حمل العدد السابق من القافلة مقالتين لا علاقة مباشرة بينهما، ظاهرياً على الأقل. الأولى كانت حول الموسيقى التي صارت تؤلَّف على الكومبيوتر الشخصي وفق برامج خاصة، والثانية كانت حول التصوير الرقمي.
انتهت المقالة الأولى التي كتبها المهندس جورج نحّاس إلى خلاصة مفادها أن الموسيقى المؤلفة وفق برامج الكومبيوتر، على الرغم من دقتها التقنية المدهشة، لا تزال فاشلة في إثارة الأحاسيس والمشاعر. أي أنها
لا تزال عاجزة عن الإرتقاء إلى مستوى الموسيقى المؤلفة بالطرق التقليدية وتعزف على آلات حقيقية. أما المقالة الثانية التي كتبها المصور المعروف جمال السعيدي فانتهت إلى نتيجة مشابهة في العمق لنتيجة المقالة الأولى، وتقول إن التصوير الرقمي لم يستطع حتى الآن على الأقل من الحلول بالكامل محل التصوير التقليدي. فالتصوير الفني والإعلاني لا يزال يعتمد على الآلات التقليدية التي تترك للمصور حرية أكبر كي يتدخل في أدائها ويحصل على الصورة التي يريدها وبمواصفات أفضل من مواصفات التصوير الرقمي الجديد.
إذن، في الفن لا تزال شريحة السيليكون الباردة عاجزة عن الحلول محل الفنان ومزاجه الذي لا يمكن ضبطه في أطر محددة. ولكن ألا يمكن لهذه الملاحظة التي يقر بصحتها الكثيرون من أن تكون منطلقاً للتفكير بشكل أسهل في علاقتنا بالآلة بشكل عام؟
في مجال التكنولوجيا الحديثة (وحتى التقليدية) ينقسم العالم إلى قسمين: عالم منتج وآخر مستهلك يشتري من الأول. الأول يفكر طويلاً قبل إنتاج السلعة التقنية الجديدة، يصنعها بحذر وبطء بالاعتماد على خبرات سابقة متراكمة، لتلبية حاجات مستجدة. فتشكل المسيرة الطويلة لظهورها مجالاً لدخولها في نسيجه الثقافي وتصبح بالتالي جزءاً طبيعياً منه. أما الثاني فيستيقظ بين ليلة وضحاها ليجد أمامه ابتكاراً تقنياً جديداً معروضاً عليه لامتلاكه واستعماله فوراً.. وهنا تبدأ المشكلة.. المشكلة عند المستهلك طبعاً.
يمكننا أن نقرأ ما يفضح أحد وجوه هذه المشكلة (من دون أن يحصرها) في الإعلانات الترويجية للآلات الحديثة، أي في الخطاب الذي يتوجه به العالم الأول المنتج والبائع إلى الطرف الثاني المشتري والمستهلك. فبشكل عام، نلحظ أن هذه الإعلانات صارت تقوم أكثر فأكثر -وربما لأن ذلك هو السبيل الأقصر إلى إقناعنا- على إظهار المبتكرات الجديدة وكأنها «دمى» ممتعة ومسلية. سواء أكان الموضوع كومبيوتر جديد، أو هاتف خلوي جديد، أو كماليات طراز جديد من السيارات. والأسوأ من ذلك كله هو تشكيل الانطباع عند المستهلك المفاجأ بابتكار لا يعرف عنه شيئاً، بأن هذه الدمية تتمتع بقدرات خارقة لا حدود لمجالات استعمالها.
لو أخذنا السيارة كمثل بسيط للغاية لقلنا أن فلسفتها تقوم أساساً على توفير وسيلة نقل تسمح للإنسان بالوصول إلى هدفه بسرعة مئة كيلومتر في الساعة بدلاً من عشرة أو عشرين على ظهر الحصان. ولكن محاولة تشغيل السيارة بسرعة مئتي كيلومتر في الساعة إما لأنها «دمية ممتعة»، وإما للاعتقاد الخاطئ بأن قدراتها غير محددة، لا بد وأن تُنهي الرحلة في مكانٍ ما قبل نقطة الوصول.. ومراجعة الأسباب المؤدية إلى حوادث السير تؤكد أن الكثير منها يعود في النهاية إلى هذا النوع من التعامل مع السيارة.
وبالغوص في ما هو أعمق من هذا المثل البسيط، يمكننا أن نتأكد من أن سوء استعمال الآلة في العالم الثالث عموماً يقف وراء الكثير من الهدر والخسائر في بعض المجالات، أو أنه لا يؤدي إلى النتيجة المرجوة من الآلة على صعيد الإنتاج في مجالات أخرى.
والحل؟
لا حل قبل أن يصبح المجتمع المستهلك لتكنولوجيا معينة هو نفسه منتجها. ولكن خلال هذا الوقت قد يكون من المفيد أن يبقى هذا المستهلك متنبهاً إلى حقيقتين: الأولى، وهي أن للآلة، أية آلة، حدود استعمال لا يمكن تجاوزها. والثانية، أن ما من اختراع في العالم يمكنه أن يحل محل عقل الإنسان، وإن استطاع في بعض الأماكن أن يحل محل جسده. ففلسفة الآلة هي أولاً وأخيراً تسهيل تنفيذ الأوامر الإنسانية وليس الحلول محلها.