يصنف الكثيرون مادة البلاستيك على لائحة المواد المضرّة بالبيئة. يُعزز هذا التصنيف النسبة الكبيرة التي تشكلها المواد البلاستيكية من بين النفايات الصلبة والمدة الزمنية الطويلة التي يحتاجها البلاستيك للتحلل في الطبيعة أو التربة. فما هي صحة هذا الاعتقاد الشائع؟ مراسل القافلة في لندن رياض ملك يسلّط الضوء على أهمية البلاستيك وتاريخ صناعته ويبدد الكثير من الصور القاتمة التي رسمناها في أذهاننا حوله..
يكفي المرء أينما كان أن يدقق النظر قليلاً في ما حوله ليكتشف في لحظات إلى أي حد اكتسح البلاستيك حياته اليومية: القلم الذي نكتب به، الهاتف، أرضية المكتب، ورق الجدران، الكومبيوتر، أكياس التسوّق، الملابس، الأدوات المنزلية وبعض المفروشات، أوعية حفظ الطعام وتغليف الأدوية، قناني تعبئة مياه الشرب… كلها مصنوعة بشكل كامل أو جزئي من البلاستيك. وإذا كان بعض هذا البلاستيك خافياً عن عيوننا من حولنا مثل ذلك الذي يغلف الأسلاك الكهربائية داخل الجدران، فإن الذين يستعملون النظارات أو العدسات اللاصقة الحديثة يرون العالم بأسره من خلال عدسات هي على الأرجح من البلاستيك.
تاريخ البلاستيك
يعتقد الكثيرون أن البلاستيك مادة حديثة العهد دخلت حياتنا خلال السنوات الخمسين أو الستين الأخيرة. والواقع أن هذه المادة هي من مواليد القرن التاسع عشر. فقد عرضت أول مادة بلاستيكية من صنع الإنسان في المعرض الدولي الكبير الذي أقيم في لندن سنة 1862م تحت اسم باركسين (Parke ine)، نسبة إلى مخترعها الكسندر باركس.
لم تكن هذه المادة مشتقة من النفط أو الغاز الطبيعي كما هي مادة البلاستيك اليوم، وإنما كانت مادة عضوية مستخرجة من السليلوز. الجديد فيها كان في قابليتها تحت تأثير الحرارة لأن تأخذ شكل أي قالب، ومتى بردت تصبح صلبة وتحتفظ بالشكل الذي صُبّت فيه.
حاول باركس تسويق هذه المادة كبديل عن المطاط الطبيعي الذي كان يستعمل في نواحٍ صناعية كثيرة. ولكن كلفة إنتاجها المرتفعة لم تساعده كثيراً. ولذلك عمد باركس إلى إنتاج مادته بنوعية متدنية لتخفيض كلفتها، مما ألحق بها سمعة سيئة أدّت في النهاية إلى إفلاس شركة باركس عام 1868م.
تلت محاولة باركس محاولات أخرى ظهرت على إثرها مواد جديدة تم تسويقها تحت أسماء تجارية كانت مشهورة جداً في ما مضى، منها مادة السلولويد التي استعملت في نهاية القرن التاسع عشر في صناعة كرات البلياردو بدلاً من العاج الطبيعي الذي أصبح نادراً وثميناً. ثم تلتها مادة البيكلايت نسبة إلى مخترعها ليو بيكلاند، وكانت هذه مادة صلبة غير قابلة للاحتراق، استعملت في مجالات عديدة بما فيها الصناعات الحربية.
وتعاقب اختراع المواد البلاستيكية ليلبي متطلبات سوق تتبدل بسرعة فظهرت مواد جديدة لاستعمالات مختلفة لا بد وأن القارئ قد سمع بمعظمها وعرفه، ومنها السيلوفان، النايلون، التيفلون.. وجميعها
لا تزال تنتج وتستعمل إلى وقتنا الحاضر.
غير أن البداية الفعلية لصناعة البلاستيك على مستوى تجاري واسع تعود إلى العقد الرابع من القرن العشرين أي ما بين سنة 1930م و 1940م. كان أكثر ما شجع هذه الصناعة نمو الحاجة إليها أثناء الحرب العالمية الثانية. فأحد المنتجات البلاستيكية في ذلك الوقت كان البوليثيلين. وقد استعمله الحلفاء كمادة عازلة ساعدت إلى حد كبير في تخفيف وزن الرادارات مما مكّن من حملها على متن الطائرات بدلاً من تثبيتها على الأرض. وبعد نهاية الحرب، استمرّت هذه الصناعة في التطوّر والنمو لتلبية حاجة السوق الاستهلاكية وتزويدها بمنتجات لا حصر لها. وعلى سبيل المثال فإن إنتاج السوق الأميركية وحدها الآن من مادة البلاستيك يزيد على 300 بليون دولار سنوياً، ويقدر عدد العاملين في هذا الحقل بمليون ونصف المليون شخص من مختلف الاختصاصات.
لماذا البلاستيك؟
قد يتساءل القارئ عن سرّ نجاح مادة البلاستيك واستعمالها المستمر لما يزيد على قرن من الزمن من دون انقطاع. والجواب عن هذا السؤال يكمن في طبيعة المادة نفسها ومواصفاتها التي تؤهلها لاستعمالات غاية في التنوع وفي شى المجالات، حتى في تلك التي لا يلحظها الإنسان في حياته اليومية. هذا بالطبع إضافة إلى تدني كلفة إنتاجها نسبة إلى البدائل الأخرى. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا المسمّى يشمل مجموعة واسعة من المنتجات، لكل منها اسمه الخاص وتركيبه الكيميائي المحدد، والذي تنتج عنه مواصفات معينة تؤهله لاستعمال يتطلب هذه المواصفات. وإذا كان المجال لا يتسع للدخول في هذه التفاصيل التي يعلمها أهل الصناعة فمن الممكن تعداد مواصفات البلاستيك بشكل عام على أنه مادة خفيفة الوزن، مقاومة للعوامل الطبيعية لا تصدأ ولا تتآكل، مطواعة إلى حد كبير، أي يمكن تشكيلها على أية صورة أو قالب، قوية ومتماسكة سواء أكانت على هيئة صلبة أو لينة، عازلة للحرارة والبرودة، قابلة للإنتاج بألوان مختلفة، جميلة المنظر، وأخيراً وليس آخراً قليلة التكاليف. وهذه الصفات لا تتوافر مجتمعة في أية مادة طبيعية أخرى. فلو أردنا على سبيل المثال استبدال مادة البلاستيك بمادة أخرى في توضيب أية سلعة، فإن ذلك سيضاعف وزنها أربع مرات ويضاعف حجمها مرتين. هذا بالإضافة إلى زيادة الكلفة واختلاف الشكل. وهذه الزيادة في الوزن والحجم ستؤثر إلى حد كبير على سعر السلعة للمستهلك نظراً إلى الزيادة في كلفة النقل ومراحله ووسائله المتعددة.
ولو أخذنا جانباً آخر يتعلق بمقاومة البلاستيك للعوامل الطبيعية، لاكتشفنا ما له من أهمية على صعيد توفير المياه في المدن. هذه القضية التي تزداد أهميتها يوماً بعد يوم في العالم بأسره. فمعظم مدن العالم تشكو من هدر المياه نتيجة تسربها من القساطل القديمة وضياعها في الأرض. وفي بعض المدن تصل نسبة الهدر هذه إلى حوالي خمسين في المئة نتيجة تآكل القساطل المعدنية واهترائها. ولذا اعتمدت البلدان المتقدمة سياسة إبدال الشبكات المعدنية بشبكات جديدة من البلاستيك، مقاومة للتآكل، لا تنكسر بفعل الحوادث، علاوة على أنها تحافظ على نوعية الماء نظراً لطبيعة مادتها. يضاف بالطبع إلى هذا كله سهولة تركيبها وانخفاض كلفتها. بالإمكان طبعاً إيراد أمثلة عديدة أخرى للبرهان على الاستفادة من خصائص البلاستيك في استعماله بدءاً من السيارات والطائرات ورحلات الفضاء إلى أبسط الأدوات المنزلية في أكثر البيوت تواضعاً. الموضوع في النهاية مسألة طلب وكلفة مع الأخذ في الاعتبار الكفاءة العالية للمادة.
البلاستيك والبيئة
لتقويم أثر البلاستيك على البيئة لا بد من التعرض لناحيتين مهمتين. أولاهما علاقة البلاستيك بالحفاظ على الموارد الطبيعية وثانيهما موضوع التلوث البيئي. إن الحفاظ على الموارد الطبيعية يتطلب أمرين: الاقتصاد في استعمال هذه الموارد، ثم الاستفادة منها إلى أقصى درجة ممكنة. لقد حلت مادة البلاستيك محل مواد طبيعية أخرى في الصناعة أكثر ندرة في الطبيعة. فقد استعيض بالبلاستيك، بأشكاله المختلفة، عن الخشب والمطاط والزجاج ومعادن أساسية مثل الحديد والنحاس والألمنيوم وحتى عن بعض المنتجات الحيوانية مثل الصوف والعاج ومواد كثيرة أخرى. ولنأخذ مثالاً بسيطاً لنرى ما تعنيه هذه الاستعاضة في حالة واحدة فقط وهي استبدال أكياس التسوّق الورقية بتلك من البلاستيك (البوليثيلين) التي نستعملها جميعاً كل يوم. هل يمكننا أن نتصور العدد الهائل من الأشجار التي كانت ستقطع لصنع مادة الورق لتوفير ملايين الأكياس الورقية يومياً بدلاً من الأكياس البلاستيكية والتأثير السلبي لذلك على البيئة. علاوة على ذلك فإن هذا الاستبدال يحقق العنصر الثاني للمحافظة على الموارد الطبيعية، أي الاستفادة القصوى من المادة المستعملة. فأكياس البلاستيك يتم استعمالها مرات عديدة بالمقارنة مع أكياس الورق التي تتلف من المرة الأولى، وفي أفضل الحالات من المرة الثانية. ولكن فائدة الاستبدال
لا تتوقف عند هذا الحد؛ لأن هناك فوائد أخرى لا تقل أهمية، ومنها على سبيل المثال أيضاً أن عدد الأكياس التي يمكن نقلها في شاحنة واحدة فيما لو كانت من البلاستيك، يصبح بحاجة إلى سبع شاحنات في حال كانت هذه الأكياس من الورق. وهذا لا يعني فقط توفيراً في كلفة النقل لمصلحة المستهلك، وإنما يعني أيضاً اقتصاداً في استعمال الموارد الطبيعية، ومساهمة حقيقية في الحفاظ على نظافة البيئة بحرق كمية أقل من الوقود.
ولكن ماذا عن هذه الكميات الضخمة من المخلفات البلاستيكية التي تملأ شوارعنا بالمناظر المؤذية؟ وما هو مصير هذا الكم الكبير من المنتجات البلاستيكية الأخرى عندما تنتفي الحاجة إليها. أليس هذا هو التلوث البيئي بعينه؟
طبعاً الحديث هنا هو عن تدوير النفايات التي يشكل البلاستيك جزءاً منها نظراً إلى دخوله في معظم الصناعات. لقد أصبح تدوير النفايات مقياساً يقاس به تقدم المجتمعات، فكلما ارتفعت نسبة ما يدوره مجتمع ما من نفاياته دلّ ذلك على تقدمه ووعيه للموضوع البيئي. لذلك فإن انتشار الأكياس والقناني في الشوارع لا يعكس عيباً في البلاستيك بقدر ما يعكس خللاً في التصرف وقصوراً في استيعاب أهمية التدوير واستطراد التلوث البيئي. بل ربما كان البلاستيك من أكثر المواد قابلية للتدوير، يؤكد ذلك وجود مئات الشركات التي تعمل في هذا المجال، والتي تؤمن بالإضافة إلى نظافة البيئة آلاف فرص العمل.
أما نتيجة عملية التدوير نفسها فهي منتجات جديدة من البلاستيك المدور بعضها معروف للقارئ مثل طاولات وكراسي الحدائق المنزلية ورياض الأطفال، وصفائح البلاستيك المستخدمة في نواحٍ عديدة مثل صنع اللافتات، والخشب البلاستيكي الذي يأتي على شكل ألواح تماثل الألواح الخشبية وتحمل كثيراً من خصائصها، والبلاستيك السائل المستعمل في التصليحات الدقيقة. وفي ذيل القائمة تأتي الكرات البلاستيكية التي تستعمل وقوداً بدل الفحم والتي تعطي مردوداً حرارياً عالياً عند احتراقها. أما أنواع البلاستيك القليلة غير القابلة عملياً للتدوير فإنه يتم حرقها لإنقاص حجمها إلى العشر ثم يجري طمرها بعد ذلك في حفر خاصة في الأرض.
باختصار، لا يبدو في البلاستيك ما يستحق كل هذا الحنق عليه. والمكانة التي صارت تحتلها هذه المادة في حياتنا اليومية صارت أكبر من أن تقبل التقهقر أو التراجع أمام المواد المثيرة للحنين مثل الخشب والنحاس. فكل ما يتطلبه البلاستيك منا على الصعيد البيئي هو أن نحسن التصرف معه بعد انتفاء الحاجة إليه.