فنان و مكان

مكان يتنفس حلماً..

المقهى في أعمال الفنان خليل حسن خليل

omar portraitعندما طالعتنا الأخبار بفوز الروائي الفرنسي باتريك موديانو، بجائزة نوبل للآداب لعام 2014م، استدعت ذاكرتي أمرين، أولهما رواية «مقهى الشباب الضائع» لموديانو نفسه، وثانيهما لوحات الفنان التشكيلي السعودي الكبير خليل حسن خليل وبالذات لوحتَيْ (قال الراوي) التي أنجزها الفنان في عام 2010م ولوحة (على رصيف القمر) التي أنجزها في عام 1982م.

أول ما يتبادر إلى ذهن المتلقي عند مشاهدته لوحتَيْ خليل حسن خليل هو كيف أن سطوة المكان فيهما حاضرة بكل ما تبذره اللحظات في النفس من شجن إنساني ومحاولة لفهم التفاصيل وإدراك قيم المرئي واللا مرئي، والمحكي والمسكوت عنه في المشهد عندما نبتعد عنه بذواتنا الواعية وننظر إليه من بعيد.

omar cofeeإن المقهى، ذلك الكائن الذي يبتلع الأمكنة وأوقات الناس على اختلاف مشاربهم، لعلامة فارقة في حياة المدن ونبضها. هو مزيج من المشروبات والبشر والدخان وحكايات تأتي وتذهب قبل أن تتناسل منتشرة في الهواء، محملة بأنفاس مرتاديه، بآلامهم وآمالهم، حكايات لا يجمع شتاتها ضيق الأفواه المقبلة ولا اتساع الآذان المغادرة، فضاء تتقافز فيه ضحكات تثير الفضول وتنبش بين الوجوه عن ثرثرات ترضي غرور المقاعد المتراصة.

نصب باتريك موديانو مقهى (كوندي) نولاً نسج شخوص روايته حوله، شخوصاً تستعمر مقاعد المقهى المتعبة، وأناساً يجترون ذكرياتهم في المقهى عنه وحوله.

45ومن مقهى كوندي وشخوصه الغارقة في الواقع الباريسي الحالم إلى مقاهي جيزان بسحرها ونسائم البحر وأصوات البحارة. نستبصر الخطى لنبحر في فضاء لوحة (قال الراوي)، فيطالعنا في مقدمتها من اليمين شخص مسيطر على ثلاثة أرباع اللوحة مسنداً ظهره إلى مقعد المقهى، غارقاً في أحلامه. أمامه طاولة خشبية تتحرك على سطحها قافلة من الإبل تعبر مغادرة فضاء اللوحة. وفي وسط اللوحة يد ممتدة من الأعلى، وما بين القافلة التي على الطاولة واليد الممتدة برتقالة تاركة المتلقي في حيرة عظيمة: هل اليد تود التقاط البرتقالة أم هي التي ألقتها من الأعلى؟ ثم في خلفية اللوحة يُشاهَد رجلٌ ملقى على عتبة الباب.

أما في لوحة (على رصيف القمر) التي حازت الجائزة الأولى في معرض المقتنيات الثامن بالرياض عام 1984م، فهي تصوِّر مقهى على رصيف البحر يخلو من العنصر البشري. هو عبارة عن مجرد بقايا علب وأوراق وقشور برتقال ملقاة على الرصيف، فيما تنتشر حول مقاعد وطاولات المقهى (الشيش) أو الأراجيل -أداة التدخين المعروفة- وما زلنا في أجواء المقهى وتشكيلات الغيوم تسدل الستار على مشهد دراماتيكي، وكأن روَّاد المقهى قد غادروه للتو، أو أن شيئاً ما حدث وأجبرهم على المغادرة، ربما سفينة مقبلة أو غائب منتظر.

رسم خليل حسن خليل لوحتيه بأسلوب سريالي متمكن، انتهجه الفنان وبرع فيه.

107لم نغادر المقهى بعد، حيث تميّزت الحركة السريالية في منتصف العشرينيات باجتماعات أعضائها في المقاهي. اعتمد السرياليون عموماً في لوحاتهم على الأشياء الواقعية التي تستخدم كرموز للتعبير عن أحلامهم والارتقاء بالأشكال الطبيعية إلى ما فوق الواقع المرئي. وتهدف السريالية إلى البعد عن الحقيقة وإطلاق الأفكار المكبوتة والتصورات الخيالية وسيطرة الأحلام، حيث اعتمد فنانوها على نظريات فرويد في التحليل النفسي.

يقول أوسكار ويلد: «كل فن هو بالأساس فضاءٌ من الرموز». وفي اللوحتين التي نتناولهما اعتمد الفنان خليل حسن خليل على رسم عناصر اللوحتين بالأسلوب الواقعي كرموز وظفها في فنه لإيصال أفكاره وأحاسيسه للمتلقي. وبطبيعة الحال فإن للعناصر المرسومة دلالات غنية بالمعنى، إذ الرمز في الفن التشكيلي يقوم على مبدأ التواصل البصري ويخلق معناه عبر ذلك التواصل.

نغادر كل الأفكار التي تتحدث عن السريالية وعالم الأحلام والإسقاطات النفسية للعناصر المرسومة، ولا يغادرنا ذلك الفنان الجنوبي الذي يتنفس الحلم في أحد مقاهي شاطئ جيزان.

 

أضف تعليق

التعليقات

adelosta1954@gmail.com

نجيب محفوظ ” الكرنك ” ١٩٧٥