«نظرية الألعاب» هو اسم واحدة من أحدث النظريات الهادفة إلى تطوير التفكير الاستراتيجي في عالم الأعمال انطلاقاً مما تتكشف عنه الألعاب من عناصر وعوامل تقود إما إلى الفوز وإما إلى الخسارة. وعلى مدى يومين، نظّمت القافلة ورشة عمل حول هذه النظرية الجديدة، أدارها المهندس دانيال نمّور وشارك فيها 15 شخصاً تعددت اختصاصاتهم ونشاطاتهم الوظيفية والاقتصادية.
اليوم الأول
من الحروب التاريخية إلي لعبة الورقة والمقص
مدير الورشة المهندس دانيال نموّر استهلها قائلاً إن هدفها في النهاية هو تعزيز التفكير الاستراتيجي والتفكير (العملاني) لدى الأفراد من خلال الألعاب. وأتبع ذلك بمقدمة قصيرة تناولت تطوّر الاستراتيجيات عبر التاريخ البشري، موضحاً أن الاستراتيجيات الأولى التي عرفها الإنسان كانت تتناول الحروب، وهي نابعة من ضرورة التفكير بكيفية تحقيق النصر في ظل عوامل عدة تشمل عدد «جنود» كل جانب، وما لديهم من أسلحة وعتاد، وجغرافية أرض المعركة، وميزان القوى بين الجانبين المتحاربين، وتحديد نقاط القوة والضعف عند العدو، وكيفية الاستفادة القصوى من نقاط القوة التي يملكها أحد الجانبين مع محاولة تقليص أو حتى إلغاء نقاط قوة العدو.
لخصت الورشة استراتيجية الإسكندر بثلاث كلمات
وبعد أخذ ورد، توصل أحد المشاركين الى التوصيف الصحيح لهذه الاستراتيجية: “ضرب مركز الثقل”
تبع ذلك عرض لمقطع من فِلم «الإسكندر» يتناول المعركة بين جيش الإغريق بقيادة الإسكندر المقدوني وجيش الفرس بقيادة داريوس، حيث كان جيش الفرس يفوق الجيش اليوناني عدداً وعتاداً. بعد العرض الذي دام حوالي 15 دقيقة، طُلب من المشاركين تلخيص الاستراتيجية التي اعتمدها الإسكندر في جملة لا تتعدى أربع أو خمس كلمات.
تفاوتت استنتاجات المشاركين حول ما رأوه، وأشاروا إلى نواحٍ عدة تعلّق معظمها بتكتيك المعركة (تمهيد الهجوم من جانب الفرس بوابل من النبال التي أردت الموجة الأولى من مشاة الإغريق، ومناورة الإسكندر لفتح ثغرة في جيش الفرس، إلخ.). وبعد أخذ ورد، توصل أحد المشاركين إلى التوصيف الصحيح لاستراتيجية الإسكندر: «ضرب مركز الثقل». كان الإسكندر يعرف أن القضاء على داريوس سيؤدي إلى انهيار جيشه، فظل يناور بخيالته ومشاته إلى أن انكشفت له ثغرة أوصلته إلى داريوس الذي فرّ منسحباً إلى أعالي التلال المحيطة بأرض المعركة متبوعاً بما تبقى من جيشه.
01 لعبة «معضلة السجين» (Prisoner’s Dilemma)
– تقوم هذه اللعبة على تدبير واقعي، حيث يتم عزل سجينين شاركا في عمل مخالف للقانون معاً، واستجوابهما دون أن يسمح لأي منهما معرفة ماذا قال أو اعترف الآخر به.
– طلب من لاعبين أن يخرجا من القاعة والجلوس في غرفة منعزلة. وعرض «المحقق∪ على كل منهما العرض التالي:
1. إذا اعترف دون أن يعترف شريكه يخرج بعد سنة فينال شريكه حكماً بعشر سنين
.
2. إذا لم يعترف هو واعترف شريكه يحدث العكس.
3. إذا لم يعترف أي منهما ينال كل واحد حكماً بسنتين.
4. إذا اعترف الاثنان معاً ينال كل واحد ثلاث سنوات.
فماذا يختار؟
أهم الاستراتيجيات التي شهدها تاريخ الحروب
— ضرب مركز الثقل: كما رأينا، فقد استهدف الإسكندر مركز الثقل في جيش الفرس، فانهار الجيش. هنالك مركز ثقل لكل خصم في كل حرب، له مفعول جاذبية الأرض: فهو يضمن بقاء الجيش متلاحماً ومتماسكاً، ومتى ضرب مركز الثقل فإن النتيجة تكون تفكك الجيش. علينا أن نبحث وراء الظاهر عن مركز الثقل هذا وأن نجعله هدفنا.
استخدم القائد المسلم عمرو بن العاص هذه الاستراتيجية في فتح مصر، حيث حاصر حصن بابليون الذي كان أقوى حصون الرومان في الإسكندرية واستولى عليه. وما أن سقط حصن بابليون حتى تهاوت باقي الحصون في الدلتا والصعيد أمام الجيوش الإسلامية، وقد تم لعمرو بن العاص الاستيلاء على مصر بفتح الإسكندرية في العام 21هـ ويتبيّن من هذا الفتح أن خطة عمرو الاستراتيجية كانت ضرب موقع القوة، الذي إذا سقط، سقطت بعده المواقع التي لا تجاريه قوة ومنعة.
— استراتيجية أرض الموت: تقوم على تعمد إيجاد وضعية لا مجال فيها للتراجع، بحيث لا يكون أمامنا سوى أحد خيارين لا ثالث لهما: أن ننتصر أو نهزم (قاتل أو مقتول).
وأشهر من طبق هذه الاستراتيجية القائد العربي طارق بن زياد في فتح الأندلس: فقد أمر بإحراق سفن أسطوله بعد أن وطأ بجيشه ساحل شبه الجزيرة الإيبيرية، بحيث لم يعد لدى جيش المسلمين خط رجعة، ثم توجه إلى جنوده بخطبته الشهيرة: «العدو من أمامكم والبحر من ورائكم…»، وكان النصر حليفه.
02 لعبة «المقص والورقة والحجر»
من المستحيل أن تفوز باستمرار في لعبة
«صخرة−ورقة−مقص» أليس كذلك؟
أفضل ما يمكن القيام به هو تخمين
عشوائي، على أمل أن تكون
الاحتمالات في صالحك.
خطأ!
— استراتيجية الإرباك الخاضع للتحكم، وتجزئة القوات: وهي الاستراتيجية التي طبقها نابوليون في معركة أوسترليتز، حيث قسّم قواته إلى عدة فرق مكلفة بمهام محددة ذهبت في عدة اتجاهات، بحيث أربك العدو الذي عجز عن توقّع الجهة التي سيستهدفها جيش نابوليون («فرّق لتعيش واتحد لتقاتل»- نابوليون). تقوم هذه الاستراتيجية على مقولة إن الوحدات الأصغر حجماً أقدر على المناورة والتكيّف مع ظروف المعركة وأسرع حركة من جيش كبير، على الرغم مما قد ينطوي عليه تقسيم القوات من مخاطرة.
— استراتيجية التعبئة المعنوية: توحيد القوات حول قضية (يحتاج الناس إلى أن يؤمنوا بقضية يقاتلون من أجلها) . يجب أن تكون القضية مناسبة للزمن المعين، وأن تكون إلى جانب المستقبل وقادرة على صنع الانتصار. خير شاهد على نجاح هذه الاستراتيجية حقبة الفتوحات الإسلامية، حيث كانت قوة جيوش المسلمين تكمن أولاً في صلابة إيمانها وعقيدتها مما جعلها قادرة على هزيمة جيوش تفوقها عدداً وعدة وتمرساً في القتال.
— التأني في اختيار المعركة (استراتيجية التوفير المثالي للقدرات): لكلٍ نقطة ضعفه، حتى إن الحجم الكبير قد يكون ضعفاً في بعض الأحيان. لا تجابه عامل قوة عدوك بعامل قوتك، بل عليك اختيار معارك لا تكون فيها نقطة ضعفك مؤثرة بينما تكون نقطة ضعف خصمك حاسمة في إلحاق الهزيمة به.
— تحاشَ خوض «المعركة الأخيرة»-«حرب عصابات» العقول: لا تكرِّر الصيغ القديمة لكي تكسب عنصر المفاجأة، كما أن تكرار النصر نفسه الذي حققته في حرب سابقة مستحيل: «لا يمكنك السباحة في النهر نفسه مرتين» فالمياه التي سبحت فيها قد جرت وأنت تسبح الآن في نهر آخر. تتشكل عوامل النصر كاستجابة للظروف المتغيرة (الفيلسوف الصيني صن تزو، كتاب «فن الحرب»).
— استراتيجية القيادة والسيطرة أو تحاشي مطبات التفكير الجماعي: اعمل على إيجاد إحساس بالمشاركة، لكن تحاشَ مطبات لاعقلانية التفكير الجماعي، فلكل فرد «أجندته» الخاصَّة. حافظ على وحدة القيادة، وعلى إبقاء زمام الأمور في يدك. اطلب المشورة، وخذ بالجيد من الأفكار واطرح السيئ منها. كن حازماً وحليماً في الوقت نفسه، كي لا تخسر سيطرتك على جنودك.
من الحرب إلى اللعب
لئن كانت الحرب هي أم جميع الاستراتيجيات، فقد كان من الطبيعي أن تنتقل الاستراتيجيات من الحروب إلى محاكاة سلمية لما تنطوي عليه الحرب من تنافس وتطلع إلى الفوز: الألعاب.
كانت الحرب العامل الأول في تطوّر البشر، فقد أجبرتهم على تطوير نواح عدة، منها: كيفية تنظيم أنفسهم لخوضها وابتكار أدوات وأسلحة تضمن لهم التفوق على العدو، وما زالت الصناعات العسكرية تلعب حتى يومنا هذا دوراً كبيراً في تطوير أو تطبيق كثير من التقنيات الجديدة.
يمثل اللعب عنصراً مهماً من عناصر الفطرة البشرية، فالناس، كباراً كانوا أم صغاراً، يمارسون ألعاباً اجتماعية ورياضية مختلفة تتناسب مع أعمارهم، وهي فطرة نراها أيضاً لدى صغار الحيوان التي تتعارك وتطارد بعضها فتكتسب بذلك مهارات تساعدها على البقاء.
— استراتيجية الهجوم المضاد: مبادرتك بالهجوم أولاً قد تنقلب أحياناً كثيرة عليك، فأنت تكشف استراتيجيتك وتقلل خياراتك. اكتشف بدلاً من ذلك قوة ضبط النفس وترك الجانب الآخر يتحرك أولاً، بحيث تكون لك مرونة شن هجوم مضاد من أية زاوية مناسبة. إذا كان خصمك عدوانياً، فعليك أن تغريه بشن هجوم متهور سيتركه في موقف ضعيف.
— شراء الوقت بالمساحة- استراتيجية عدم الاشتباك (خالد بن الوليد والجنرال الروسي كوتوزوف): التقدم بأي ثمن ليس دائماً أفضل الخيارات، والتراجع ليس علامة ضعف، بل طريقة لاستخدام وتعظيم الموارد المتوافرة. جوهر الاستراتيجية هو أن تضع نفسك في موقف تكون فيه خياراتك أكثر من خيارات العدو.
يقول المستشرق الإنجليزي ألفرد جيوم إن الشعوب في مصر والشام والعراق وغيرها استقبلت المسلمين بالترحاب لأنهم خلصوها من الابتزاز الإمبراطوري الروماني والفارسي. اعتمد خالد بن الوليد، الذي كان القائد العام لجيش المسلمين، هذه الاستراتيجية تمهيداً لمعركة اليرموك. في الجولة الثانية من فتوحات الشام، وعندما حشد هرقل حملته العسكرية الضخمة لاسترداد الشام وقد بلغ قوامها 200 ألف جندي، قرر جيش المسلمين الانسحاب من حمص لقربها من الجيش الروماني، ثم توالت الانسحابات بعد ذلك من دمشق إلى الجابية ثم إلى المحطة الأخيرة في «أذرعات». كان خالد بن الوليد يعلم مدى تذمّر سكان المدن والمناطق التي انسحب منها من جور الروم، مما سيجعلها «أراضي محروقة» تحرمهم من أي إسناد وخلفية حاضنة، وبعد المعركة الفاصلة في اليرموك أجبر الروم على الانهزام إلى خارج الشام وبلا رجعة!
حملة نابوليون على روسيا: كان الجيش الروسي بقيادة كوتوزوف ينسحب أمام جيش نابوليون متحاشياً الاشتباك، ويقوم بإحراق الأراضي التي ينسحب منها حتى لا يجد العدو فيها ما يفيده أو يطعمه لجنوده. استغل كوتوزوف مساحة روسيا الهائلة وبرد الشتاء الروسي القارس للقضاء على جيش نابوليون الذي قضى معظمه جوعاً وبرداً.
نظرية الألعاب
03 لعبة «التكامل» (Complementary Game)
– على اللاعبين التعاون فيما بينهم، من خلال استعمال مواردهم المالية المحدودة، للحصول على أكبر كمية ممكنة من الحلوى
– ظنوا أن المسألة سهلة، لكن لم يتم أي اتفاق حتى بعد عملية تفاوض طويلة ومعقَّدة فيما بينهم.
– في النهاية فشلوا في الاتفاق وسبب ذلك أن كل لاعب وضع مصلحته الذاتية القصوى كمقياس وحيد.
– كان الحل الأمثل أن يتشارك الثلاثة لشراء الكيلو الكامل وبعد ذلك يتقاسمونه كل حسب حصته.
– تستخدم هذه اللعبة في عمليات الدمج والاستحواذ للشركات
تقوم نظرية الألعاب على دراسة السلوك العقلاني في أوضاع تؤثر فيها خياراتك على الآخرين وتؤثر خياراتهم عليك (ما يسمى «الألعاب»). ومع أن مجرد الإلمام بنظرية لعبة ما لا يضمن الفوز، إلا أن النظرية تمثل إطاراً لتكوين أفكار حول أنماط التفاعل الاستراتيجي. يمكننا من خلال دراسة نظرية الألعاب صياغة الاستراتيجيات الفعّالة، وتوقع مآل الأوضاع الاستراتيجية، واختيار أو حتى تصميم ما يناسبنا منها.
طلب مدير الورشة من المشاركين أن يتطوع اثنان منهم للتنافس في لعبة تدعى «المقص والورقة والحجر»، يقوم مبدؤها على أن المقص يقطع الورقة والورقة تقطع الحجر والحجر يقطع المقص، حيث يقوم كل من اللاعبين، بعد العدّ إلى الثلاثة، بمد ذراعه مشكلاً بيده علامة المقص (إصبعان ممدودان) أو الورقة (كف مبسوطة) أو الحجر (قبضة اليد). تكرر هذه الحركة لعدد متفق عليه من المرات، ويحصى في نهاية اللعبة عدد المرات التي شكّل فيها كل لاعب علامة تقطع علامة خصمه (أي مقص للورقة أو ورقة للحجر أو حجر للمقص) يكون الفوز لمن جمع العدد الأكبر من حالات «قطع» إشارة الخصم. يجب في هذه اللعبة مراقبة ما إذا كان الخصم يتبع وتيرة ثابتة في تغيير الإشارة أو وتيرة اعتباطية، ومن ثم توقّع العلامة التي سيشكلها الخصم وتشكيل العلامة المضادة لها.
كانت اللعبة الثانية في يوم الورشة الأول لعبة الشطرنج التي يتعلَّم المرء منها كيفية استعمال ما يدعى «شجرة القرارات». تقوم اللعبة، كما رأينا مع مثلي عمرو بن العاص والإسكندر المقدوني، على مناورات هدفها فتح ثغرة في دفاعات الخصم من أجل الوصول إلى «مركز الثقل» (وهو الشاه في لعبة الشطرنج) من أجل محاصرته ومهاجمته والقضاء عليه، ويفوز من «يُميت» شاه خصمه أولاً. تتطلّب هذه اللعبة، التي تُعد من أفضل الألعاب الذهنية التي اخترعها البشر، القدرة على توقع نقلات الخصم وإعداد الكمائن، والتضحية بأية قطعة مهما علت قيمتها من أجل الوصول إلى الهدف النهائي (إماتة شاه الخصم)، وهي لعبة ممتازة لتنمية القدرة على صياغة الاستراتيجيات ووضع التكتيكات الضرورية الكفيلة بتطبيقها.
اعتبارات خاصة بزمن العولمة
يفترض العلم المعرفي أن محاولة استشراف المستقبل يتطلب فهم الماضي ثم استخدام الخيال لابتكار أنماط جديدة، وهكذا يتعلم البشر.
اختلال التوازن: يتسم زمن العولمة بإحداث اختلال في التوازن القائم. يشكِّل اختلال التوازن الطريق إلى الثروة لمن يملك استراتيجية تسمح له باستغلاله بحيث يستفيد من:
التغيرات الاجتماعية: تغير البنى الديموغرافية، وتغير بنى الدخل، وتغير أفضليات شرائح المجتمع …
التغيرات التنموية: البحث عن طريقة جيدة لحركة سلعة أو عمل ما بين أماكن مختلفة. يمكن الاستفادة من ميزات العولمة بغض النظر عن حجم منشأة الأعمال. ورث «زيد» عن أبيه وجده مصنع حلويات محلية رائجة، وقد استفاد من ميزات العولمة فتعاقد مع شركة خدمات لوجستية عالمية تتولى توصيل منتجه إلى موزعين في بلدان عدة وأنشأ موقعاً إلكترونياً على الإنترنت يسمح له بالتواصل مع موزعيه وعملائه، فزاد حجم أعماله بأكثر من خمسة أضعاف. بنت شركة كبيرة استراتيجيتها على شقين: أ) نقل مصانعها إلى بلدان يكون الإنتاج فيها بتكلفة أقلَّ نظراً لتوفر العمالة بأجور متدنية؛ ب) بيع المنتجات في الأماكن التي يمكنها فيها تحقيق المردود الأكبر.
اليوم الثاني
من الألعاب إلى الأعمال
من استراتيجيات الحروب، مروراً باستراتيجيات الألعاب، كان المشاركون في اليوم الثاني من ورشة العمل على موعد مع استراتيجيات الأعمال.
كان أجدادنا يتاجرون ويحسنون عادة تدبر أمور تجارتهم بالفطرة، لكن إدارة منشآت الأعمال، ولاسيما الكبيرة منها، أصبحت في يومنا هذا علماً بحد ذاته يدرَّس في الجامعات ويشمل معرفة الاستراتيجيات التي تتناسب مع نوع وحجم العمل وأحوال السوق المستهدف إلخ…
وحيث إن الاستراتيجية قد ولدت من رحم الحرب، فإنه من الطبيعي أن نرى في استراتيجيات الألعاب والأعمـال تكراراً لعديد من المفاهيم الرئيسة التي تقوم عليها مختلف الاستراتيجيات العسكرية. وبعبارة أبسط، فإن التنافس الشديد الذي تزداد حدته بظهور مزيد من المتنافسين الذين يستهدفون أحياناً الشريحة نفسها من المستهلكين، يؤدي إلى غربلة لا بد فيها من منتصرين ومهزومين وتكون نتيجتها أن البقاء للأفضل.
بدأ اليوم الثاني باستعراض عام لنظرية تحليل القوى الخمس التي وضعها مايكل إي. بورتر Michael E. Porter من جامعة هارفارد كنقيض لتحليل SWOT (تحليل نقاط القوة ونقاط الضعف والفرص والتهديدات) التي كانت النظرية السائدة حينئذ.
تمثل هذه النظرية إطاراً تحليلياً يقوم على خمس قوى (التزاحم بين المتنافسين الحاليين، التهديد الذي يمثله الوافدون الجدد على الصناعة، قوة الموردين التفاوضية، قوة العملاء التفاوضية، والتهديد الذي تمثله البدائل) تحدد القدرة التنافسية لصناعة ما وبالتالي مدى جاذبيتها للعملاء المستهدفين.
لدى الشركة «أ» استراتيجية فعالة للتعامل مع منافسيها الحاليين وضمان حصتها من السوق بل وزيادة تلك الحصة، ولكنها لم تلتفت إلى التهديد الذي يمثله الوافدون الجدد على الصناعة والتهديد الذي تمثله بدائل ما تصنّعه أو تبيعه من منتجات. النتيجة: إفلاس الشركة.
قوة الموردين التفاوضية: قد تكون لموردي المواد الخام، والمكونات، والعمالة، والخدمات (مثل خدمات الخبرة)، سطوة كبيرة على الشركة حين يكون عدد الموردين البدلاء قليلاً. مثلاً، تقوم الشركة «ب» بتصنيع البسكويت، وهناك تاجر واحد فقط يحتكر بيع الطحين، مما يعني أن الشركة مجبرة على شراء الطحين منه بالشروط والأسعار التي يفرضها عليها.
قوة العملاء التفاوضية: الشركة «ج» لديها عميل ممتاز أصبح تدريجياً يشتري أكثر من نصف ما تعرضه من منتجات أو خدمات. جاء يوم طلب فيه العميل من الشركة أن يصبح شريكاً فيها ويملك الحصة الكبرى من أسهمها بشروط تناسبه، وإلا فإنه سيحوّل مشترياته إلى شركة أخرى منافسة. وجدت الشركة نفسها في موقف ضعيف جداً إزاء قوة العميل التفاوضية، ورضخت لطلب العميل.
04 لعبة الجرة (Urn Game)
– هناك جرّتان: جرّة 1 تحتوي على كرتين زرقاوين وكرة بيضاء، جرة 2 تحتوي على كرتين بيضاوين وكرة زرقاء.
– أحد اللاعبين اختار كرة من الجرة التي تم اختيارها، وكانت زرقاء، وأعلن أنها زرقاء (أي مع اللون). الثاني−اختار مع اللون أي مع الافتراض المنطقي بأن الكرة الزرقاء هي من الجرة التي تحوي كرتين من هذا اللون وكرة واحدة بيضاء. الثالث
−اختار عكس اللون. الرابع−اختار مع اللون. الخامس−اختار مع اللون. السادس−اختار مع اللون. السابع−اختار عكس اللون. الثامن−اختار عكس اللون.
– نصف المشاركين كان اختيارهم عكس المنطق البسيط.
– هدف اللعبة رؤية مدى تصديق المشاركين لصحة ما يقوله زملاؤهم لجهة لون الكرة التي اختاروها ومحاولة معرفة الاحتمالات وإمكانية التوقع.
– مثلاً: لماذا المطعم الجديد يكون مزدحماً؟
لماذا يُستغنى عن مرشحّ واعد لوظيفة، استناداً إلى قول مدير أو موظِّف سابق له؟
لا أحد يذهب هناك الآن، المكان دوماً يكون مكتظاً!
تهديد الوافدين الجدد: كيف ستتعامل الشركة «د» مع هذا الوافد الجديد الذي يحاول الهيمنة على السوق من خلال عرض المنتجات والخدمات نفسها بأسعار أقل؟ هل لديها معلومات موثوقة عن كفاية الوافد المالية تؤكد أنها ستستطيع الصمود والانتصار في حرب أسعار قد تدوم لفترة طويلة؟ أم هل ستلجأ إلى خيار آخر هو تحسين نوعية منتجاتها وخدماتها أو محاولة التحالف مع منافسيها القدامى لكسر شوكة الوافد الجديد؟.
تهديد البدائل: هو أخطر التهديدات. على مدى عقود من الزمن، كانت الشركة «هـ» تستحوذ على حصة كبيرة من السوق المحلية والإقليمية في بيع آلات الطباعة «الداكتيلو» وقد أسست واشترت بمرور الزمن مصانع تنتج أفضل وأحدث أنواع هذه الآلات. لكن الشركة لم تكن لديها «عيون وآذان» مفتوحة على المستقبل تنبئها بأن شركة «آي بي إم» الأمريكية تعمل على تطوير جهاز جديد (الكمبيوتر) سيؤدي إلى إبطال استعمال الداكتيلو بشكل كامل تقريباً. بدخول الكمبيوتر إلى السوق، أصبحت قيمة مخزونات وباقي موجودات الشركة مساوية للصفر تقريباً، وأفلست الشركة. يوضح هذا المثال كيف يؤدي قصر النظر الاستراتيجي وعدم المرونة إلى خنق قدرة الشركة على النمو والتكيف مع تغيرات بيئة العمل أو التهديدات التنافسية.
بعد أن شارك الحاضرون بمعلومات أثرت مختلف الجوانب النظرية والاستراتيجية، طلب منهم الاشتراك في لعبتين: لعبة الجرة (Urn Game) ولعبة تعظيم الموارد المتوافرة.
في اللعبة الأولى، توضع كرات بيضاء وصفراء (مثلاً كرتان بلون أبيض وثلاث كرات بلون أحمر، دون إخبار المشاركين بعدد الكرات من كل لون) داخل علبة كرتونية بأعلاها فتحة تسمح للمشارك بأن يمد يده ليختار إحدى الكرات، ثم يعيدها إلى مكانها بعد أن يراها ويخبر الآخرين بلون الكرة؛ يطلب من المشارك التالي عمل الشيء نفسه ثم يطلب من المشارك الثالث توقع لون الكرة التي سيختارها بناءً على ما أعلنه المشاركان السابقان، وهكذا دواليك. هدف اللعبة رؤية مدى تصديق المشاركين لصحة ما يقوله زملاؤهم لجهة لون الكرة التي اختاروها ومحاولة معرفة الاحتمالات وإمكانية التوقع.
05 «لعبة الأمثل» (Optimization Game)
– في هذا التمرين قُسّم الحضور إلى ثلاث مجموعات وطلب منهم وصل المدن على اللوح بالحبل المتاح ببعضها البعض بأقصر طريق.
– بعد 20 دقيقة استعمل الفريق الثاني أقصر حبل لوصل المدن، لكنه لم يكن الحل الأمثل.
– أظهر المدرب أقصر طريق باستعمال طرق حسابية بحتة.
– تستخدم هذه الطرق شركات الخدمات اللوجستية وخطوط الطيران والشركات العاملة في مد شبكات الخدمات.
في اللعبة الثانية «لعبة الأمثل» (Optimization Game)، توضع أمام المشاركين لوحة كبيرة عليها أسماء مجموعة من المدن على أماكن متفرقة من اللوحة، ويعطى كل مشارك شريطاً ويطلب منه أن يرسم على اللوحة بواسطة الشريط أقصر طريق لوصل المدن ببعضها البعض. يكون مدير اللعبة قد وضع في مكان ظاهر شريط قياس (متر). يفوز من يدرك أولاً أن خير طريقة لتنفيذ المطلوب هي قياس المسافات على اللوحة بين المدن المختلفة، فينتبه إلى وجود المتر الموضوع على طاولة مدير اللعبة أو يطلب تزويده بمتر لتنفيذ المهمة المطلوبة. تبرز هذه اللعبة ضرورة تعظيم الموارد المتوافرة (مثل الاستفادة من المتر لقياس المسافات بدلاً من الانشغال بمعرفة أقصر طريق). تستخدم هذه الاستراتيجية في تطبيقات مختلفة، وتلجأ إليها غالباً شركات الخدمات اللوجستية وخطوط الطيران في مد شبكات الخدمات.
ما الفائدة من المشاركة في هذه الورشة؟
عادة، تتطلّب صياغة الأفكار الاستراتيجية قدراً كبيراً من الخبرات العالية وقوة الحدس، ولذلك فإن ورش العمل التي تشبه هذه الورشة، قد تكون إلى حد ما ذات طبيعة «نخبوية»، أي تُقدَّم لمجموعة معينة ومحددة من الأشخاص، وتقتصر على أفراد في سلم القيادة والإدارة العليا. ولكن تطوير التفكير الاستراتيجي يمكن أن يكون على الرغم من ذلك عملية تبدأ في سن مبكرة، وقد كانت المقاربة المعتمدة في ورشة العمل هذه تقوم على اختبار وتجربة هذه الفكرة من خلال التعامل مع مزيج من كبار صانعي القرارات الاستراتيجية، وخبراء من الشريحة الإدارية الوسطى، بالإضافة إلى مهنيين شبان يتحلون بروح الإقدام والحس السليم في مجال الأعمال. لذلك فقد رأينا، بين الذين حضروا الورشة، المدير العام لمجموعة صناعية، وموظفاً شاباً يعمل في شركة تصميم، ومالك شركة هندسية حديثة العهد ونامية، ومدير موارد بشرية في مجموعة أعمال كبيرة، ومسؤولاً تنفيذياً شاباً في مجال العلاقات العامة.
هذا التنوّع الذي اتسمت به ورشة العمل ينطبق أيضاً على مديرها دانيال نمّور، فهو مهندس وصاحب شركة استشارات وأستاذ جامعي.
كذلك، فإن التفكير الاستراتيجي يتطلب معرفة معمّقة في مجالات متنوعة. لذلك، ومع أن كثيراً من ورش العمل يقتصر عادة على مجال واحد أو مجالين، فقد كانت المقاربة التي اعتمدت في هذه الورشة مزيجاً من أربعة مكونات مختلفة، هي تحديداً الاستراتيجية كما تفهم وتطبق في الحروب، والاستراتيجية كما طوّرت في الألعاب (وقد كان هذا موضع التركيز الرئيس)، والاستراتيجية في الأعمال، وأخيراً الاعتبارات الاستراتيجية في دنيا العولمة.
بناءً على ذلك، فقد جرى في هذه الورشة التعامل مع تحدٍّ مزدوج: تنوّع المشتركين، مقروناً بكثافة محتوى الورشة. ولهذا فقد تم اللجوء في إطار المقاربة إلى اختيار أفكار تبدو سهلة وبسيطة من أجل تلخيص وضعيات نظرية شديدة التعقيد.
ولتحقيق هذه الغاية، فقد كان علينا أن نلعب.
لذلك فقد مزج الجد باللعب، فإذ بنظرية رياضية معقدة تمتزج بخريطة عملية لمواقع مدن يتعين تحديد أقصر طريق توصلها ببعضها البعض من خلال استعمال شريط قياس متري، وإذ بعلب شوكولاتة مختلفة الوزن يتعين على اللاعبين التعاون فيما بينهم، من خلال استعمال مواردهم المالية المحدودة، للحصول على أكبر كمية ممكنة من الشوكولاتة، وهو ما لم يتم لهم إلا بعد عملية تفاوض طويلة ومعقَّدة فيما بينهم.
جاء الحاضرون وهم يتوقعون أن تكون الورشة مجرَّد أسئلة وأجوبة، لكنهم غادروا الورشة وهم يحملون في رؤوسهم مزيداً من المسائل من دون أجوبة صريحة عليها. لكنهم تزودوا مع ذلك بمنظور أو، بالأحرى، بموقف فكري سمّاه الصينيون القدامي قبل خمسة آلاف سنة «شيه- SHIH»: موقف قوة كامنة، كما لو أنك كنت تقف على قمة جبل تكشف لك ميدان المعركة بأكمله، بحيث تستطيع أن تصوِّب نيران سلاحك إلى أي اتجاه تختاره.
تلك هي الفكرة التي نأمل أن يكون المشاركون في الورشة والقرَّاء قد أدركوها وفهموا مدى أهميتها.