ولا رَهِلٌ لَبَّاتُه وبآدِلُه
فتى لا ترى قَدَّ القميص بخصره
ولكنما توهي القميصَ كواهلُه

———————

الأبجدية تنتحب

«نحيب الأبجدية» هو عنوان قصيدة تحتل الصفحات ما قبل الأخيرة من الديوان ولكن الشاعر جاسم الصحيّح اختاره عنواناً لمجموعته الجديدة كلها. إذ أن ومضات الأمل والتأمل في بعض الصفحات أو الأبيات لم تبدد طابع الحزن والانكسار الذي يطغى على المجموعة ككل، ولا بكاء الشاعر على الإنسان الذي أطاحت تحولات الحياة المعاصرة بشفافيته ومبادئه وقيمه التي كانت «ألف باء» إنسانيته. الزميل حبيب محمود يعرض لنا بعض المقتطفات..

المجموعة الجديدة هي السادسة للشاعر، صدرت عن النادي الأدبي بالطائف في 232 صفحة اشتملت على اثنين وعشرين عنواناً رئيساً، وسجلت تنويعاً ممتعاً يختلط فيه الأمل بالألم والتأمل بالقلق والحنين.

ومنذ بداية المجموعة؛ يضع الشاعر الصحيح ذاته موضوعاً لرؤية شعرية لها هاجسها النفسي الحزين الذي يرسم فيه نفسه منشداً:
وحدي كأني بائع متجولٌ
وكهولتي – منذ اكتهلتُ بضاعتي
تتزاحم الآلام حولي
والتجاعيد الثرية تشتري ما شعّ من جلدي
ويومئُ كي يساومني على جسدي السقامُ
واليأس أقدم سائحِ
يتبضع الأحلام في روحي بأرخص ما يُرامُ

وفي الجو نفسه، يجرب الشاعر العموديّ من الشعر، ويبرز قدراته الشعرية في المضمار النفسي عينه، ويغني:
لهفي على البشر المعلّب لم يزلْ
يغشاه في رف الحياة غبارُ
لو كنت أملك بعض عمري لم أكن
أرثي لمن ملكتهم الأعمارُ
حلّفتُ صلبي أن يعق مياهه
كي لا يصيب خطيئتي تكرارُ
هذا أنا شيخ الغواة تهدّلت
روحي كما تتهدل الأثمار
راعٍ بصحراء الغريزة أشتكي
فقد العصا.. وقطيعي الأوزارُ
أقفوا خطوط اللحن حين يخطها
قصبي ويطلقني بها المزمار

ومثلما كان الشاعر يعود إلى مسقط رأسه، الأحساء، في مجموعاته السابقة؛ عاد الصحيح مكسوراً أيضاً في المجموعة الجديدة، وأنشدها ذات صيف نادماً:
خرجتُ منك نقيّ الجيب طاهره
وعدت أحمل في جيبي غواياتي
إذا الحماقات لفّت لي سجائرها
ثملتُ حتى بأعقاب الحماقاتِ

ومثلما تفنن الصحيح في النحيب، حاول أيضاً أن يجرّب الفرح، فكان فرحه في حضن حبيبة منحها ضوء المصابيح في قرطاس شعري متخم بالنشوة والاحتفالية.. فغنى حبيبته:
يوم أحببتك
زفّت لغة (الضاد) تهانيها
عصافير من البشرى إلى كل اللغات
كان يوماً كاحتشاد الشعر دفئاً
فـي حنايا كلمة تشعر بالبرد
وما أكثر ما حجت إلينا كلمات
وقدم الشاعر تجربة الشعر الواقعي، في قصيدته للاستشهادية آيات الأخرس، وبإحساس غنائي خاص رسم لوحة شعرية لها ومنحها أجنحة تطير بها بين قبائل التين:
قبل أن تعلن ميلاد جناحيها
وتنضمّ إلى جنس البلابل
أنفقت من ياسمين العمر ما يكفي
لتستنبت في الحلم
من الورد شعوباً ومن التين قبائل
وانتهت في أمة
يبكي بها التين على أغصانه والورد ثاكل

الصحيّح في مجموعته الأخيرة يستعرض تجربته في الرباعيات الشعرية، وفي ثمان وعشرين رباعية قدّم مضموناً يختلط فيه التأمل الفلسفي بالرومانسية:
إذا اندلعت خيول الهم في برية الأرواحْ
وراح قطيعها ينمو صهيلاً في المدى وجماح
فماذا يصنع الإنسان غير تقمّص الأفراح..؟
ويحلم أن يعيد الخيل نحو حظيرة الأشباح..؟

وهو في دورانه الذاتي، جعل من الطبيعة وتراً غنائياً حميماً، وحين سنحت له نهزة للتحاور مع البحر فإنه أكد الذاتية.. وتساءل:
هل أنت جرحٌ مثل جرحي طاعنٌ
فـي الأرض يغرقُ فـي مداهُ المرهمُ
هل عمقُ قاعكَ مثل عُمْقِ قصيدةٍ
فـي خاطري.. أَزَلِيَّةً.. لا تهرمُ
تَعِبَ السؤالُ فكن له أرجوحةً
يغفو على موجاتِها، ويُهَوِّمُ
واصنعْ من الهمساتِ مركب سهرةٍ
يفْتضُّ سلسلة الهموم ويفصمُ

وفـي احتفالياته بالمكان وجد الشاعر فـي سوق (القيصرية) مرثية فارعة على الرغم من رمادها الذي يتوجع:
أتذكر حين تهجَّيتكِ جالسةً فوق بساطِ الأرضِ..
تهجّيتُ كتاباً حجرياً تتألق فيه مرايا الأسلاف
طرقتُ على حجرٍ
فتفتَّح سطرٌ وانبثقت سيرةُ إنسانْ
كنتِ تواسينَ جراحَ الطينِ
إذا جَلَدتْهُ شموسُ ظهيرتنا
فوق وجوهٍ عالقةٍ فـي ذاكرة الحيطانْ
كنت عروسَ الأرضِ
وكان التاريخُ على جسمكِ فستانْ

وفـي (الخروج من الكهف) مزاوجة رمزية بين الأسطورة والإحساس الخاص لدى الشاعر الهائم على وجه لغته المتقنة:
رجعتُ من المدينةِ
جالباً بعض الهواء إلى مناخِ الكهفْ
أُنادي: يا رفاقَ تمائمي
إني تنسّمتُ الحقيقةَ فاستوى لي أنفْ
وطالت هامتي بالوعي حتى ضاق عنها السقفْ
وصافحتُ الحياة هناك
أشعر فـي يميني كفْ
وعدت ببرزخٍ يمتدُّ ما بيني وبين الزيفْ.

أضف تعليق

التعليقات