يشاهد دائماً وهو يتجوَّل في مدن الصفيح أو في أحياء البؤس الشعبية الحساسة التي تشكِّل قروح المدن الكبرى والتي لا يجرؤ حتى رجال الشرطة على الظهور فيها علناً. وها هو في أحد أخطر أحياء مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، محاطاً بأناس فرحين: إنه الفنان الفرنسي ج. ر.، ملك ما يعرف بفن الشوارع، والمصور الشهير والناشط الاجتماعي والفنان المبدع، ذو المنهج الفني الفريد من نوعه في العالم.
يقول أحد أشهر فناني الشوارع في العالم إن الممكن بالنسبة له «يبدأ حين نجتاز حدود المستحيل». ويضيف: «يبدو الأمر بالنسبة لي وكأنني أملك آلة هي كناية عن مطبعة سعادة، فالناس يأتون ويتكلمون ويتحاورون ويتفاعلون، وأنا أعشق هذا الجو».
كيف يعمل في نيويورك مثلاً؟
اكتست أرضية ساحة تايم سكوير الشهيرة في نيويورك بصور فوتوغرافية مكبرة لوجوه أناس من كافة شرائح مجتمع المدينة، وعلى مقربة من هذا «المعرض» وقف ج. ر.، الذي لا تفارقه نظارته السوداء وقبعته، يدعو المارة إلى دخول كابينة التصوير المقامة في الساحة لالتقاط صور لهم مجاناً وتكبيرها ولصقها بجانب مئات الصور الأخرى.
تمثل مرحلة تايم سكوير في نيويورك الحلقة الرئيسة في مشروع ج. ر. المسمى «استخراج الباطن ليصبح الظاهر» الذي مر بهونغ كونغ ولشبونة وبيت لحم وتكساس، مظهراً روح المدن وساكنيها من خلال صور مكبرة ملصقة على واجهات المباني أو على أرضية الساحات. يقول ج. ر.: «عندما كنت أذهب إلى أطراف العالم ويأتيني الناس بحماس قلّ نظيره، كنت أقول لنفسي إن هذا ربما يعود إلى افتقار الناس في تلك الأماكن إلى المعارض والمتاحف. لكن ها هو المشهد نفسه يتكرر في تايم سكوير بنيويورك التي تغص بالمتاحف والمعارض. الناس هنا مستعجلون ومشغولون جداً، وهم يقطعون الساحة عادة في خمس دقائق أو ربما أقل، ولكنهم الآن يتوقفون ويتمهلون ويضحُّون بساعات كاملة من وقتهم للمساعدة في إلصاق الصور وأعمال أخرى. هذا ما يعزز إيماني بالناس ويشكِّل حافزي الحقيقي».
شارك حتى الآن أكثر من 150 ألف شخص في هذا المشروع، وها هي صبية نيويوركية تصرخ ضاحكة: «انظروا! إنها صورتي. أليست جميلة؟». وتقول أخرى إنها كانت تتابع عمل ج. ر. منذ أكثر من ثلاث سنوات وإنها شديدة الإعجاب بالطريقة التي يشرك بها الناس في عمله ليوجد هذا الجو من التضامن والدفء الإنساني. أما هذا الرجل العجوز فيقول مبتسماً: «ها قد عادني مجدداً حب التقاط الصور!».
كانت البداية من تونس
تمثل هذه العروض مناسبة فريدة تتيح فرصة المشاركة لجميع سكان المدينة. والمهم هنا أن التقاط الصور بالنسبة لـ ج. ر. – الذي ترك بصمته على الأماكن العامة في العالم أكثر من أي فنان آخر- ليس نهاية أو غاية بذاتها، بل مجرد بداية لعمل أعظم. في العام 2011م قدَّمت إحدى المؤسسات 100 ألف دولار أمريكي إلى ج. ر. مكافأة له على جهده لتغيير العالم إلى الأحسن، فأنفق المبلغ في إقامة حفل جماهيري ضخم دعا فيه الحاضرين إلى التفاعل فيما بينهم ومشاركته في مشروعه قائلاً: «ها نحن نقوم الآن معاً بقلب باطن العالم لنجعله ظاهره، وأنا أتمنى لكم أن تناضلوا من أجل ما تؤمنون به». يدعو ج. ر. الناس من مختلف أصقاع الأرض إلى التقاط صور لهم، ثم يقوم بتكبيرها وتقديمها لهم لعرضها على جدران أحيائهم. وقد أبصر هذا المشروع النور في تونس أثناء ذروة غليان «ثورة الياسمين»، فرأى التونسيون فيه بعداً سياسياً يناسب المرحلة بحيث يعبِّرون عن أنفسهم وتزدان شوارعهم بصورهم بدلاً من صور السياسيين. وكان الناس الذين لم يشاركوا في المشروع يتساءلون عن هوية أصحاب هذه الصور الجديدة، أو يعمدون أحياناً إلى تمزيقها. ويعلِّق ج. ر. على تلك المرحلة قائلاً: «بعض المارة كانوا لا يعرفون أنها صور لأناس بسطاء وعاديين مثلهم. وطالما أننا ندافع عن حق الناس في تعليق الصور، فللناس أيضاً حق تمزيقها. إنها الديمقراطية على أي حال، مع أن الذين مزقوا الصور كانوا يخافون من أن تكون دعاية لديكتاتوريين جدد سيخضعون العباد مجدداً لنير الاستبداد».
لغة الوجوه تروي التاريخ
حين ذهب ج. ر. إلى برلين العابقة برائحة التاريخ لينفذ مشروعه المسمى «تجاعيد المدينة»، كان ينظر إلى صور التقطها لعدد من سكان المدينة ويقول للمتجمعين: «انظروا إلى التجاعيد على هذا الوجه وعلى ما يبدو من هذا الجسم. إنها تروي قصة مدينتكم. نعم، هذه هي برلين التي لا نستطيع التعرف إليها من خلال كتب التاريخ. لقد استغرق تشكل هذه التجاعيد ردحاً طويل من الزمن، وعندما تكون في الثمانين أو التسعين من العمر، فإنك تكون قد شاهدت كثيراً: الحروب، والديكتاتورية، والانتقال إلى الديمقراطية، وتطور فن العمارة والغناء، وموجات الهجرة الجماعية، وأشياء أخرى كثيرة لا يعرفها الشباب. لذلك فإن هذه الخطوط التي حفرها الزمن هي بمنزلة خميرة تحكي، لمن يحسن قراءتها، حياة أجيال كاملة. وأنا شغوف بإبراز التفاعل بين هذه التجاعيد وما في جدران المدينة من صدوع وشقوق، فهي كلها كهوف يختبئ فيها تاريخ المكان». ويقول ج. ر. إن فكرة المشروع راودته حين رأى في مدينة إسبانية أناساً قد جعّدتهم الشمس وجففت ملامحهم، فباتوا أشبه بتماثيل متحجرة لأن المدينة من حولهم قد تغيرت كثيراً بحيث تحولوا إلى ظلال وشواهد على ماضٍ اندثر. وقد استشاط غضباً حين رأى أجزاء محطمة من صالة «إيست سايد غاليري» العريقة في برلين، فبادر مع مجموعة من المتطوعين إلى التقاط أجزاء الجدران وتجميعها مع بعضها لمحاولة إعادة الغاليري إلى سابق عهدها، مع أنه كان يعلم أن الشرطة قد تنقض عليه وعلى مساعديه في أية لحظة.
إبقاؤه على غموض هويته
لا يرغب ج. ر. في الكشف عن هويته، ويعود ارتداؤه القبعة والنظارة السوداء واستخدام حرفين فقط اسماً له، إلى عهد كان فيه يزاول عمله الفني في الخفاء. وكانت بدايات ظهوره على مسرح هذا الفن أثناء أعمال الشغب التي اجتاحت ضواحي باريس الفقيرة التي تقطنها أغلبية من المهاجرين الذين أتوا من المستعمرات الفرنسية السابقة، ولا سيما من القارة السمراء. يقول ج. ر. إنه نشأ في ضاحية باريسية متوسطة المستوى، ولكنه صدم حين رأى ضواحي مثل كليشي تغرق في بؤس لم يتصور يوماً إمكان وجوده في عاصمة النور. فبدأ في عام 2005م بالتقاط صور في ضاحية كليشي لشبان من المهاجرين، قال له أحدهم: «نحن هنا لا نملك شيئاً. المصاعد لا تعمل ومصابيح النور محطمة. حياتنا صعبة جداً». قام ج. ر. بتغطية جدران أحياء باريس الراقية بصور شبان يبدو الغضب على وجوههم، في حملة اتسمت بمغزى سياسي واضح ينم عن واقع الضواحي الفقيرة. وقد عرض عليه عدد من الصحف الفرنسية أثناء أعمال الشغب شراء صوره، ولكنه رفض بيعها قائلاً إنها ملك لأصحابها وإنها أداة تعبير هدفها تغيير واقع أحياء البؤس.
كان ذلك المنطلق الذي أدرك ج. ر. عنده أن الصورة يمكن أن تكون سلاحاً لتحسين حياة الناس، وأن الفن الذي يستهدف نخبة محدودة تملك القدرة على فهمه قد يكون شيئاً مهماً ولكن ليس بأهمية الفن الشعبي الذي يعجب ويحرك الجميع، لأنه الفن العفوي والغرائزي الذي يفهمه كل الناس والذي يثير عواطفهم.
تفاوت المواقف من فنه
يجدد هذا الفنان الملتزم تفكيره بمسائل الهوية والحرية على الدوام. فهو يجوب كافة أرجاء العالم، وفي كل محطة يزورها تبرز مجدداً التساؤلات نفسها: ما هي الحدود التي يستطيع الفن بلوغها؟ وما هو تأثير الفن؟
وعن تجربته الخاصة يقول: «هنالك أوقات أتعرَّض فيها للطرد والغرامات، وقد أزور يوماً بلاداً أستقبل فيها كأحد روَّاد فن التصوير ثم أزور بلاداً تعد عملي خروجاً على القانون أو عملاً يخفي أهدافاً سياسية. كما قد أزور بلداناً لا تعرف ما هي الخانة التي يجب عليها تصنيف عملي فيها، وهل يجدر بها السماح به أم منعه؟ متغيرات كثيرة تتوالى في حياتي تبعاً للسياق والأحوال، وعلى الفنان الحقيقي أن يتوقع تعرضه لأي شيء». حاول أفراد من الأمن في برلين منع ج. ر. من إصلاح ما هدم من غاليري إيست سايد، فاكتفى بأن فسَّر لهم الهدف من عمله وطلب تعاونهم. وهو يقول: «عليك أحياناً أن تتوقف أو أن ترحل بكل بساطة. هذا ما تعلمته». وعندما سئل إذا كان يحب أن يعمل بشكل غير قانوني، أجاب: «ليس هدفي أن أعمل خلافاً للقانون، فهذا لا يرقى إلى هدف بذاته. أنا أقوم بما يجب علي القيام به وأترك الباقي للظروف». بعد أن أزالت الشرطة كل أثر لعمله، عاد ج. ر. في اليوم التالي لمواصلة عمله الإبداعي، ولكن بصورة قانونية تماماً هذه المرة. وقال عجوز وقف ينظر إليه وهو يلصق صورة عملاقة على جدار مبنى «إنه حقاً صاحب رسالة، وأنا معجب بعبقريته ومثابرته. إنه يستحق الدعم منا جميعاً».
لا يعترف ج. ر. في عمله بالمسلمات والأفكار المسبقة، وقد يتخذ ذلك التوجه أحياناً طابعاً مثيراً ولافتاً مثلما حدث حين ذهب إلى قطاع غزة في إطار مشروعه «وجهاً لوجه»، حيث ألصق على جانبي جدار الفصل العنصري الذي يفصل القطاع عن فلسطين المحتلة صوراً لفلسطينيين وإسرائيليين، بحيث بات الفلسطينيون يرون لأول مرة صور إسرائيليين يبتسمون لهم، بينما يرى الإسرائيليون من جانبهم وجوهاً فلسطينية تتطلع إليهم. كان ذلك معرض الصور الأكثر خروجاً على القانون في تاريخ البشرية، معرض مقام في الهواء الطلق في المكان الأقل أرجحية والأكثر رمزية لإقامته. ويقول ج. ر. عن تجربته هذه: “كان أصدقائي يقولون لي هذا عمل خطر، وقد تدفع الثمن غالياً. لكن كل ما عدت به إلى بلادي كان لسعة الشمس على وجهي والاحتكاك والتفاعل مع أناس كثير أبدوا لي الود وأخبروني بأشياء كثيرة كنت أجهلها. وباختصار فقد عدت في الواقع بنظرة جديدة إلى صراع طالما كنت أسمع أخباره منذ نعومة أظافري. هنالك أشياء كثيرة نعتقد أنه يستحيل علينا القيام بها، ولكن التحدي الأكبر هو أن نتجاوز مخاوفنا وما راكمناه من مفاهيم جامدة. هنا يبدأ الإبداع الفني، وللفن قوة كبيرة يمكنها أن تسهم بفاعلية في تغيير ما يبدو جامداً وأزلياً».
يقوم ج. ر. بتمويل مشاريعه الفنية من خلال إقامة معارض في عدد من الصالات المرموقة، حيث تباع الواحدة من صوره بخمسمائة يورو كحد أدنى، وبثمن قد يصل لبعض الأعمال الكبيرة إلى عشرات الآلاف من اليورو. ويبذل ج. ر. كل ما في وسعه، منذ بداية مسيرته الفنية، لكي يظل مستقلاً، ويرفض كل عروض وأشكال التبني والرعاية من جانب المصالح التجارية ومحاولات الاحتواء من جانب المؤسسات والأحزاب السياسية. منتصف الليل في نيويورك: تفسح الدعايات لبضع دقائق المكان لصور على جدران تايم سكوير التقطها ج. ر. وقام بتكبيرها ثم تعاون مع عشرات المتحمسين على لصقها حول الساحة. وفي منهاتن، تضفي صوره لمسة إنسانية على جدران هذا الحي الذي يحرص المتجمهرون من سكانه على أن يعربوا للفنان «أبو قبعة ونظارة سوداء» عن مدى تقديرهم لما أضافه من جمالية على حيهم ومن شعور فيما بينهم بالانتماء إلى مدينة واحدة.