قول في مقال

الثقافة حالة تالية لتوفر أدوات التعبير

Thinking_headقال ديكارت: «أنا أفكر إذن أنا موجود»، ولم يكن ديكارت يبحث عن نفسه في هذه المقولة. ولكن الغرب الحديث هو من وجد نفسه بفضلها . فقد أسست هذه المقولة لمعنى الوجود الذي يأتي بعد الفكر، وهي الفلسفة التي قامت عليها نهضة الغرب في العصر الحديث في مجالات العلوم الإنسانية والتقنية والعلوم النظرية. إننا لسنا هنا لنتعمق في أغوار مقولة ديكارت، فهذا ليس شأن مقالنا الذي سيكتفي باستعارة هندسة هذه المقولة فقط للبحث فيما إذا كانت الثقافة أولية أو ثانوية.

للتمكن من تحليل المسألة لن ننطلق من فرضية، بل من المعطيات في صورة المجتمع وثقافته. فنتساءل عن أسباب هذا الفيض الثقافي الذي يبرز على سطح المشهد المجتمعي في ظروف معينة، مثل احتدام الحوار حتى وإن كان سلبياً متعصباً، وتداول الأفكار عبر الوسائط الاجتماعية، والانحياز إلى آراء معينة بشكل قوي، وحتى الصراع على فرضها. وإلى ذلك نضيف بروز أشكال النُظم المدنية التي تُنشأ لتعزيز هذا الغرض.. وكل هذه المظاهر هي مؤشرات على نشوء ثقافة جديدة، أو لنقل إعادة اكتشاف الثقافة الكامنة في عمق المجتمع – أيّ مجتمع قابل لإنتاج الثقافة وتطويرها.

ولكن السؤال المهم هو حول تراتبية الثقافة، أي حول أسباب ظهورها وإعادة اكتشافها ومبرراتها. هنا، يمكننا أن نعود بالذاكرة إلى حال الثقافة في زمن قريب مضى.

ففي نهاية الثمانينيات خَفَتَ النشاط الثقافي بعد الصراعات التي كانت قد شهدتها السنوات السابقة. ظل النشاط الثقافي خلال التسعينيات هامداً، ومخبأ في المؤسسات الحاضنة للنخب، كالأندية الأدبية، أو الجامعات، أو الملاحق الثقافية التي لا يقرؤها غير النخبة وأصدقاء النخبة، ناهيك عن عدم توفر الوسائط التي تضمن توزيع هذه المواد الثقافية وتعميمها على شرائح أوسع.

وبالعودة إلى فيض الثقافة الذي سبقت الإشارة إليه وعبرنا عنه بمصطلح إعادة اكتشاف الثقافة، نلحظ أن تلك الحركة الثقافية الناشطة نشأت عن التغير المفصلي في أدوات التعبير. ونعني بذلك تحريرها وقدرة غالبية المجتمع على امتلاك هذا الحق في التعبير من خلال الوسائل التي أصبحت أكثر حضوراً ويسراً وخصوصية.

وهنا نعود إلى مقولة ديكارت لنعلل استعارة هندستها، ونضيف إليها تصوراً يساعدنا على فهم الظاهرة المشابهة أو المفارقة لظاهرة الفيض الثقافي التي ذكرناها. فأوروبا الحديثة توصلت إلى حداثتها انطلاقاً من تحرير الأداة: (أنا أفكر)، حتى وصلت إلى: (أنا موجود). وبغض النظر عن العمق الفلسفي للفكرة، الذي ليس هو موضوع بحثنا هنا، فإن ما يهمنا فيها هو آلية الفكرة في المقام الأول. إذ نجد الآلية نفسها فيما ندعوه «تحرير الأداة» في الشأن الذي نحن بصدد تناوله، وهو القدرة على التعبير وسهولة امتلاك الوسيلة اللازمة لذلك والقادرة أن تحمل هذا التعبير أياً كان نوعه وشكله، وهذا ما أدى سابقاً إلى تطور الكتابة، والتدوين، والقراءة، والتفكير، والنقد، وبهذا الترتيب تحديداً. وجيل الإنترنت والمنتديات يعلم تماماً رجاحة هذا الترتيب، ويعي أهميته تماماً.

ومن خلال هذا التفصيل والمقاربة مع المقولة الفلسفية التي اعتمدناها كمنطلق لطرح فكرتنا في هذا المقال، يمكننا رسم ملمح المنهجية الممكنة لفهم ومساءلة النظريات المختلفة، ولنعي بشكل أعمق ظواهر عدة ونفهمها، سواء أكانت ثقافية أو فكرية أو اجتماعية. ومع هذا الفهم، نستعين بهذه المنهجية على تأسيس وابتكار مشاريع تنموية ثقافياً، متميزة نوعاً وجودة، والوصول إلى تفكير فلسفي من إنتاج المثقف المحلي يسهم في تشكيل واقع مجتمعه وصورته الإنسانية من خلال الإبداع في مجالات عديدة كالفنون والآداب وغيرهما.

وختاماً، نخلص من التساؤل الذي طرحناه في بداية المقال، إلى أن الثقافة حالة تالية، بعدية، تسبقها حالة أو عدة حالات تؤسس وجودها الذي يبقى بحاجة إلى أداة تعبير حرّة. ولا أدري هل يستقيم القول لو أننا قلنا أخيراً: «أنا أعبّر.. إذن أنا مثقف»؟.

أضف تعليق

التعليقات