الناس تسأل: ماذا يجري؟ أين الأبحاث الطبية المتقدمة والاكتشافات المدهشة فـي كل حقل من الحقول التي ليس أقلها حقل علم الجينات؟ لماذا رغم كل هذا التقدم تجد الإنسانية نفسها، ومعها جيشها من العلماء والأطباء، عاجزة عن إيجاد العلاج لأمراض كهذه، وما هي هذه الأمراض أصلاً ولماذا تظهر هذه الفيروسات المجهولة ومن أين تأتي؟!
قبيل ظهور وباء سارس بأشهر قليلة كانت مجلات علمية وطبية قد نشرت أبحاثاً تفيد أن المعركة بين المضادات الحيوية والفيروسات قد حسمت لصالح الأخيرة أو تكاد.. وأن الإنسانية مهددة بأن يأتي يوم تكون فيه فـي مواجهة الفيروسات والجراثيم عزلاء لا تمتلك أية وسيلة للمقاومة. هذه الإنسانية نفسها كانت قبل حوالي أربعة عقود قد غدت واثقة من قدرتها على مواجهة أخطر الأوبئة وأشدها فتكاً.. أو على الأقل أنها تسير قدماً بهذا الاتجاه. فجأة أخذت تظهر ملامح أوبئة جديدة ليست فـي الحسبان .. كان من أولى الصدمات ظهور «الإيدز»، مرض غامض فتّاك مجهول الأصل، ثم فوجئت الإنسانية، وهي لم تستيقظ بعد من المفاجأة الأولى، بمرض آخر جديد حرم الكثيرين من أكل اللحوم لسنوات طويلة وأودى بالملايين من القطعان لأن الطب عجز عن مداواتها.. جنون البقر.. واليوم سارس!
مراسلو القافلة قابلوا بعض الأخصائيين وجمعوا بعض الأجوبة عن أسئلة هذا الموضوع..
أثار وباء الالتهاب الرئوي اللانمطي «السارس» موجة رعب عالمية منذ الأيام الأولى لتفشيه في الصين وهونغ كونغ، على الرغم من أن عدد ضحاياه كان لا يزال آنذاك نقطة في بحر قتلى حوادث السير والتدخين، وحتى السمنة الزائدة. فسبب الرعب لا يكمن في عدد ضحايا هذا الوباء الجديد، بل في احتمالات تفشيه الهائلة وقدراته اللا محدودة على عبور القارات، أي في احتمال انتقاله إلى مرحلة الفتك بالملايين، خاصة في البلدان التي لا تمتلك البنية الصحية والطبية المتطورة. وما يزيد الطين بلّة ويضاعف من هلع الناس هو أن مرض «السارس» ليس ظاهرة منعزلة، بل يندرج في إطار سلسلة من الأوبئة والأمراض التي باتت تتوالى بسرعة كبيرة. فمن الإيدز والأيبولا، إلى جنون البقر في شكليه الحيواني والبشري يجد المرء نفسه، رغم الاختراعات والاكتشافات الطبية المدهشة معرضاً أكثر من أي وقت، أو هكذا يعتقد، لخطر الهلاك على أيدي أجناس مجهولة من الفيروسات والبعوضات والبكتيريا التي لا يوجد في صيدلياتنا الضخمة ما يستطيع مجابهتها.
طواعين الماضي
إنها ليست المرة الأولى التي تجابه فيها الإنسانية مثل هذه التحديات والأخطار، فالمؤرخون ما زالوا عاجزين عن إعطاء تفسير مقنع لطبيعة «الوباء العظيم» الذي فتك بأهل أثينا عام 430 ق.م، وفي القرن السادس الميلادي، وتحديداً بين 542 و564م، خرج وباء الطاعون من منطقة البحر الأسود ليعمّ أوروبا وإفريقيا وآسيا ويقضي على نحو ستين مليوناً من البشر. وفي منتصف القرن الرابع عشر الميلادي تفشّى في أوروبا وباء «الطاعون الدُمّلي» والذي عرف في حينه بالطاعون الأسود نظراً للون الدم القاتم في الدمامل التي كان يتسبب بها. وقد قضى هذا الوباء على مدن بأكملها في سنة واحدة. إذ توفي آنذاك نصف عدد سكان فلورنسا والبندقية، وبلغ عدد الوفيات في إنجلترا ألف شخص يومياً.
وكان الطاعون الذي تفشى في فلسطين وبعض بلاد الشام من العوامل التي أدت إلى هزيمة نابليون بونابرت عند حصاره لمدينة عكا في بداية القرن التاسع عشر. وفي العقدين الأولين من القرن العشرين، أهلك وباء الكوليرا «الهواء الأصفر» مئات الآلاف في البلاد العربية على دفعتين ضربتا بلاد الشام في عامي 1901 و 1913م.
غير أن أشهر أوبئة القرن العشرين كان وباء «الأنفلونزا الإسبانية»، الذي تزامن انتشاره مع نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1918م وسمي آنذاك بـ «الجريب». فقد قضى هذا الوباء على أكثر من ثلاثين مليوناً من البشر خلال ستة أشهر فقط، في حين أن ضحايا الحرب على مدى أربع سنوات كانوا تسعة ملايين فقط! وقد تفشّى هذا المرض عالمياً حتى أنه أعطى اسمه لاحقاً في الثقافة الشعبية لمرض الأنفلونزا ككل، وذلك لتشابه عوارض الوبائين.
وكان لا بد من انتظار اكتشافات باستور وكوخ لعالم الجراثيم في القرن التاسع عشر، واكتشاف البنسلين عام 1928م على يد فليمنغ، لكي تتنفس الإنسانية الصعداء، ويتم إنقاذ حياة مئات الملايين من البشر من عدو مخيف اسمه الجرثومة.
وعلى مدى أكثر من نصف قرن ظل الخط البياني المؤشر لانتصارات الطب على الجراثيم يتجه صعوداً، فأمراض مثل السل، الكوليرا، السفلس، وغيرها لم تعد قاتلة، بل صار علاجها أمراً ممكناً إذا تم ذلك في الوقت المناسب. كما أن اللقاحات أمّنت دروعاً واقية للأجسام غير المصابة، بحيث أن تفشي الأمراض الجرثومية كأوبئة صار أمراً مستبعداً.
وطواعين اليوم
شهد الربع الأخير من القرن العشرين الميلادي بداية تفشي أوبئة جديدة زعزعت اطمئنان الإنسان إلى قدرات الطب. فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن السارس لا يزال محاصراً بشكل عام في مناطق جغرافية محددة في الشرق الأقصى، والأيبولا لم يخرج عملياً عن دوائر محددة وضيقة نسبياً في إفريقيا، يمكننا القول أن الإيدز كان آخر وباء يضرب البشرية على اتساع دول العالم بأسرها. وعلى الرغم من أن الإيدز لم يعد يتصدر عناوين الصحف ونشرات الأخبار التلفزيونية كما كان الحال عند بداياته في الثمانينيات الميلادية، فإن أعداد ضحاياه قد تجعله قريباً الوباء الأشد فتكاً في التاريخ.
فالإحصائيات التي أصبحت اليوم أكثر دقة مما كانت عليه أيام الطاعون الدملي، تشير إلى أرقام مذهلة ومرعبة. إذ بلغ عدد الذين ماتوا بسبب الإيدز في العام الماضي فقط مليونين ونصف المليون نسمة، بينما بلغ عدد الوفيات منذ بداية انتشاره وحتى الآن أربعة عشر مليوناً. أما عدد المصابين به حالياً فيزيد على ثلاثة وثلاثين مليوناً. أي أننا لو افترضنا جدلاً أن هذا الوباء توقف اليوم عن الانتشار، لكان مجمل ضحاياه أكثر من سبعة وأربعين مليون نسمة.
عجز الطب عن المواجهة تجلّى أيضاً في وباء «جنون البقر» الحيواني المنشأ والقادر على اجتياح الإنسان أيضاً. فأمام فقدان أي علاج للأبقار المصابة، واحتمالات تفشيه الخطيرة، لم يكن هناك من «حل» لمواجهة هذا الوباء سوى إبادة كل قطيع يظهر هذا المرض على بقرة واحدة فيه!؟ يقول البروفيسور بيار ماري ليدو المدير في مركز البحوث العلمية الفرنسية والباحث في معهد باستور: «في حين أن الهدف المعلن لبحوث علماء الأحياء هو إطالة عمر الإنسان، تأتي الأمراض المعدية الجديدة لتهدد كل إنجازاتنا دون أن نستطيع تنظيم هجوم معاكس حتى الآن».
حروب بين أقوياء
يقول التعريف البسيط للوباء إنه انتشار سريع لمرض جرثومي، ليشمل منطقة جغرافية معينة، أو عدة مناطق، وأحياناً العالم كله. وقد وضع العلماء مقاييس ومصطلحات لوصف هذا الانتشار كإحصاء نسبة الإصابات في عدد السكان وعدد الإصابات خلال فترة زمنية محددة وفي مساحة جغرافية معينة.
والمرض الجرثومي أساسه «ميكروب» سواء أكان من نوع البكتيريا أم الفيروس، الذي ينفذ بطرق مختلفة إلى الجسم ثم يدخل في صراع مع جهاز مناعته. هذا الصراع قد ينتهي بالقضاء على الميكروب، أو موت الشخص المصاب. إذن هو صراع بقاء بين طرفين حيين، ولذلك فهو صراع شرس يطوّر فيه كلٌ من الطرفين كامل أسلحته ويحارب حتى النفس الأخير.
ففي مجال محاربة البكتيريا، طوّر الإنسان أشكالاً متعددة من المضادات الحيوية للقضاء على البكتيريا المختلفة مثل تلك المسببة للملاريا والسل. أما الفيروس الذي يختلف حجماً وتركيباً عن البكتيريا، فلا يحارب مباشرة بالأدوية، بل بتنشيط جهاز المناعة في الجسم من خلال إعطائه جرعة مخففة من الفيروس نفسه تدفعه إلى إنتاج الأجسام المضادة التي تهاجمه وتشلّ حركته عندما يدخل الجسم بشكل جدي. وهذا ما يعرف بالتلقيح. إذن، لإنتاج لقاح ضد فيروس ما يجب أن نتعرف عليه أولاً، وهذا يحدث بعد وقوع الإصابة. فالفيروسات كائنات مجهرية يلزم تكبيرها مئات آلاف المرات لرؤيتها، تتواجد في الماء والحيوان والتربة. لذلك من غير الممكن البحث عنها واصطيادها قبل ظهورها داخل الجسم مسببة له المرض. وحتى عند التعرف على الفيروس، فإن ذلك لا يعني بالضرورة التمكن من إيجاد لقاح مضاد له. وفي هذا المجال يقول مدير البرامج الصحيّة في «منظمة اليونيسيف» الدكتور علي الزين: «إذا كنا نستخدم فيروساً واهناً للقاح ضد الحصبة مثلاً، فإننا لا نستطيع ذلك تجاه مرض الإيدز، لأن لا أحد يجرؤ على ذلك. فنحن لا نعرف إن كانت الفيروسات المستخدمة وهنت بالفعل أم لا». ويضيف: «إن التطورات التقنية ساعدت في الكشف عن طرق معالجة كنا نجهلها، حتى أن التقنيات العسكرية صارت تستخدم في الطب وحققت نجاحات كثيرة. لكن هذا لا يعني أن أسطورة الطب القادر على القضاء على أي مرض صحيحة، فهناك مشكلات جديدة تظهر، وبعضها يأخذ منحىً تفجيرياً».
ويعتقد الطبيب المتخصص في الأمراض الجرثومية في الجامعة الأميركية في بيروت، الدكتور مروان عويضة، إن النظرة التي كانت تُبجّل قدرات الطب في القضاء على الأمراض الجرثومية قبل نحو ربع قرن، صارت اليوم أكثر تواضعاً. لا بل إنها انتقلت من فكرة القضاء على الجراثيم إلى التفكير في طريقة للتعايش معها.
فالجراثيم حسب ما تبيّن للأطباء والعلماء أقوى بكثير مما كانوا يتصورون، وهذا أمر لا يدعو إلى الاستغراب، فهي كائنات حية، تتغير حسب ظروفها، ولديها القدرة على أن تتطور للدفاع عن نفسها والبقاء، وحتى لأن تصبح أكثر فتكاً. وعلى سبيل المثال، فإن دواء البنسلين كان كفيلاً في الماضي بالقضاء على «داء الرئة»، إلا أن الجيل الجديد من الجراثيم نفسها بات قادراً على مقاومة البنسلين ومضادات حيوية أخرى، خاصة وأن سوء استعمال هذه المضادات الحيوية منح الجرثومة قوة وقدرة على التنوع. ويحذر الدكتور عويضة من أننا في ظل هذه الحلقة المفرغة قد نصل إلى «حقبة ما بعد المضادات الحيوية» ولا أحد يعرف ما قد يحصل في هذه الحال.
تقول الدوائر الطبية والعلمية في بريطانيا إن ظهور أمراض جديدة هو أمر حتمي. وظهور السارس لم يكن مفاجأة لأهل العلم، بل على العكس، كانوا يتوقعون شيئاً من هذا القبيل. ويعود بعض الذعر عند بداية تفشي السارس إلى الاعتقاد في أن يكون فيروس هذا الوباء متحدراً من فيروس «الأنفلونزا الإسبانية» التي أشرنا إليها سابقاً، والتي لا تزال ذكراها تؤرق الأطباء بعد أكثر من ثمانية عقود على انحسارها. فالفيروس مثل البكتيريا ينهزم ويتراجع، إلى أن يطوّر أسلحته ويعود إلينا في ثوب جديد. ولكن الاعتقاد لاحقاً بأن الفيروس الجديد قد يكون حيواني المنشأ، ولا علاقة له بفيروس الأنفلونزا الإسبانية أراح أعصاب الأطباء قليلاً.
عولمة الآفات
إلى ذلك، هناك عوامل لا تزال تنتصر للجراثيم في معركتها ضد الإنسان. والأدهى من كل ذلك أن بعض هذه العوامل هو من صنع الإنسان نفسه، وعلى علاقة بمقومات العولمة المبنية على نمط جديد من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. فمن تجليات العولمة على الصعيد الصحي أن أمراضاً غير معروفة وكامنة تاريخياً في بقع جغرافية ضيقة صارت مرشحة للتفشي على الصعيد العالمي. إذ أن قدرة المرء على التجوال في العالم خلال ساعات قليلة، وآلاف الرحلات الجوية ما بين عواصم العالم يومياً سهّلت انتقال الجراثيم المصاحبة للإنسان من مكان إلى آخر.
وإذا كان الإنسان قديماً يأكل ما يزرعه، فإنه الآن لا يعرف شيئاً عن مصدر طعامه، إذ أن عملية الاستيراد تشمل كل شيء بالإضافة إلى طريقة التصنيع. وهذه خزانات تحمل معها أشياء لا نعرفها، ولا شيء يضمن عدم احتوائها على جراثيم مسالمة أو قاتلة لم تكن موجودة أصلاً في البلد المستورد.
إلى ذلك يبدو أن نجاح الطب في إطالة عمر الإنسان كان سيفاً ذا حدين. إذ يرى الدكتور عويضة «أن الهدف، أي جسم الإنسان، صار سهلاً على الجرثومة التي تسعى إلى اختراقه، ولا سيما أن الإنسان صار يعيش عمراً أطول، مما يجعله ضعيف المناعة أكثر فأكثر».
وأيضاً هناك العامل الاقتصادي الذي لا يمكن إغفاله، بدءاً باستغلال التقنيات للحصول على الربح السريع في إنتاج المواد الغذائية مروراً باستخدام المبيدات وصولاً إلى التعديلات الوراثية التي لا يمكن التكهّن سلفاً بكافة نتائجها. أليس مرض جنون البقر في شكله الإنساني هو أوضح تعبير عن هذا الاستهتار بقوانين الطبيعة عندما أصبح الركض وراء الإنتاجية المفرطة والاستهلاك الجنوني سبباً لتغيير طريقة تغذية البقر، وهي حيوانات لا تأكل سوى النبات، بتقديم الطحين الحيواني لها وحقنها بمختلف أنواع الهرمونات، لا لشيء سوى إنتاج المزيد من اللحوم ذات النوعية السيئة لتحقيق المزيد من الربح في أسرع فترة ممكنة؟.
وإذا كانت الجهة التي تملك قوة الإنتاج في العالم تمتلك العلم أيضاً، فإن للعولمة نتائج إيجابية في حفز هذه القوة على توظيف قدراتها لمكافحة الأوبئة التي تظهر في أي جزء من العالم انطلاقاً من الحفاظ على مصالحها فيه.
فمرض الملاريا الذي كان مستوطناً في مناطق فقيرة من العالم لم يكن يثير اهتمام الدول الرأسمالية التي كانت تعتقد أن هذا الوباء لا يلامس حدودها ومجتمعاتها. والحمى المالطية التي تصيب الآلاف في العالم العربي لا تجد من يهتم في لقاح للقضاء عليها. أما أمراض مثل «جنون البقر» و«الإيدز» و «سارس» التي تخطت كل الحدود أخيراً فقد شهدت استنفاراً عالمياً لمكافحتها والقضاء عليها وتمكنت الأبحاث، التي انطلقت بمبادرة من منظمة الصحة العالمية وخلال أقل من شهرين، من حل لغز التركيب الوراثي لفيروس «سارس». الأمر الذي يشكل خطوة كبيرة إلى الأمام قد تختصر الوقت اللازم لمواجهة هذا المرض والقضاء عليه.
والسياسة أيضاً..
وماذا عن السياسة بمعناها الدقيق؟ هل لها من دور في هذه المواجهة ما بين الإنسان والجراثيم. ظاهرياً، يبدو للكثيرين أن تحالف بني البشر ضد الأوبئة القاتلة أمر بديهي. ولكن نظرة مدققة إلى الأمر تكشف أن الأطباء العلماء في المختبرات يعملون أحياناً تحت مؤثرات سياسية غير مثالية. فعندما أعلن مركز أطلنتا في مطلع الثمانينيات الميلادية، وهو من أهم المراكز العلمية لرصد الأمراض القديمة والطارئة في العالم، عن اكتشاف مرض فقدان المناعة المكتسبة (الإيدز)، لم تكن ردة فعل إدارة الرئيس رونالد ريغان المحافظة على مستوى جرس الإنذار، لا بل كان فيها بعض اللامبالاة تجاه هذا المرض الذي اعتبرته «معيباً»، ولم تكرس أية أموال تذكر لدعم الأبحاث ومحاربته، فقام الفنانون ونجوم السينما بالتبرع لسد هذه الفجوة. أما اليوم وبعد تفشي هذا الوباء، فقد وصلت الأرصدة التي خصصتها إدارة الرئيس جورج بوش إلى خمسة عشر مليار دولار لمحاربته ومنع استفحاله، وإيجاد لقاح يقي منه. ومن المرجح بالطبع أن هذه الأرصدة كانت ستكون أكثر جدوى عند بداية انتشار الوباء.
وتظهر العصي السياسية في دواليب العلم ومكافحة الأوبئة بصورة أوضح خلال أزمة السارس الحالية، فقد احتاجت منظمة الصحة العالمية إلى إذن من الصين لتفقّد تايوان عند بداية تفشي المرض فيها. واتهمت تايوان الصين لاحقاً بعرقلة مساعي المنظمة الهادفة إلى مساعدتها بحجة أنها ليست عضواً فيها.. وفيما ينهمك الدبلوماسيون في البلدين بتبادل الاتهامات، يزحف فيروس السارس من شخص إلى آخر، مستفيداً من انهماك خصومه في خلافاتهم.
على كل حال، ولو افترضنا جدلاً أن العلم توصل إلى تصنيع الأدوية القادرة على معالجة المصابين بهذه الأوبئة، أو اللقاحات الواقية منها، فهذا لا يعني بالضرورة استفادة الجميع من هذه المكتشفات، فالأبحاث العلمية صارت مكلفة للغاية وتحتاج إلى موارد مالية كبيرة، أي أن العامل الاقتصادي صار مؤثراً وطرفاً في اللعبة، فالإحصائيات تشير إلى أن نحو 95 في المئة من المصابين بالإيدز هم في إفريقيا. ولكن الشركات الغربية التي أنتجت أدوية تبطئ مفعول الفيروس، لا تسمح للأفارقة بإنتاج هذه الأدوية محلياً بتكلفة رخيصة، وتصر على بيعه إليهم بأضعاف كلفة تصنيعه محلياً حتى لا تتأثر أرباح مساهميهم (تصل كلفة أدوية إبطاء مفعول الفيروس إلى حوالي ثلاثة آلاف دولار شهرياً!). وإذا أردنا أن نذهب إلى نهاية المطاف في هذا المجال نشير إلى أن هناك تلميحاً خفيفاً في بعض دول العالم الثالث وخاصة في إفريقيا إلى أن الدول المتقدمة تمنع عنها عمداً تقنية الأدوية لا لأسباب تجارية فقط، وإنما للحد من الزيادات الهائلة في أعداد سكانها والتي قد تشكل تهديداً للدول المتقدمة في المستقبل.
كل هذا يدفع الأطباء إلى القول أن لا سياسة عالمية تُصنع للمصلحة العليا للإنسان، ومهمة الطبيب صارت معالجة آثار الفوضى التي تعم العالم.
وإذا كان هناك من أمل في أن يتمكن الطب من القضاء على الأوبئة التي تفتك بالبشر حالياً، فالمؤكد أن ذلك لن يكون في القريب العاجل، كما أنه لن يكون بالعلم وحده..
—————
كادر
من رواية «الطاعون»
ألبير كامو
1
– طبعاً أنت تعرف ما هو يا ريو؟
– أنتظر نتيجة التحليلات.
– أما أنا فأعرفه، ولست بحاجة إلى التحليلات. لقد مارست جزءاً من مهنتي فـي الصين، وشاهدت بعض الحالات فـي باريس منذ عشرين عاماً. بيد أنهم لم يجرؤوا آنذاك على إطلاق اسم عليها.. ثم، كما يقول أحد الزملاء: «مستحيل فجميع الناس يعرفون أنه اختفى من الغرب». أجل كان الجميع يعرف ذلك، ما عدا الأموات. كفى يا ريو، فأنت تعرف مثلي تماماً إنه..
قال: «نعم يا كاستيل. إن هذا يكاد لا يصدّق. ولكن يبدو جيداً أنه الطاعون».
2
«كان يعرف ما كان هذا الجمهور الفَرِح يجهله، وأن بإمكان المرء أن يقرأ فـي الكتب أن قصيمة الطاعون لا تموت ولا تختفي قط، وأنها تستطيع أن تظل عشرات السنوات نائمة فـي الأثاث والملابس، وأنها تترقب بصبر فـي الغرف والأقبية والمحافظ والمناديل والأوراق التي لا حاجة لها، وأن يوماً قد يأتي يوقظ فيه الطاعون جرذانه، مصيبة للناس وتعليماً لهم، ويرسلها تموت فـي مدينة سعيدة».
——————————-
ملحقات
السارس.. الدليل العلمي
هو التهاب شديد غير نموذجي يصيب رئة الإنسان، ينتج عنه إصابة الجسم بفيروس جديد لم يسبق للعلماء التعرّف عليه من قبل، وينتمي إلى عائلة تُعرف بـ «الفيروسات التاجية» (لظهورها تحت المجهر في صورة التاج).
ينتقل هذا الفيروس من شخص مصاب إلى شخص سليم عن طريق ما يعرف بالقطيرات. فعندما يعطس المريض أو يكح، تنتشر آلاف القطيرات في الهواء المحيط به. ويعيش الفيروس في هذه القطيرات لمدة ست ساعات، ويبقى على قيد الحياة لثلاث ساعات أخرى بعد أن تجف القطيرة.
ومن طرق حدوث العدوى الملابس والمناشف الملوثة، كما أن سقوط القطيرات الملوثة على يد المريض قد ينقل الفيروس إلى شخص سليم من خلال المصافحة مثلاً. غير أن انتشار المرض عبر استنشاق القطيرات الحاملة للفيروس يبقى الأكثر حدوثاً.
لا تختلف عوارض مرض سارس كثيراً عن غيره من الأمراض الصدرية الحادة، إذ يصاب المريض بارتفاع في درجة الحرارة، وتحدث له نوبات ارتعاش وكحة، وصعوبة تنفس وألم في الصدر، إضافة إلى بعض الأعراض غير المألوفة في الأمراض الرئوية الأخرى مثل الصداع وألم العضلات والغثيان والإسهال وألم الحلق.. إلا أن التشخيص النهائي للمرض يعتمد على التعرف على الفيروس في إفرازات الجسم كاللعاب والمخاط.
أما علاج المرض فيقوم أولاً على عزل المريض ومن ثم تنفيذ خطة علاجية ذات شقّين: أولهما علاج الحالة العامة للمريض: راحة تامة، وتغذية جيدة لتقوية المناعة، وإعطائه الأدوية التي تعمل على خفض الحرارة، وتهدئة الكحة، وحماية المريض من أمراض أخرى قد تضعف مناعته. أما الشّق الثاني للعلاج فيتكون من المضادات الحيوية القاتلة للبكتيريا التي قد تصاحب الفيروس في هجومه على الجسم. وتتوافر أيضاً أدوية تعطّل نشاط الفيروس المسبب للمرض ومنها «ريبافيرين»، كما أن للمركبات الاستيرويدية (مثل الكورتيزون) دوراً في علاج مرض سارس، إلا أن ذلك لا يزال قيد الدراسة.
درهم وقاية.. غسل الأيدي
تشدد المختصة في علمي الجراثيم والأوبئة سمر خازندار على أهمية الوعي العام في الحرب على الأوبئة والأمراض الجرثومية، لما للوقاية من دور فاعل في القضاء على هذه الأمراض من خلال تقطيع سلسلة انتشارها ما بين الناس. وللدلالة على سهولة انتقال الجراثيم من شخص إلى آخر تضرب خازندار مثلاً بقولها: «إن الغطاء الجرثومي الموجود على جلد أي إنسان منّا، يتبدّل تماماً عندما يمضي هذا الإنسان يومين في المستشفى (الذي يعتقد أنه أكثر الأماكن أمناً على هذا الصعيد)، فيصبح غطاءه الجرثومي الجديد مؤلفاً من خليط من الجراثيم التي يحملها المرضى في المستشفى».
وتفاجئنا الباحثة خازندار في حجم الأهمية التي توليها لأبسط أشكال النظافة المعروفة ألا وهو غسل الأيدي بالماء والصابون كواحدة من أبرز وسائل وقف انتشار الأمراض الجرثومية. وتقول: «لو أن كل إنسان يغسل يديه بالماء والصابون كما يجب وفي كل مرة يكون فيها الأمر ضرورياً، لكان أطباء الأمراض الجرثومية عاطلين عن العمل..»
وحول نوعية الصابون وما إذا كان يجب أن يكون خاصاً ومطهراً، تقول «إن الصابون المطهر ضروري في حالة وجود مخاطر كبيرة ناجمة عن أنواع معينة من الجراثيم، ولكن حتى الاكتفاء بالصابون العادي يمكنه أن يكون كافياً في معظم الأحيان».
من الحيوان إلى الإنسان
من المعروف أن ثلاثاً من كل أربع حالات من الأمراض الجرثومية التي تصيب الإنسان، تتأصل أولاً في الحيوان. وبطريقة ما ينتقل المرض من كائن حيّ إلى آخر. فإضافة إلى الإيدز الذي انتقل إلى الإنسان من القردة، وجنون البقر، هناك البعوض الذي نقل فيروس غرب النيل إلى الإنسان. وفيروس «هانتا» المميت يأتي من الفئران.
وفي ماليزيا تعرّض الناس في سبتمبر 1998م إلى مرض غامض أدى إلى حمّى وألم في العضلات وإلى تورّم في الدماغ. بدأ المرض في الجزء الشمالي في الجزيرة وانتشر عبر البلاد خلال سبعة شهور وأدى إلى مقتل 105 أشخاص. وعندما تقفى المحققون أثر المرض وصلوا إلى مزرعة خنازير في مدينة إيبوه وهي مستوطنة عرفت بأنها مصدر للفيروس، ولم يتم تحديد كيفية انتقال المرض نحو الإنسان. إلا أن منظمة الصحة العالمية ترجح أن الفيروس بدأ في وطاويط الفاكهة والخنازير كانت وسيلة الإنتقال إلى الإنسان.
انتبهوا بريونات
منذ أن برز مرض جنون البقر الغريب بدأ يلوح في الأفق شبح أمراض جديدة يجهل العلماء كل شيء تقريباً عنها. والعامل المسبب لهذه الأمراض المعدية ليس ميكروباً ولا بكتيريا ولا طفيلية ولا فيروس. إنه البريون. كلمة لا تزال تدخل الرعب في قلوب العلماء. فالبريونات لا تدخل ضمن أية فئة معروفة من العوامل المُعدية. إنها على الحدود بين عالم الفيروسات وعالم المجهول، عالم الأحياء والجماد. ونظراً لخطورتها المفترضة وعدم وجود أي علاج لظواهرها؛ فقد اختارت السلطات الطبية والسياسية اعتماد مبدأ الوقاية المطلقة إزاءها. فعندما تكتشف حالة إصابة بجنون البقر، تعمد السلطات البيطرية إلى إبادة القطيع بكامله، ليس خوفاً على البقر، بل من إمكانية انتقال هذا البريون المسبب للمرض إلى البشر، خاصة وأن بعض الحالات البشرية قد سجلت هنا وهناك وقضى المصابون بها من دون استثناء.
باستثناء التأكيد على أن هذه البروتينات الغامضة هي وراء إصابة البقر بالجنون، والبشر بمرض كروزفيلد جاكوب (الشكل البشري لجنون البقر)، فالعلماء يجهلون كل شيء عن شكل هذه البروتينات وحجمها. كل ما يعرفونه عنها هو أنها تفتك بالخلايا والبروتينات السليمة بمجرد الاحتكاك بها. وهي لا تتأثر بالمضادات والمطهرات ولا بالحرارة، فتدمر خلايا الدماغ حتى يتحول شكل هذا الأخير كالإسفنجة.
——————
إقرأ للعلم
قاموس دار العلم
جاء في البيان الصحفي الصادر عن دار العلم للملايين أنها أصدرت أحدث وأكبر قاموس هندسي حديث إنجليزي – عربي». هذا القاموس الصادر في شهر مايو 2003م، يضم أكثر من 150000 مفردة فنية وعلمية وتقنية قديمة وحديثة».
وعلى الرغم من أن البيان الإعلاني ركّز على موضوع الهندسة أكثر من سواه ولأسباب ترويجية على الأرجح، فإن هذا القاموس يحتوي على كل ما يحتاجه المهندس من مصطلحات ويساعد المهندسين في التطوّر في مجالات أعمالهم..الخ، ويقع في 1400 صفحة ويشمل معظم العلوم المعروفة في حياتنا المعاصرة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: الطب، الطيران، الأعمال المصرفية والمالية، الكيمياء، التجارة، أنظمة الاتصالات وقواعد البيانات، الكومبيوتر، الهندسة بفروعها، المال وإدارة الأعمال، النفط والصناعة النفطية، الصيدلة، الرياضيات، البحرية التجارية، العسكرية، النقل البحري والبري والجوي، القانون، الدبلوماسية الدولية، رموز واختصارات أشباه المواصلات، البكتيريا، التأمين.. الخ.