الرحلة معا

لنحفظ أبناءنا.. للوطن

الأحداث التي ألمّت ببلادنا، في الآونة الأخيرة، أشارت إلى الكثير من مواقع الخلل في العلاقات الأسرية. إلى ذلك الحد الذي توقفنا فيه مندهشين إزاء حالات غريبة في العلاقة بين هذين الطرفين المتلازمين.

فيض من التحقيقات والتقارير الصحفية نقل إلينا صوراً متعددة من غياب أولياء الأمور عن حياة أبنائهم وإخوانهم. الأمر الذي يفسر حتماً انزلاق الأبناء إلى المهالك الكبرى والصغرى، ويرسلهم، مع سبق الغفلة من الأهل، إلى حيث الأفكار الملتبسة، التي توقعهم في شر أعمالهم، وتوقع أهاليهم في الحسرة والندم، حيث لا تنفع وقتها حسرة أو ندم.

ما يثير التحفظ هو: كيف يخرج (ولد) من البيت ويغيب سنوات لنكتشف فجأة، بعد أن تقع الفأس في الرأس، أننا فقدناه منذ زمن؟ كيف نصدق أننا نترك فلذات أكبادنا ليلتهمهم الليل بأسراره وفواحشه؟ ألا نسأل عنهم من باب المسؤولية، التي هي من باب التربية؟ من يربي أولادنا إذا نحن أغلقنا أبواب بيوتنا على غرفهم الخالية؟ ومن يعيدهم إلينا إذا هم وقعوا في حفر الأوهام والآفات؟! هل نعي مسؤوليتنا كآباء وأمهات، أم أننا، في ظل انشغالاتنا ومزاجاتنا، نترك الحبل على الغارب ليصفعنا الواقع المرير الذي نكتشف فجأة أن أبناءنا ينغمسون فيه؟

أسئلة لها أول من دون آخر، ولا بد لمواجهتها، بالأجوبة الصحيحة والصريحة، أن توضع على المحك الأول، أن تستدعى التربية، باعتبارها بيت القصيد، لتفصص وتناقش مع كل الأطراف: الأب والأم والأخوة الكبار. ولا مانع أن تعقد لهذه المناقشة الندوات المتخصصة الطوال لتشخص الداء الذي ضرب جسم التربية وعزل بعض الأبناء عن محيطهم الأسري بمثل هذه الصورة المخيفة، التي تهددهم في صميم انتمائهم الوطني.

لم نكن فيما مضى يخطر ببالنا أن انحرافات الأبناء قد تصل إلى هذا المدى من الخطورة، ذلك لأننا كنا مطمئنين، أكثر من اللازم، إلى تحصينهم بالقيم والثوابت والعادات الاجتماعية الحميدة. لكن يبدو أننا أسرفنا في هذا الاطمئنان ولم نلاحظ أن الدنيا تتغير كل دقيقة من حولنا، وأن طرقاً تكتظ بالشرور تُفتح أمامهم ليسافروا فيها من غير عودة. طال، فيما يبدو، سباتنا إلى أن تحولت علاقة الأب أو علاقة الأم بالابن إلى شيء من الحضور الشكلي في حياته، بينما تركنا أفكاره وهواجسه وأعماقه تلعب بها رياح الآخرين، وتدفعها وتلونها كيف تشاء.!!

ليس الابن مجرد كائن يأكل ويشرب وينام.. أو يغيب دون أن ندري لماذا غاب أو متى سيعود. الأبناء أمانات في أعناق الرجال والنساء من آبائهم أو أمهاتهم، يجب أن يسلموها للوطن مشفوعة بحبه والانتماء له وصد المكاره عن مكتسباته وحياضه. هذا قدرهم ودورهم الذي يفترض أن ينهضوا به على وجهه الأكمل، وإلا فإن الأب والأم يصبحان بلا دور.

إن الغذاء الذي نطعمه عقولهم أهم من الغذاء الذي نطعمه بطونهم.. من دون غذاء العقول هذا يصبح أبناؤنا عرضة لكل المغريات والأهواء التي تطاردهم وتبذل جهدها لتصطادهم وتستغلهم وتحرفهم عن جادة الصواب. ولعلنا بالتجربة قد علمنا أن بيتاً يخلو من التربية الحقيقية والصرامة في مراقبة الأبناء وتتبع نجاحاتهم وإخفاقاتهم هو بيت معرض للأذى والبؤس ومحكوم عليه بالفشل.

كلنا نعلم علم اليقين أن بعض الشقوق اتسعت على الرقع.. وأن الزمن، زمننا، يفتح نوافذ على موبقات يصعب حصرها أو مراقبتها: أجهزة الاتصال الحديثة الشخصية، الإنترنت، الفضائيات والإذاعات التي تبلغ مرسلاتها كل ركن مهما صغر أو ابتعد عن المرسل المتربص.. الخ، لكن في مقابل هذه الشقوق تبقى درجة الإحساس بالمسؤولية هي الضامن الوحيد لمنع التباسات الأفكار والمشيئات عند أبنائنا. فإذا كنا نسعى، بكل ما نملك من طاقة وحزم، لنربي أبناءنا على حبهم لأنفسهم وأهليهم ووطنهم فإننا سننجح مهما تسربت من الشقوق مضادات هذا النجاح. أما إذا غفلنا أو أهملنا أو تمادينا في الاتكال على حسن ظننا بهم فإن النتائج ستكون وخيمة ومؤذية لهم ولنا.

علينا إذن، من غير أن يستثني أحد نفسه من المهددات التي تحدق بأبنائه، أن نعيد النظر في كيفية حضورنا في حياة أبنائنا ودرجة اقتراب هذا الحضور مما حولهم ومن حولهم. لنلتصق بهم ولنفتح لهم عقولنا كما نفتح لهم قلوبنا. لنستمع إليهم بآذان صاغية ونحاورهم على قدر ما نتمكن من خلق ثقتهم بنا وقناعتهم بأفكارنا.. بذلك فقط نربيهم، لنحفظهم للوطن، ولأنفسهم ولنا.

ويبقى مما أريد أن أحض عليه أن تواصل صحفنا ووسائل الإعلام في بلدنا قراءة واقع العلاقات الأسرية في مجتمعنا، فهي بعد أن قدمت منقولات ميدانية بالغة الدلالة على فقدان الصلات بين الأبناء وآبائهم وأمهاتهم، ينتظر أن ترفع وتيرة فحص هذه الإشكالية وتخضعها لمشرط المتخصصين والمعنيين في مختلف الأجهزة،
لا سيما الأجهزة التربوية والتعليمية والإعلامية.

أضف تعليق

التعليقات