يستكمل فريق تحرير القافلة طرح قضية التعليم الجامعي، فبعد أن تناولت الحلقة الأولى، في العدد السابق، مسيرة هذا التعليم ودوره في التنمية البشرية في المملكة، تتناول هذه الحلقة العلاقة الحيوية التي تربط التعليم الجامعي بسوق العمل، من خلال توصيف هذه العلاقة ودورها في التنمية الوطنية ضمن دائرة النقاش السائد في المنعطف الحالي..
على امتداد خمس وخمسين سنة تحمّل التعليم الجامعي، في المملكة، مسؤولياته إزاء المجتمع، ولبّى ضمن هذه المسؤولية متطلبات التنمية الشاملة التي تلاحقت خططها، في إطار بناء المجتمع السعودي الحديث وفق ثوابته المتعارف عليها.
وقد سعت مؤسسات التعليم العالي، في الجامعات والمعاهد والكليات، إلى أن تقدم المخرجات المتلاحقة، عبر مئات الآلاف من الخريجين والخريجات، وأن تؤسس أجيالاً من الكوادر البشرية.
ويرى الدكتور عبدالله نصيف، وهو مدير سابق لجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، أن التوزيع الجغرافي للجامعات السعودية كان له أثره في تنمية المناطق التي أُنشئت فيها هذه الجامعات. يُضاف إلى الأثر العلمي؛ حيث أصبحت الجامعات السعودية «متخصصة بطريق غير مباشر»، فـ «جامعة الملك فهد للبترول والمعادن متخصصة في العلوم التقنية كأساس والإدارة تخصصٌ ثانٍ فيها، وجامعة الملك عبدالعزيز متخصصة في العلوم التي لها علاقة بهذه المنطقة كعلوم البحار والأرصاد وعلوم الأرض والجيلوجيا، وجامعة الملك سعود تغلب عليها سمة الآداب إلى جانب الطب والهندسة، وهكذا بقية الجامعات السعودية التي تمثل -كلها مجتمعة- جامعة واحدة».
هذه الرؤية تشير إلى أن الجامعات السعودية كانت تضع عينها على احتياجات المجتمع؛ فتؤسس الكليات والأقسام والمعاهد وتقدم مخرجاتها السنوية من الكوادر البشرية؛ سعياً إلى تلبية هذه الاحتياجات. وهو ما انعكس واقعاً في مجالات العمل الرئيسة في القطاع العام على نحو واسع. فشُغلت الوظائف الحكومية، في تخصصات متعددة، بالخريجين والخريجات السعوديين، واقتربت بعض المرافق الحكومية من الاكتفاء الذاتي، كمؤسسات التعليم العام التي يشغل السعوديون والسعوديات منها نسبة عالية جداً، وكذلك قطاع البلديات الذي يشغّله المهندسون والفنيون السعوديون بالدرجة الأولى.
وعلى الرغم من هذه الحقائق، فإن الجامعات السعودية لا يزال مطلوباً منها الكثير في علاقتها بسوق العمل، إذ أن سوق العمل لا ينحصر في الوظائف الحكومية التي تشبّع أكثرها بالخريجين والخريجات، وإنما يشمل كافة مؤسسات العمل في البلاد، بما فيها القطاع الخاص الذي لا تزال تجربته في توطين الوظائف محدودة ودون مستوى الطموحات الوطنية.
قوة العمل المستقبلية
حسـب تقديرات خطـة التنمية السابعة 1420-1425هـ، فإن قوة العمل المدنية في المملكة اقتربت من 7.2 مليون عامل في عام 1420هـ، ويتوقع أن ترتفع لتصل إلى حوالي 7.5 مليون عامل بنهاية عام 1425هـ، حيث تتوقع هذه الخطة توفير حوالي 329 ألف فرصة عمل جديدة خلال مدة الخطة. وقد قُّدرت مشاركة السعوديين في قوة العمل المدنية بحوالي 40%.
ويقـدر عـدد العامـلين في القطـاع المدني العام بحوالي 668.5 ألف موظـف في عام 1419هـ، مقارنة بحوالـي 520 ألف موظف في عام 1410هـ حسب إحصاءات وزارة الخدمة المدنية. ويمثل السعوديون حوالي 85% من العاملين في هذا القطاع مقارنة بحوالي 68% فـي عـام 1410هـ. أما بالنسبة للقطاع الخاص فيقدر عدد العاملين المسجلين في سجلات التأمينات الاجتماعية بحوالي 1.5 مليون عامل في عام 1419هـ مقارنة بحوالي 1.12 مليون في عام 1415هـ. ويبلـغ عدد المسجلين ضمن هذه الأعداد من السعوديين 137 ألف عاملٍ في عام 1415هـ وقد ارتفع هذا العدد ليصل إلى 209 آلاف في عام 1419هـ أي بزيادة قدرها 53%، وإلى 249 ألفاً عام 1423هـ.
أما الـوافدون فقد بلغ عدد المسـجلين حوالي 984 ألف عـامـل في عام 1415هـ وارتفع هذا العدد ليصل إلى حوالي 1.3 مليون عامل في عام 1419هـ، أي بزيادة قدرها 32%. ويقدر عدد العاملين غير المسجلين في مؤسسة التأمينات الاجتماعية بحوالي 5 ملايين عامل. ويعمل معظم هؤلاء فـي مؤسسات صغيرة أو مهن حرة.
وتشير الدراسات التي أعدتها وزارة التخطيط إلى أن القوى العاملة السعودية ستزداد من 3.2 مليون عامل في عام 1420هـ إلى حوالي 4 ملايين عامل في عام 1425هـ، بمعدل نمو سنوي مقداره 4.69% في المتوسط، وإلى 8.3 مليون عامل في عام 1440هـ، وباستخدام هذا المعدل من النمو فإن القوى العاملة السعودية سوف يبلغ عددها في عام 1430هـ حوالي 5 ملايين عامل، وفي عام 1450هـ حوالي 12.5 مليون عامل.
وفي ظل تطورات هذه الأرقام من المهم الالتفات إلى علاقة سوق العمل في المملكة بمخرجات التعليم الجامعي على وجه التحديد، خاصة مع تجدد احتياجات السوق المتنوعة التي تفرزها الظروف الاقتصادية والاجتماعية وهذه بدورها تصنع احتياجات أكثر إلحاحاً من الاحتياجات الحالية؛ الأمر الذي سيضاعف الضغوط على الاقتصاد الوطني في حالة عدم قدرة سوق العمل على استيعابهم، خاصة في ظل تزايد حدة المنافسة مع العاملين غير السعوديين نتيجة لانفتاح السوق المحلي على العالم الخارجي والاستثمارات الأجنبية، والدخول المتزايد للمملكة في أنشطة إنتاجية وخدمية ذات تقنية متقدمة تتطلب مهارات فنية وتقنية عالية ومتخصصة.
وقد قطع التعليم الجامعي في المملكة شوطاً زمنياً طويلاً، وتكرست لديه العديد من الخبرات العلمية والعملية، وباتت قضية توطين الوظائف واحدة من قضاياه المؤرقة، وهذا ما حدا بالجهات المسؤولة في البلاد إلى ربط احتياجات سوق العمل ببرامج القبول في الجامعات، وهو ما يعني -بالضرورة- بناء العمل الجامعي على أساس احتياجات المجتمع على نحو أكثر دقة وشمولية ووعياً لمتطلبات التنمية.
تخصصات نظرية
وتمثل «التخصصات النظرية» المتكاثرة في الجامعات السعودية واحدة من أهمّ الإشكاليات التي تعانيها العلاقة بين الجامعات وسوق العمل. وعلى سبيل المثال وصل عدد خريجي الجامعات في العام الدراسي 1421/1422هـ إلى 64519 خريجاً وخريجة، وبلغت نسبة خريجي المجالات النظرية من هذا العدد إلى 86.82%، في حين لم تتجاوز نسبة خريجي المجالات العلمية 10.67%، وانخفضت النسبة في خريجي التخصصات الطبية إلى 2.5% فقط.
وتؤكد إحصائيات وزارة التعليم العالي أن توزيع التخصصات المختلفة يسير باتجاه معاكس للتوقعات، إذ أن النمو في تخصص العلوم الاجتماعية والإنسانية يتسارع بنسبة أكبر من باقي التخصصات، في الوقت الذي تزداد فيه أهمية العلوم والتكنولوجيا، حيث ازدادت نسبة الطلاب في الدراسات الإنسانية والاجتماعية من 59.2% في عام 1405هـ إلى 77.3% في عام 1416هـ، وانخفضت نسبة الطلاب في العلوم الهندسية من 11.8% إلى 4.6%، ونسبة الطلاب في العلوم الطبية من 9.4% إلى 2.7%، وكذلك انخفضت نسبة الطلاب في العلوم الطبيعية من 8.2% إلى 6.5%، وفي العلوم الزراعية من 3% إلى 1.4%.
وحسب دراسة أعدها الأستاذ الدكتور محمد عبدالله المنيع «أدت الضغوط الكبيرة على مؤسسات التعليم العالي إلى قبول أعداد كبيرة في التخصصات النظرية التي لا تحتاج إلى تجهيزات كثيرة، مما أدى إلى اختلال التوازن بين التخصصات النظرية والعلمية، مما نتج عنه زيادة في أعداد الخريجين من هذه الكليات بدرجة تفوق حاجة سوق العمل».
ويشير المنيع، في دراسته، إلى أن هذه الضغوط أنتجت أيضاً انخفاضاً في الكفاءة الداخلية والخارجية، ويتمثل ذلك في زيادة عدد السنوات التي يقضيها الطالب في الجامعة قبل أن يتخرج، وانتهى الأمر أخيراً إلى «عدم الانسجام بين مؤهلات الخريجين والخريجات في بعض التخصصات وتلك التي يحتاج إليها سوق العمل».
ضآلة التخصصات الطبية
ويُعتبر القطاع الطبي واحداً من أكثر قطاعات سوق العمل احتياجاً إلى الخريجين السعوديين، لكن دور الجامعات لا يزال محدوداً في مقابلة هذا الاحتياج. وتوضح الأرقام أن نسبة المقيدين في التخصصات الطبية لم تتجاوز 2.74% من بين مجموع الطلاب والطالبات المقيدين في الجامعات السعودية عام 1421/1422هـ حسب إحصائيات وزارة التعليم العالي. ويقابل ذلك شحٌ واضح في الوظائف الطبية السعودية في المؤسسات الصحية الحكومية والخاصة. إذ لا تمثل نسبة الأطباء السعوديين فيها أهمية تُذكر قياساً بغير السعوديين، وهو ما يعني أن البلاد ستكون في حاجة -وعلى نطاق واسع- إلى الكوادر الطبية الوافدة إلى مدى غير منظور.
وفي العام الدراسي 1417/1418 وصل عدد خريجي التخصصات الطبية إلى 1041 خريجاً وخريجة. وكان المتوقع أن يرتفع هذا العدد في العام الذي تلاه، لكن ما حدث هو العكس إذ انخفض عدد الخريجي إلى 864 خريجاً وخريجة، ثم انخفض في العام 1419/1420هـ إلى 819.
التخصصات العلمية
وفي الوقت الذي تفرض فيه متطلبات التنمية المستقبلية احتياجات أكثر للتخصصات العلمية والتقنية؛ فإن واقع مخرجات التعليم الجامعي يسير بخطى أبطأ بكثير من الواقع المتسارع في التطور العلمي والتقني على المستوى العالمي والإقليمي.
وللأستاذ الدكتور عبدالله ابن أحمد الرشيد، نائب رئيس مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية لدعم البحث العلمي، رأي في هذا الموضوع. فقد أفرد بحثاً مطولاً حول (كفاءة أداء التعليم العالي) ووضع عدداً من المحاور لربط كفاءة التعليم العالي باحتياجات البلاد وسوق العمل. وفي هذا البحث يؤكد الدكتور الرشيد أن «توطين التقنيات الاستراتيجية ذات العلاقة بالأمن الوطني الشامل أحد أهم التحديات الكبرى لمستقبل الاقتصاد السعودي.. فهناك تقنيات استراتيجية مهمة لا بد أن تكون لها الأهمية البالغة التي تكفل السيطرة عليها وطنيـاً، مثل تقنية تحلية المياه، وبعض التقنيات المتعلقة بالدفاع، وتأمين استمرارية عجلة الصناعات الأساس كالبتروكيميائيات.. كما أن هناك تقنيات جديدة تكمن فيها فرص واعدة وحيوية، يمكن للمملكة اعتماد بعضها ضمن محاور نشاطاتها الإنتاجية والخدمية المستقبلية، كالإلكترونيات والاتصالات والمعلومات، والمواد الجديدة، والتقنيات الحيوية، خاصة ما يتناسب منها مع ميزات المملكة، ويحقق طموحاتها المستقبلية».
وهذا الرأي يعني -بصورة أو بأخرى- أن نسبة 10.67% من خريجي الجامعات لا تكفي لتلبية احتياجات التنمية في المرافق العلمية والتقنية، فهي نسبة ضئيلة قياساً بالتوسع السريع الذي يشهده الاقتصاد السعودي في قطاعيه الخاص والعام، وقياساً بالتسارع الهائل لحركة الاقتصاد على المستوى العالمي.
ويؤكد الدكتور الرشيد على أهمية الوعي بالتحديات التي تنطوي عليها هذه التحولات والمتغيرات العالمية المعاصرة، وضرورة استنفار الإمكانات والقدرات الوطنيـة لمواجـهتهـا وإدراك الفرص التي تتيحها واستيعابها واستغلالها بالسرعة المطلوبة.. مركزة في هذا الاتجاه على الدور المتعاظم للعلـوم والتقنيـة عامة، والمعرفة على وجه التحديد فـي النمو الاقتصادي والتنميـة المستدامة للمملكة.. الأمر الذي يتطلب أن تبنى الرؤية المستقبلية للاقتصاد السعودي على قاعدة راسخة من العلم والتقنية والابتكار حتى يمكن للمملكة الاستفادة من الفرص التي تتيحها تلك التحولات ومواجهة تحدياتها.
سوق العمل والمرأة
وتشكل مخرجات التعليم من الكوادر النسائية مشكلة مضاعفة في سوق العمل. وتأتي أهمية الصناعات المعرفية والمعلوماتية -سواء الإنتاجية منها أم الخدمية- باعتبارها مصدراً جديداً ومهماً لتوليد فرص العمل الملائمة وزيادة دخل العاملين، إضافة إلى أنها تمنح المرأة السعودية فرصاً أوسع للإسهام في سوق العمل بما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، خاصة وأن مساهمتها الراهنة في سوق العمل لا تتجاوز 6%.
ومن بين السكان السعوديين الواقعين ضمن شريحة العاملين؛ فإن نسبة النساء السعوديات العاملات لا تصل إلى 3% من مجموع السكان. وإذا استبعدنا قطاعي التعليم والتمريض، وهما الأكثر استيعاباً للكوادر النسائية السعودية، فإن بقية الوظائف لا تضع هامشاً معقولاً للمرأة السعودية، على الرغم من أن نسبة كبيرة من المتقدمات من النساء لسوق العمل يحملن مؤهلات جامعية. وحسب دراسة أعدها مجلس الغرف التجارية الصناعية في المملكة فإن نسبة البطالة لدى السعوديات قد وصلت إلى 13.2%. هذا على الرغم من أن نسبة العاملات غير السعوديات في القطاع الخاص وصلت إلى 69%.
وحسب معلومات وزارة التخطيط فإن الإحصاءات والأعداد المستهدفة في خطة التنمية السابعة تلمّح إلى أن المجتمع سوف يواجه أزمة في بطالة الخريجين والخريجات، ولكن بطالة الخريجات سوف تكون أبرز المشكلات التي سوف تواجه مخرجات التعليم العالي خلال خطة التنمية السابعة، خصوصاً وأن الفرص الوظيفية خارج نطاق التعليم محدودة، وهو ما يستدعي وضع الخطط والبرامج التي تساعد على إيجاد فرص وظيفية لهن ضمن التعاليم الإسلامية وعادات وتقاليد المجتمع السعودي. ويضع الأستاذ الدكتور محمد عبد الله المنيع عدداً من المقترحات من بينها: «تطوير الدراسات العليا في كليات البنات بما يتلاءم واحتياجات تعليم البنات من ناحية وما يحتاجه المجتمع في بعض الوظائف الخاصة بالمرأة، والعمل على سد العجز في المؤهلات من أعضاء هيئة التدريس بدلا من التوسع في الدوائر التلفزيونية المغلقة والتعاقد للتدريس في كليات البنات».
ويضيف الدكتور المنيع مقترحات أخرى نوجزها في: «افتتاح مصانع خاصة بالسيدات يتناسب العمل فيها مع طبيعة المرأة وقدرتها ومؤهلاتها العلمية والتدريبية، والتوسع في فتح أقسام نسائية منفصلة في بعض الدوائر الحكومية للقيام بأعمال السكرتارية وحفظ الملفات، وتشجيع العمل الحر للسيدات المتوافق مع طبيعة المرأة، وإعادة تأهيل وتدريب خريجات الكليات والجامعات للقيام بأعمال تتطلب مهارات غير متوافرة في خريجات التعليم العالي».
إن قضية علاقة التعليم الجامعي في المملكة بسوق العمل ذات أبعاد متعددة ومتشعبة، ولذا فهي قضية مركبة، وهي إحدى الإشكاليات التي تعانيها الكثير من الدول، وبالذات الدول العربية. ومهما كثر الجدل فيها أو قلّ؛ فإن ضرورات التنمية تلحّ على القائمين على التعليم العالي بأن يضعوا أيديهم بأيدي مؤسسات الإنتاج في وضع الخطط الأكاديمية للجامعات، ورسم استراتيجياتها المستقبلية. فمن بين أهم الأسباب الرئيسة في وجود الفجوة بين مخرجات التعليم العالي وسوق العمل؛ عدم وجود التواصل الطبيعي بين الجامعات ومؤسسات الإنتاج، الأمر الذي يفرز مجموعة من المشاكل؛ ربما من أهمها شغل كثير من الخريجين لوظائف لا تمتّ لتخصصاتهم بصلة وبالتالي ظهور البطالة المقنعة، وهذا ما يحدث، حالياً، في المجتمعات العربية بشكل عام.
والأسوأ من ذلك انتشار البطالة بين خريجي وخريجات الجامعات. وهذه البطالة التي بدأت تدق ناقوس الخطر بشكل جدي، وتحذر من عواقب المستقبل التي لا يمكن السيطرة عليها ما لم يتنبه المسئولون إلى ما يدور في العالم، وما تحتاجه المجتمعات من منجزات ، ليس على مستوى الاستهلاك فحسب، وإنما على مستوى الإنتاج أيضاً.
———
تحديات راهنة..
في مواجهة التعليم الجامعي
يرى الدكتور عبدالواحد الحميّد، أمين عام مجلس القوى العاملة، أن ثمة جدلاً فلسفياً يتركز حول علاقة التعليم الجامعي بسوق العمل، وما إذا كان التعليم الجامعي هو «قيمة» بحد ذاته بغض النظر عن مدى ملاءمة خريجي المؤسسات التعليمية الجامعية لمتطلبات سوق العمل، أم أن هذه المتطلبات هي التي ينبغي أن توجه مسارات التعليم الجامعي باعتبار أن المجتمع يتكبد تكاليف باهظة من أجل توفير التعليم.
كان التعليم الجامعي في المملكة العربية السعودية، في البداية، هو الطريق إلى التوظيف في القطاع الحكومي حيث أن الجهاز الحكومي في فترة بنائه كان يحتاج إلى عدد كبير من خريجي التعليم الجامعي بغض النظر عن نوعية التخصص. ففي ذلك الوقت لم تكن مسألة ملاءمة مخرجات المؤسسات التعليمية الجامعية لسوق العمل مطروحة، وكانت رغبات وميول واتجاهات الطلاب هي التي تحدد التخصصات التي يختارونها. إلا أن المتغيرات الاقتصادية المحلية والدولية وتوسع دور القطاع الخاص في البلاد، وشحّ الوظائف في القطاع الحكومي فرض مسألة ملاءمة التعليم الجامعي لسوق العمل، ومن ثم إعادة النظر في مفهوم التعليم الجامعي وأهدافه، وضرورة تطوير منظومة التعليم الجامعي في المملكة سعياً لتعزيز مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الآنية والمستقبلية.. وهذا يدعونا إلى إعادة بناء التعليم الجامعي في تصوراته وهياكله البنائية بعيداً عما يسمى بتعليم «النخب» الذي يهدف إلى العلم من أجل العلم فقط أو الوجاهة الاجتماعية.
بين الكم والكيف
تزايد الإقبال على التعليم الجامعي بوتائر عالية حيث استجاب التعليم الجامعي لرغبات معظم المتقدمين إليه من منطلق الأولوية للكم، إلا أن هذا التوجه كان على حساب نوعية محتوى التعليم وجودته وانخفاض كفاءته الداخلية التي أثّرت بالتالي على كفاءته الخارجية فأدى ذلك إلى ضعف الارتباط بين التعليم الجامعي ومؤسسات المجتمع من جهة، وسوق العمل من جهة أخرى، كما أن هذا التوسع أدى إلى تدفقات خريجي التخصصات النظرية التي وصلت إلى حوالي 80% على حساب التخصصات العلمية والتطبيقية رغم تشبع سوق العمل من هذه التخصصات النظرية ووجود فائض كبير منها في سوق العمل.
التركيز في المدن الكبرى
إن التوازن الجغرافي في توزيع مؤسسات التعليم الجامعي أمر له أهميته في سد احتياجات المجتمع المحلي من التعليم الجامعي في كل منطقة من مناطق البلاد، إلا أنه من الملاحظ تركز هذا التعليم في بعض المدن الكبرى دون غيرها بالإضافة إلى غيابه في كثير من المدن المتوسطة والصغيرة، ولا شك أن توفير التعليم الجامعي في ظل توازن إقليمي على مستوى المملكة يحقق المزيد من تلبية احتياجات أسواق العمل المحلية من مخرجات هذا النوع من التعليم بالإضافة إلى أن التعليم الجامعي هو مركز إشعاع في مجال تنمية وخدمة المجتمع بما يوفره من برامج هادفة. وانطلاقاً من ذلك صدرت في عام 1422هـ الموافقة على قرار المجلس الاقتصادي الأعلى المتعلق ببرنامج زيادة القبول في مؤسسات التعليم العالي، وإنشاء جامعات جديدة بمناطق المملكة المختلفة، وإنشاء ثلاث عشرة كلية مجتمع جديدة للبنين وخمس عشرة كلية مجتمع للبنات، وسبع كليات تقنية جديدة، وتحويل الكليات المتوسطة إلى كليات جامعية، وتشجيع القطاع الخاص على إنشاء جامعات أهلية. وإذا ما قدر لهذا التوجه أن يتواصل فسوف يحقق نقلة جوهرية في مسار التنمية المحلية على مستوى المناطق، ويسهم في إيجاد تنمية متوازنة تحد من الهجرة من الأرياف إلى المدن الكبيرة.
المناهج والتطوير
أصبح التوجه العام هو ضرورة البعد عن أسلوب التلقين واستبداله بالأساليب الحديثة التي تشحذ الفكر وتنمي روح المبادرة والاستنتاج والتفكير الخلاق. ولا شك أن متطلبات سوق العمل لا تقتصر على مجرد إتقان حرفة أو مهنة وإنما تتجاوزها إلى اكتساب القدرات والمهارات العقلية والاجتماعية التي تؤهل الفرد لمواجهة جميع المتغيرات التي تحدث في سوق العمل، مع ضرورة التركيز على إيجاد جسور تعاون بين التعليم الجامعي والمؤسسات المختلفة في سوق العمل وفي مقدمتها القطاع الخاص الموظِّف الرئيسي للقوى العاملة الوطنية.
تحديات الثورة المعرفية والتقنية
يواجه التعليم العالي تحديات كثيرة داخلية وإقليمية ودولية هي بمثابة انعكاس للتحديات التي تواجه المجتمع نفسه. من هذه التحديات، على سبيل المثال، تحدي التنمية والعلاقة التفاعلية والتبادلية بين التعليم والتنمية، والتحديات المتمثلة في العولمة، والتجمعات الاقتصادية العملاقة والشركات الاستثمارية الضخمة التي تنتقل بأعمالها حيثما تجد الظروف الملائمة للنمو والربحية، وظهور قوى اقتصادية كبرى خارج نطاق الدول الرأسمالية التقليدية، يواكب ذلك كله تقدم علمي وتقني يتمثل في ثورة المعلومات والاتصال والتكنولوجيا الحيوية وغير ذلك من تكنولوجيات أخرى جديدة.
وكما أشارت خطة التنمية السابعة فإن مواجهة هذه الإشكاليات والتحديات يتطلب تطوير الأداء في التعليم الجامعي، والارتقاء بمؤسساته من خلال متطلبات تهدف إلى جودة التعليم الجامعي وربطه باحتياجات المجتمع في ضوء الأسس الاستراتيجية لخطة التنمية السابعة نخص منها ما اشتمل عليه الأساس الاستراتيجي الثامن من حيث توسيع قاعدة التعليم العالي، ودراسة إمكانيات الاستفادة من الأنماط الجديدة مثل الجامعة المفتوحة والتعليم عن بعد، وتشجيع القطاع الخاص على المساهمة في توسيع قاعدة التعليم العالي، وزيادة الاهتمام بالبحث العلمي التطبيقي في الجامعات، وتوجيه سياسة القبول في مؤسسات التعليم العالي بما يتفق ومتطلبات سوق العمل المتغيرة، وتحديث وتطوير المناهج الدراسية، والتأكيد على تكامل ومرونة قنوات ورافد التعليم.
ولتحقيق هذه التوجهات الاستراتيجية فإن عناصر الارتقاء بالتعليم الجامعي وجودته تتطلب سياسات ومحددات من أهما:
رفع الكفاءة الداخلية للتعليم الجامعي
تشمل منظومة الكفاءة الداخلية للتعليم الجامعي المدخلات البشرية المتمثلة في الطلبة وأعضاء هيئة التدريس، والمناهج، وكذلك المدخلات الإدارية والتنظيمية والمالية. ولرفع مستوى هذه الكفاءة فمن المهم معالجة عدد من القضايا كالخلل في توزيع الطلبة على التخصصات، ورفع كفاءة أعضاء هيئة التدريس ومعالجة الهدر في العملية التعليمية لا سيما الرسوب والتسرب وتوازن الطاقة الاستيعابية.
رفع الكفاءة الخارجية للتعليم الجامعي
وذلك من خلال توافق مخرجات التعليم الجامعي مع سوق العمل، وأن تكون التخصصات الجامعية ملبية لاحتياجات المجتمع بشكل عام والقطاع الأهلي بشكل خاص بما يسهم بالتالي في معالجة مشكلة بطالة الخريجين.
التوازن النوعي والجغرافي
يتركز التعليم الجامعي، كما أشرنا، في المدن الكبيرة كما أن هناك بعض الازدواجية في التخصصات التي تقدمها الجامعات في نفس المدينة أو المكان. ولمعالجة ذلك فإن من المهم تحديد مواقع وتخصصات المؤسسات الجامعية دون ازدواجية، ووضع وتحديد شخصية متفردة ومميزة لكل مؤسسة جامعية بحيث تتكامل تلك الجهود ولا تتعارض. لذا فإن التخطيط لإنشاء مؤسسات جديدة ينبغي أن يدرس بعناية في ضوء المؤسسات المتشابهة مع مراعاة التوزيع الجغرافي لهذه المؤسسات وعدم قصرها على المدن الكبيرة فقط. وتدل بعض القرارات الرسمية التي صدرت في الآونة الأخيرة على توجه الحكومة نحو إيجاد هذا التوازن النوعي والجغرافي.
التوسع في برامج ما فوق الجامعي
ثمة حاجة واضحة إلى التوسع في تقديم برامج تعليمية لما بعد المرحلة الجامعية في درجة الماجستير والدكتوراة بالجامعات السعودية في التخصصات المطلوبة وإتاحتها للموظفين الذين لا تمكنهم ظروفهم من التفرغ الكامل للدراسة. وينبغي أن تكون هذه البرامج على فترتين صباحية للمتفرغين ومسائية للموظفين، وأن تكون في التخصصات التي يتطلبها سوق العمل.
القطاع الخاص والتدريب
توجد فجوة تفصل بين ما يدرسه الطالب على مقاعد الجامعة وما هو موجود على أرض الواقع في سوق العمل. ومن أجل تجسير هذه الفجوة يتعين تفعيل دور القطاع الخاص نحو المشاركة في تدريب الطلاب في مؤسساته، واحتساب مدة التدريب كأحد متطلبات التخرج.
الاستفادة من الاتجاهات الحديثة في الإدارة
تزخر نظريات الإدارة الحديثة بالاتجاهات التطويرية التي يمكن تطبيقها في مجال التعليم العالي وذلك لإحداث نقلة نوعية في العملية التعليمية بالجامعات وتقنياتها، ومنها منهج الجودة الشاملة والإدارة بالأهداف والنتائج، والهندرة في مجال الإدارة لرفع الكفاءة الداخلية والخارجية للتعليم الجامعي وتطويره.
تلك هي أهم الإشكاليات والتحديات الراهنة التي يواجهها التعليم الجامعي في المملكة العربية السعودية في إطار علاقته بسوق العمل، وما يمكن أن يوجد لها من حلول. غير أن من المهم التأكيد على أن سوق العمل يتسم بالديناميكية والتغير مما يعني أن الإشكاليات والتحديات هي أيضاً متغيرة، الأمر الذي يتطلب من مؤسسات التعليم الجامعي مواكبة هذه التغيرات بشكل مستمر والتفاعل معها بإيجابية وعدم التقوقع والجمود. ويمكن أن تكون المملكة العربية السعودية مثالاً للعديد من الدول النامية وخصوصاً في منطقة الخليج العربية.
————
ماذا يحدث في المدرسة العربية؟!
لماذا ينجح التعليم في تحسين الموارد في بعض الدول حتى أصبح مرادفاً لثروتها الاقتصادية، ولا يصل إلى مثل هذه النتيجة في دول أخرى؟
الدكتور منير بشّور*، يرى في واقع التعليم في البلاد العربية مشكلة تعيق تقدمه وجدواه في ما هو متوقع منه على صعيد تنمية الموارد البشرية.
ثروة الأمم كثروة الأفراد، تتعدى ما تملكه من موارد إلى ما تفعله بهذه الموارد. والتعليم هو في الأساس عملية تحسين لهذه الموارد وتفعيلها.
إن الموارد التي تهتم عملية التعليم بتحسينها وتفعيلها هي الموارد البشرية. ولا يعني ذلك أن كل تعليم وأي تعليم يؤدي إلى تحسين الموارد، تماماً كما أن حاجة الجسم للطعام لا تعني أن كل أنواع الطعام مفيدة للجسم. وهذا ما يدفعنا مباشرة إلى التمييز بين أنواع التعليم، والظروف المحيطة به والتي تؤثر فيه سلباً أم إيجاباً على صعيد دوره كعامل محسن لنوعية المواد البشرية.
إن التعليم في البلاد العربية خاضع لمنحى عمودي. تسود التراتبية في بنيته، فتسيطر المراتب الأعلى على الأدنى، وعملياته محكومة بعلاقات السلطة والتسلط بين آمر ومطيع، سائل ومجيب، آخذ ومعطٍ. وفي المقابل هناك المنحى الأفقي الذي يعني المساواة والتبادل والمشاركة بين المواقع وفي العلاقات، الأمر الذي يبدو غائباً بشكل عام عن واقع التعليم في البلاد العربية. ونشير هنا إلى أن موضوعنا هو التعليم وليس التربية.
بالطبع، ليس هناك مكان في العالم حيث ينحني الخط البياني باتجاه عمودي بالكامل، أو أفقي بالكامل. الاختلاف بين مكان وآخر يتمثّل في درجة الانحناء: هل هي أقرب إلى المنحى العمودي، أم إلى المنحى الأفقي؟ إننا ندّعي هنا أن هذا المنحى يميل كثيراً بالاتجاه العمودي في نظم التعليم العربية، مبتعداً كثيراً عن الاتجاه الأفقي. بإمكاننا أن نأخذ هذا الإدّعاء كما لو أنه فرضية بحاجة إلى إثبات، فننتقل من هذا البلد العربي إلى ذاك، أو من موقع إلى آخر داخل البلد العربي الواحد، لنجمع الأدلّة وننظر في صحة هذه الفرضية في ضوء الواقع وعلى أساس الدراسات الميدانية، فنقرّر صحتها، ونحكم على درجة انحناء المحور في هذا الاتجاه أوذاك.
ولتسهيل المتابعة، يمكننا النظر في هذه الفرضية من خلال ثلاث زوايا أو أضلاع تتفرع عنها.
أولاً: في مجال البنية والإدارة
إن البنى الإدارية التي تسيطر في المنظومة التعليمية في البلاد العربية بدءاً بمستوى الدولة وانتهاء بمستوى المدرسة تتميز بمنحى عمودي شديد الوضوح. فكل مسؤول يتصرف مع من أو ما هو دونه تراتبية وكأنه خاضع برمته لمشيئته. ونادراً ما تقف القوانين والأنظمة حائلاً بين رغبات المسؤول الحكومي أو مدير المدرسة وبين تنفيذ ما يرميان إليه.
من جهة أخرى، يعرف الجميع الإنجازات الهائلة التي بلغتها البلدان المتقدمة، فهي بادية للعيان. ولكن ما هو ليس بادٍ، ويقع في صلب هذه الإنجازات ولعله سببها، هو اللجنة أو عمل الفريق. هذا اختراع كبير: عمل اللجنة أو الفريق، الأخذ والعطاء، التبادل، المشاركة، تقديم الرأي ونقيضه، المناقشة… فكل من خَبِرَ العمل في هذه البلدان ولو لوقت قصير، وشارك في أعمال لجانها، لا بد من أن يصاب بالدهشة، كأنما المسيرة (مسيرة الاجتماع والمناقشة والعمل معاً) هي بحق أهم من الوصول إلى الهدف، كأنما هي الهدف.
ثانياً: في مجال الفعل – التعليم والتعلّم
غرفة الصف هي بؤرة النظام التعليمي بكامله. هنا يلتقي المعلّم مع تلاميذه، كما يلتقي التلاميذ بعضهم مع بعض. ما الذي يحدث في غرفة الصف؟
أشياء كثيرة تحدث، نصفها تلخيصاً بأنها تعليم وتعلّم. المعلم يعلّم والتلميذ يتعلّم. أحد الباحثين يلقي الضوء على ما يحدث في غرفة الصف في البلاد العربية، فيقول إنها تقوم على التلقين، وفرض النصّ من اتجاه واحد، من معلّم لا يقبل النقاش، مع طفل (تلميذ) لا حول له ولا قوة. وكتاب يحتوي نصوصاً غير قابلة للنقاش، تشيأت فيه المعرفة، وبدت حقائق مطلقة. امتحانات تغرس الخوف والرهبة وتضبط الخارجين على النصّ، ولا تقيس إلا الحفظ والتذكر. معرفة فرّغت من محتواها، من حيث هي في الأصل عملية بحث وكشف عن قوانين الحياة والوجود، ولكنها اختزلت إلى مجرد أشكال معبأة في كتب، تُنقل إلى التلاميذ نقلاً في نصوص جامدة تنقش في ذاكرتهم.
هذا يعني ببساطة سيطرة العلاقات العمودية بين المعلّم والتلميذ.
ما قلناه عن اختراع «اللجنة» وطريقة عملها في البلدان المتقدمة ينطبق هنا على ما يجري في غرفة الصف، وباستنتاجات لعلّها أخطر. نقول هذا لكثرة ما يقال عن دخولنا، منذ سنوات قليلة، ما يعرف بمجتمع المعرفة: المجتمع ما بعد الصناعي، ما بعد التكنولوجي، حيث «المعرفة» هي المادة الخام، أو «البضاعة» المنتجة والتي يتم تداولها. بيتر دروكر Peter Drucker الذي يُعزى إليه ابتكار هذا التعبير، يشرح هذا بقوله إن الجديد في هذا المجتمع أن المعرفة تستثمر في المعرفة بينما كانت من قبل تستثمر في المادة أو في رأس المال. كان الحرفي يستثمر معرفته في الفضة، فيحوّل القطعة منها إلى حلية للزينة تحظى بقيمة إضافية في السوق، ولكنها لا تخرج في طبيعتها عن الفضة. في مجتمع المعرفة ما يستثمر هو معرفة ما يدخل في تركيب الفضة واستخدام هذه المعرفة، لا الفضّة، للوصول إلى شيء جديد قد لا يكون له علاقة بالفضّة.
مجتمع المعرفة هو بطبيعته مجتمع الحركة الأفقية، الذي يفترض تواصلاً أفقياً في غرفة الصف بين المعلم والتلاميذ كما بين التلاميذ بعضهم مع بعض. والتعليم والتعلّم يحدثان بالتعاون والاشتراك، والمشاركة.
ثالثاً: في مجال الثقافة – التاريخ والجغرافيا
هناك نزوع في أوساط الثقافة العربية إلى التفكير بالماضي والعودة إليه. وليس ذلك بالأمر المستغرب تماماً، ذلك أن مثل هذا النزوع معروف في جميع الحضارات ذات التراث القديم، إذ يلجأ أبناؤها إلى الماضي للراحة، والشعور بالافتخار.
مثل هذه العودة من الحاضر إلى الماضي نوع من الحركة العمودية في نطاق الزمان: نقابل ما نحن عليه الآن بما كنا عليه من قبل. إنها حركة ضرورية ومحمودة لاكتشاف الأصول، وتوضيح الهوية، وتعميق الانتماء، ذلك إن بقيت ضمن حدود معقولة.
الحركة الأفقية تستدعي مقابلة ما نحن عليه الآن مع حال الآخرين في نطاق المكان. والمقابلة هنا بغرض تحديد الموقع بالنسبة للآخرين، في سبيل تحديد وجهة السير أو ما هو مطلوب للمستقبل.
والانشغال بالماضي في مناهج التعليم العربية، لا ينحصر في مواد التاريخ وكتبه، إنما هو منحى ذهني ينسحب على مواد أخرى كثيرة منها القراءة والآداب والعلوم الإنسانية بمجملها، ويصل إلى العلوم الاجتماعية وأحياناً إلى مداخل الرياضيات والعلوم الطبيعية. ولهذا تسيطر في أذهان الطلاب مهارة السرد والعودة إلى الجذور كمنهج في التحليل، بدل النظر في الظواهر والفوارق والنتائج والربط بين هذه وأسبابها.
كلمة اختتام
إن الأفكار التي قدمناها في هذه العجالة تُظهر الثقة الكبيرة بقدرة التعليم على تحسين الموارد البشرية وتفعيلها، وبالتالي المساهمة في تعظيم ثروة الشعوب والأمم. لكننا ربطنا هذه القدرة بأن يكون التعليم من النوع الملائم لمواجهة المصاعب والتحديات. ونعتبر أن النوع الملائم من التعليم هو الذي يسعى لتغيير المنحى العمودي في بنيته وفي علاقاته، أي منحى السيطرة والخضوع باتجاه المنحى الأفقي.
إن تحميلنا هذه المهمة للتعليم لم تأت اعتباطاً وإنما لاعتقادنا أن المنحى العمودي يسيطر أيضاً في بنية المجتمعات وفي الثقافة العربية بمجملها، وليس فقط في نظمها التعليمية – واخترنا أن يكون التغيير في التعليم رأس الجسر الذي يعبر بنا إلى المنحى الأكثر تقدماً ورفاهاً.