طاقة

هيدرات الميثان..

بلورات ثلجية في أعماق البحار والمحيطات تشتعل وتنتج الطاقة

Washington, District of Columbiaأثار نجاح اليابانيين في استخراج غاز مشتعل من قاع البحر (في 12 مارس 2013م)، جدلاً كبيراً في أوساط المهتمين بالطاقة في العالم وكذلك في أوساط المدافعين عن البيئة. فبعد 12 عاماً من الأبحاث وعلى بعد 80 كيلومتراً قبالة السواحل اليابانية في المحيط الهادي، تم استخراج عشرات آلاف الأمتار المكعبة من الغاز المشتعل الذي يعده الكثير −شأن كثير من الموارد الواعدة− واحداً من مصادر الطاقة المستقبلية المرتقبة، على الرغم من التحديات البيئية والتشغيلية الكبرى التي تعترض هذا المشروع.

هذا الغاز الذي تم استخراجه، هو غاز الميثان CH4 ، والذي ينتمي إلى عائلة الوقود الأحفوري المتشكل في أعماق محيطات العالم، بسبب احتجاز الرواسب العضوية لعدة ملايين من السنين تحت ضغط هائل ودرجة حرارة متدنية، فتكونت بذلك هيدرات الميثان التي تعرف باسم الجليد الحارق، وهي تتألف أساساً من الميثان وبعض الغازات الهيدروكربونية الأخرى، التي تقدر احتياطاتها حول العالم بنحو 3000 غيغا طن، لتتفوق بذلك على احتياطات النفط والفحم والغاز الطبيعي مجتمعة.

بدايات القصة
Methane clathrate gas released from bottom sediments of Lake Baikal, Irkutsk Oblast, Siberia, Russia, Eurasiaيعود اكتشاف الهيدرات الغازية إلى العام 1810م، عندما كان الكيميائي «همفري ديفي» يجري تجاربه على عنصر الكلور، بمساعدة العالم الإنجليزي الشهير «مايكل فاراداي»، حيث خلط الاثنان الغاز الأخضر مع الماء وعرضا المزيج لدرجات حرارة متدنية، عندها لاحظ ديفي تكوّن مواد صلبة غريبة، هي ذرات كلور مغطاة ببلورات ثلجية، وفي عام 1823م نشر فاراداي تقريراً يصف فيه هذه المادة الغريبة بأنها كلور في قفص من الهيدرات.

في ثلاثينيات القرن الماضي، اشتكى عمال المناجم من تشكل مادة جليدية في أنابيب الغاز عند تعرضها لدرجات حرارة منخفضة، وعندما فحص العلماء هذه المادة، أدركوا أن تلك المادة لم تكن ماءً متجمداً نقياً، بل جليداً يحيط بجزيئات الميثان.

أعقب ذلك في ستينيات القرن الماضي، اكتشاف هيدرات الميثان – أطلق عليها اسم الغاز الطبيعي الصلب- في بعض حقول الغاز غرب سيبيريا، وقد درسها الجيولوجيون والكيميائيون للتعرف إلى ظروف تكونها، حيث تبيَّن لهم أن تلك الرواسب متجمدة وموجودة في عدة مناطق في خطوط العرض العليا، كما في منطقة المنحدر الشمالي لآلاسكا وعلى عمق كبير في باطن الأرض، كما عثرت شركات النفط التي كانت تنقب في القطب الشمالي على مكامن لهذه المركّبات، ثم اكتُشفت في مطلع الثمانينيات قبالة ساحل المحيط الهادي في غواتيمالا خلال مشروع حفر في الأعماق، وقد استُخرجت عينات من الهيدرات لدراستها وانتشرت أنباء في العالم تفيد بالعثور على مادة متجمدة قابلة للاحتراق.

وبين عامي 1982 و1992م أجرى مختبر تكنولوجيا الطاقة الوطني التابع لوزارة الطاقة الأمريكية، ووكالة المسح الجيولوجية الأمريكية بحوثاً مستفيضة للكشف عن مكامن هيدرات الميثان في الرواسب البحرية، وفي منتصف عقد التسعينيات الماضي اهتمت اليابان والهند بالبحث عن تلك المادة لاكتشاف مكامنها وتطوير وسائل لاستخراج غاز الميثان المحصور فيها بطرق اقتصادية.

مكامن بلورات الميثان المتجمدة
غاز الميثان المحتجز في هيئة هيدرات الميثان، هو غاز طبيعي متجمد يكمن في قيعان البحار والمحيطات وعلى أعماق تتجاوز 350 متراً ضمن مناطق الرواسب التي تدعى بمنطقة استقرار غاز الهيدرات التي يتفاوت عمقها عبر محيطات الكوكب.

1024px-Sir_Humphry_Davy,_Bt_by_Thomas_Phillipsتاريخياً، تكوّن غاز الميثان من البقايا الحيوانية والنباتية الميتة التي تراكمت في قيعان المستنقعات والبحار والمحيطات عبر ملايين السنوات، حيث عملت البكتيريا على تحليل تلك البقايا. وعندما يكون الأكسجين متوفراً فإن البكتيريا تفكك تلك المواد العضوية هوائياً لينتج غاز ثاني أكسيد الكربون، إلا إنه في حال نضوب الأكسجين، يحدث التحلل اللاهوائي الذي يؤدي إلى إنتاج الميثان وبعض الغاز الكربوني.

لقد استرعى هذا المصدر الجديد اهتمام كثيرٍ من الدول التي تسعى إلى سد حاجتها المتزايدة من الطاقة، كاليابان والصين والهند وكوريا الجنوبية والبرازيل والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، فاستخدمت تقنيات حديثة جداً للكشف عن مكامن هذا الغاز الذي يكون على شكل بلورات من الثلج المتجمدة، من تلك الأمواج الصوتية لدراسة أعماق المحيطات والبحار في العالم ورسم خرائط خاصة تبيِّن مدى توفر هذا المركّب فيها.

ويُعد مشروع (Submarine Gashydrate Reservoirs (SUGAR الذي بدأ في عام 2008م من أهم المشاريع في العالم للكشف عن هيدرات الميثان والتعرف إليها بدقة والاستفادة منها، وهذا المشروع الذي تدعمه الحكومة الألمانية بنحو عشرة ملايين يورو وبالخبرات العملية ويسهم فيه كثير من الجهات الأكاديمية والاقتصادية، يسعى إلى تكوين فكرة دقيقة حول التغيرات المناخية المتوقعة في المستقبل، والآثار السلبية لانبعاثات غازات الدفيئة كثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي وتأثير ذلك على الحياة البحرية في العالم، وكيفية الاستفادة من هيدرات الميثان والتقنيات الخاصة التي يمكن استخدامها لاستخراج هذا الغاز وبشكل آمن، وكذلك تطوير طرق خاصة لتخزين ثاني أكسيد الكربون في قاع البحر بدلاً من الغاز المستخرج، وذلك في إطار مراقبة التغيرات المناخية والآثار السلبية المترتبة عليها ومدى تأثير انبعاثات ثاني أكسيد الكربون على توازن البيئة البحرية، وسعياً إلى ابتكار تقنيات خاصة لخفض تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي وذلك من خلال إحلال هذا الغاز مكان هيدرات الميثان، حيث يتم الاستفادة من الميثان كمصدر للطاقة وتخزين الغاز الكربوني بدلاً منه على شكل متجمد في قيعان البحار والمحيطات.

shutterstock_133423667-1من جهته، ذكر العالم الأمريكي «تشارلز بول» من بعثة اكتشاف الحافة القارية المقابلة لساحل كارولاينا أن هذه المنطقة تحتوي على كميات هائلة من غاز الميثان وعلى أعماق تبلغ 860 متراً تحت سطح المحيط الأطلسي، وهذه الكميات المهولة من الغاز تلبي احتياجات الولايات المتحدة الأمريكية من الطاقة لنحو قرن من الزمان، وأن كمية هيدرات الميثان تقدَّر بنحو %5 من المادة المترسبة في الطبقة الصخرية على امتداد حافة الرصيف القاري المقابل لأمريكا الشمالية.

لقد تعاونت أكثر من عشرين دولة أوروبية بالإضافة إلى اليابان وأستراليا والصين في أكبر برنامج دولي للتنقيب في قيعان المحيطات، بواسطة سفينة مجهزة لهذه الغاية تحتوي على معمل متكامل قادر على استخراج عينات من قيعان المحيطات ومن أعماق تبلغ مئات الأمتار دون أن تتأثر تلك العينات عند نقلها إلى سطح الماء، وذلك من أجل دراستها من قبل الباحثين ومعرفة تركيبها بدقة عالية.

يذكر أنه عند درجات الحرارة المتدنية التي قد تصل إلى 40 درجة مئوية تحت الصفر، فإنه يمكن اكتشاف هيدرات الميثان على أعماق قليلة، أما عندما تكون درجة الحرارة، 20 درجة مئوية مثلاً، فإنه يجب البحث في أعماق تصل إلى 3 كيلومترات للعثور على هذا الغاز.

حين يتحرر المارد من القمقم
غاز الميثان الموجود في قيعان المحيطات يكون متجمداً، حيث ينتج عن اتحاد هذا الغاز مع الماء، تشكل هيدرات الميثان التي تكون تحت ضغط مرتفع ودرجات حرارة متدنية، ولدى تغيير الضغط الواقع عليها وانخفاضه أو ارتفاع درجة الحرارة، يتحرر غاز الميثان من مكمنه ويخرج إلى سطح الماء على شكل فقاعات ضخمة، وهذا قد يفسر غرق السفن المفاجئ في منطقة مثلث برمودا وفي أماكن أخرى من العالم.

taqa1لقد أُجري عديد من التجارب لاستخراج غاز الميثان من أعماق المياه، ومنها تجربة لفريق من المهندسين تحت إقليم التندرا في شمال كندا، حيث حققوا نجاحاً محدوداً في عملية الاستخراج، وتلتها اليابان في عام 2013م بتجربة كانت رائدة وشكلت تقدماً حقيقياً في هذا المضمار، حيث عملت الشركة الوطنية اليابانية للنفط والغاز والمعادن JOGMEC ومقرها في طوكيو على تطوير تقنيات متقدمة للوصول إلى غاز الميثان القابع على عمق يبلغ نحو كيلومتر واحد، وقد عملت سفينة «تشيكيو» Chikyu للأبحاث على حفر نحو 270 متراً في الرواسب البحرية للوصول إلى طبقة مكامن هيدرات الميثان التي يصل سمكها إلى الستين متراً.

وبعد ذلك تم تخفيض الضغط في منطقة الحفر بواسطة مضخة ضخمة، لينطلق الغاز من مكمنه الجليدي نحو منصة الحفر على متن السفينة ولتندلع النيران في هذا الغاز سريع الاشتعال، وخلال ذلك كان يتم جمع عدد كبير من البيانات من قبل فريق البحث، كالعمق ومقدار الضغط ودرجة الحرارة في المكمن وسرعة ومعدل تدفق الغاز وتركيبه الكيميائي وغيرها من البيانات المهمة.

هذه التجربة استمرت لمدة ستة أيام، تدفقت خلالها عشرات آلاف الأمتار المكعبة من الغاز، حيث كان يتم استخراج ما معدله 20 ألف متر مكعب من الغاز يومياً، وهذا فاق كل التوقعات، إلا أنه وفي اليوم السادس من التجربة ومع انخفاض الضغط حتى 4.5 ميغا باسكال، حدث انسداد للمضخة بسبب الرمل وتوقفت التجربة.

يقول «كوجي ياماموتو» مدير المشروع: (لقد كانت خيبة أمل، تم استخدام جهازي غربلة لمنع الانسداد، لكن التجربة توقفت) ويبين ياماموتو أنه وفريقه سيعملون على التغلب على هذه العقبة للوصول إلى إمدادات ثابتة من الميثان، وتدفق عالٍ وليصبح هذا المصدر جزءاً رئيساً في خارطة الطاقة في اليابان، حيث تقدر كمية الغاز الموجودة نحو تريليون متر مكعب، وهي تلبي حاجة اليابان من الطاقة لعشرة أعوام على الأقل.

إن كمية الغاز التي تم استخراجها في التجربة اليابانية تفوق بأكثر من عشرة أضعاف ما تم استخراجه من بئر حفر في عام 2008م في منطقة الجليد الدائم في كندا بنفس تقنية تخفيض الضغط في البئر.

Gashydrat_mit_Strukturوفي سياق متصل وحول التجربة اليابانية، قال «ريه بوزويل» مدير شؤون التقنية لبرنامج هيدرات الميثان في مختبر تكنولوجيا الطاقة الوطني بمورغانتاون في فرجينيا الغربية التابع لوزارة الطاقة الأمريكية: «إن التجربة اليابانية تثبت أن ما تعلمناه في القطب الشمالي يمكن تطبيقه في البيئة البحرية، إذ إن الموارد تكون أكثر أهمية».

هذا وقد كان على فريق البحث التغلب على كثير من الصعوبات، كالأحوال الجوية المتقلبة والرواسب السائبة المتحركة، وكذلك مشكلة أن غاز الميثان لدى تحريره من مكمنه، يتسبب في انخفاض درجة حرارة محيطه، وهذا يؤدي إلى تكوين هيدرات جديدة تتسبب في سد البئر أو تقليل كمية الإنتاج.

تحديات كبرى تحدّ من الآمال
ليست الصورة بالوردية المتبدية لأول وهلة. إذ تنطوي عملية استخراج غاز الميثان من الأعماق البحرية السحيقة على كثير من المخاطر البيئية والتشغيلية التي قد تحدّ من الآمال الكبيرة المعقودة على مصدر الطاقة هذا. إذ إن هيدرات الميثان التي تكمن في الرواسب في قيعان المحيطات وتحت القيعان تكون على درجات حرارة منخفضة وضغط مرتفع كما أسلفنا، وتؤدي عملية زيادة درجات حرارة المياه بسبب الزيادة الملحوظة في درجات حرارة الكرة الأرضية أو عند تخفيف الضغط الواقع عليها أثناء عملية استخراجها ، إلى انطلاق الميثان بشكل سريع نحو سطح الماء.

وتبيِّن الدراسات أن زيادة درجة حرارة التيارات المائية تتسبب في زعزعة استقرار هيدرات الميثان الموجودة على الحواف القارية كما في منطقة أمريكا الشمالية، حيث تلتقي أعماق المحيط مع الأرصفة القارية الضحلة، وهذا أيضاً يحدث في مناطق القطب الشمالي التي خسرت جزءاً كبيراً من الغطاء الجليدي فيها خلال العقود القليلة الماضية، وهذا يتسبب في انطلاق الميثان من قاع البحر وتراكمه في الغلاف الجوي، ولا يستبعد الباحثون حدوث ذلك عدة مرات في الماضي الجيولوجي.

كما تشير الدراسات الجيولوجية والبيئية، إلى اكتشاف تسريبات كبيرة من قاع المحيط المتجمد الشمالي وبقطر يصل إلى 1000 متر، حيث ظهرت فقاعات طافية على سطح الماء، وسوف تسرّع من وتيرة ظاهرة الاحترار العالمي، علماً بأن غاز الميثان يمتلك قدرة على الاحتباس الحراري تفوق ثاني أكسيد الكربون – المتهم الرئيس في قضية الاحتباس الحراري – بما يعادل 25 جزيئاً لكل جزيء.

forschungsbohrschiff-chikyu-methan-gas-energiegewinnungأما عملية استخراج الميثان من قيعان البحار والمحيطات، فمحفوفة بكثير من المخاطر، وخصوصاً إذا طبقت على نطاق تجاري، إذ إن أي خلل في عملية الاستخراج وخصوصاً عند تخفيض الضغط قد تؤدي إلى تفكك الجليد، وبالتالي تتسبب في انطلاق غاز الميثان على شكل فقاعات ضخمة تنطلق نحو الأعلى وتحدث اضطرابات هائلة في المياه وزيادة في تركيز غازات الدفيئة في الغلاف الجوي.

هذا وقد دعمت عدة جهات مهتمة بالبيئة مشاريع تخزين ثاني أكسيد الكربون مكان غاز الميثان المستخرج من قيعان البحار والمحيطات، وذلك للحد من تأثيراته السلبية على مناخ العالم، ويعد المجلس الدولي للمناخ من المشجعين لتقنية CCS الخاصة بتجميع الغاز الكربوني ودفنه في أعماق الأرض.

إن المصاعب التي تواجه استخراج هذا النوع من الغاز تفوق بكثير تلك التي تواجه استخراج أنواع الوقود الأحفوري الأخرى، كالبترول والفحم والغاز الطبيعي، فالتكلفة تظل عالية جداً والتقنية الخاصة باستخراجه ما زالت في مرحلة التجريب، كما أن عدداً من الدول التي اهتمت بعمليات استخراج هيدرات الميثان واستثمار هذا المصدر من الطاقة، قد أولت حالياً اهتماماً أكبر باستخراج الغاز الصخري، نظراً لتوفر كميات وافرة منه في أراضيها، كالولايات المتحدة الأمريكية وكندا، بينما ما زال عدد من الدول كالصين وكوريا الجنوبية والهند وألمانيا واليابان تسعى لاستثمار هذا المصدر من الطاقة وتطوير التكنولوجيا القادرة على استخراجه من مكامنه.

وعلى الرغم من أن غاز الميثان يُعد من أفضل وأنظف أنواع وقود الاحتراق، إلا أن عمليات استخراجه من هيدرات الميثان تتطلب إيجاد تقنيات آمنة ومجدية اقتصادياً بحيث لا تؤثر على استقرار قيعان المحيطات والبحار، وأن تكون هذه التقنيات قادرة على استخراج الميثان والحيلولة دون انطلاقه إلى الغلاف الجوي لدرء تأثيراته السلبية على بيئة الأرض التي قد تفوق كل التوقعات.

أضف تعليق

التعليقات