حين نتأمل في تسمية«الزائدة الدودية»، وحين نتساءل عن أهمية الشعر الذي يكسو أجسام الرجال، أو قيمة شحمة الأذن من الناحية الوظيفية، فإننا نتطرَّق لفرع علمي مختص بما يُعرف بالأعضاء أو التراكيب الأثرية Vestigial Structures، وهو علمٌ يتجاوز الجسم البشري ليشمل تشريح الكائنات الحية كلها ويدرس الطريقة التي طوّرت هذه الكائنات بها قدراتها ووظائف أعضائها عبر التاريخ لتتواءم −بالفطرة التي فطرها الله عليها− مع ظروف بيئاتها عبر العصور.
في القرن الرابع قبل الميلاد، كتب أرسطو في كتابه (تاريخ الحيوانات) عن العينين الضامرتين لحيوان الخُلد، فوصفهما بأنهما قد «توقفتا عن النمو»، لأن هذه الكائنات تُعد عمياء من ناحية عملية. وفي العام 1798 وصف العالِم إتيان سانت هيلير الأعضاء الزائدة أو غير ذات القيمة الفسيولوجية لدى بعض الحيوانات بـ «البقايا» بقوله: «هذه البقايا غير ذات فائدة في هذه الظروف، لكن لم يتم استبعادها تماماً من بنية الكائنات الحية لأن التغيّر الطبيعي لا يمارس القفز عبر المراحل. هكذا ترث الأجيال التالية آثاراً من أسلافها، على الرغم من أن وجود هذه الآثار في الكائنات المعاصرة سيستأثر بحيّز من أجسامها دون أية فائدة تُذكر بالمقارنة بالوظيفة الأقدم لهذا العضو الأثري عند الجيل السالف».
لاحقاً، جاء تشارلز داروين (1809-1882)م وعدّد في كتابه (سلالة الإنسان) بعضاً من هذه الأعضاء غير المفيدة عند الإنسان نفسه، ومنها: عضلات الأذن، أضراس العقل، الزائدة الدودية، عظم الذيل (أو عُجب الذنب)، شعر الجسم، وغيرها. لكن داروين لم يكن قطعياً في نفيّه لفائدة تلك الأعضاء والتراكيب، بل ذكر في كتابه في أصل الأنواع أن هذه الأعضاء ربما خسرت وظيفتها الأولية، ولكنها لا تزال تحمل وظيفة ثانوية: «عندما يخدم العضو وظيفتين، قد يصبح غير فعال وضعيفاً جداً في أحدهما، مقابل فعالية عالية في الوظيفة الأخرى، وبهذا يصبح عضواً أثرياً غير ذا فائدة بالنسبة للوظيفة الأولى، إنما يُستغل في وظيفة أخرى بشكل أكثر فعالية».
إن هذا المصطلح «عضو أثري» قد تم صكّه وترويجه على يد روبرت فيدرشايم في العام 1893م، حين نشر قائمة تحتوي على 86 عضواً بشرياً وصفها بأنها كانت ذات أهمية وظيفية بالغة سابقاً. منذ ذلك الحين اكتُشفت وظائف ثانوية لبعض هذه الأعضاء، والبعض الآخر لم يزل دون أية فائدة تذكر، فيما توسعت القائمة لتشمل اليوم 180 تركيباً بشرياً أثرياً.
ما العضو الأثري؟
الأعضاء الأثرية هي تراكيب تشريحية مطابقة لتراكيب أخرى لها وظيفة واضحة عند أجناس أخرى. على سبيل المثال؛ تحوي زعانف الدلافين والحيتان أصابع حقيقية، مطابقة لأصابع كثير من الثدييات بما فيها البشر. لكن هذه الأصابع لدى الحيتان قد ضمرت وتحورت وتحوَّلت إلى أعضاء أثرية.
إذن -ووفقاً لعلم الأعضاء الأثرية- فإنه ابتداءً من الأسلاف الأولى لكائن ما، وبناءً على الانتخاب الطبيعي، بقيت جميع الأعضاء الوظيفية في سلالة هذا الكائن لكونها مفيدة لحياته واستمرار نوعه. لكن مع تعاقب الزمن والأجيال، وتغيّر الظروف المحيطة، تتغير العوامل التي تحدِّد استمرارية الكائن وتكاثره، وفي هذه الفترة يتم اختيار خصائص دون خصائص أخرى للأعضاء التي يحوّرها الانتخاب الطبيعي، وبهذا يمكن للكائنات أن ترث العضو بأكثر من شكل، بعضها متطابق وبعضها أقل فعالية ولكنها غير ضارة. ويظل بعضها جزءاً أساسياً من تركيب الكائن الحي لأهميتها في النمو على الرغم من خسارتها للوظيفة الأولى.
هل وجود وظيفة لعضو يعني
أنه ليس تركيباً أثرياً؟
يواجه موضوع الأعضاء الأثرية سوء فهم كبير عادة بحيث يوصم بأنه علم البحث عن الأعضاء التي لا وظيفة لها، ومن ثم تسميتها بالأثرية! وهذا غير صحيح بتاتاً. فالعضو الأثري لا يكتسب اسمه إلا من خلال التشريح المقارن بين نوعين ومقارنة وظائف العضوين عند النوعين. وهذا بالتأكيد لا ينفي وظيفة ما عند النوع الأول أو النوع الثاني.
في المقابل، بعض المراجع الطبية تعرّف العضو الأثري بأنه «لا يحمل أية وظيفة» قطعياً. ولهذا السبب نجد أحياناً بعض المراجع تنفي صفة الأثرية عن بعض الأعضاء بمجرد اكتشاف وظيفةٍ ما لها. وهذا الخطأ ناتج عن أن كثيراً من الأطباء ليسوا ملمين بمبادئ البيولوجيا التطوريّة. كما وأن الأعضاء الأثرية تحتاج بالضرورة لتشريح مقارن ولا يكفي الاكتفاء بتشريح جنس الإنسان ـ التشريح الوحيد الذي يلم به المتخصص في المجال الطبي ـ – لتحديد ما إذا كان العضو أثرياً أو غير أثري.
فأطراف طائر البطريق لديها وظيفة بالتأكيد بالنسبة للبطريق حالياً، ولكنها قد خدمت كأجنحة في زمن سابق، ثم فقدت وظيفتها هذه اليوم، وعليه تُعد أعضاءً أثرية.
التراكيب الأثرية عند الإنسان
ماذا عن الأعضاء والتراكيب الأثرية في جسم الإنسان؟، حيث عدَّها العلماء بنحو التسعين عضواً قبل أكثر من قرن ليتضاعف هذا العدد اليوم.
يمكن تقسيم هذه الأعضاء أو التراكيب الموروثة عن أسلافنا إلى مجموعتين وفقاً لطبيعتها، لكونها موروثات تشريحية أو سلوكية.
الزائدة الدودية:
تُعد الزائدة عند الإنسان عضواً أثرياً للزائدة الدودية عند كثير من الحيوانات التي توظف هذا العضو لهضم سكر السيليلوز وسكريات النباتات الأخرى وذلك بشكل أكثر فعالية مما يحصل في الجهاز الهضمي لدى الإنسان. وبالمقارنة، نجد بين أنواع كثيرة من الحيوانات، سواء آكلات النبات أو آكلات اللحوم، تفاوتاً بين وجود المصران الأعور بحجم كبير جداً وغياب الزائدة، وصغر حجم المصران الأعور ووجود الزائدة كلما ازداد اعتماد الحيوان على اللحوم كمصدر غذائي.
لقد لاحظ العلماء أن الزائدة تنشأ من طرف المصران الأعور في مكان محدَّد عند كثير من الأجناس، وأن المصران الأعور والزائدة الدودية يحملان وظيفتين أخريين عند كثير من الأجناس تتمثلان في تجمع لخلايا المناعة في النسيج ومصدر لتكاثر البكتيريا الطبيعية تجمع بقايا الغذاء فيها وكثرة الأنواع البكتيرية فيها، بعد الإصابة بالتسمم المعوي مثلاً أو العلاج بالمضادات الحيوية. وبهذا نجد أن وظيفة الجهاز المناعي المنتشر في الجهاز الهضمي أو ما يعرف بـ MALT (النسيج اللمفاوي المصاحب للنسيج المخاطي) هي وظيفة قديمة وما زالت الزائدة الدودية محافظة عليها، بينما خسرت هذه الزائدة وظيفتها الأولى وهي هضم سكر السيليلوز.
عظم الذيل:
عظمة الذيل، أو العجز، أو عُجب الذنب، تُعد من بقايا الذيل عند الثدييات. فجميع الثدييات تحمل ذيلاً في مرحلة ما من مراحل نموها. بل إن جنين الإنسان يحمل ذيلاً لمدة أربعة أسابيع من المرحلة 14 وحتى 22 من التخلق الجنيني (يكون أكثر وضوحاً من خلال الأيام 31 إلى 35 من عمر الجنين).
بطبيعة الحال فقد خسرت عظام الذيل وظيفتها الأولى وهي موازنة حركة الكائن، وبقيت الوظائف الأخرى كمراكز لتثبيت عضلات مهمة عند الإنسان في منطقة الحوض. مع ذلك، فقد تم تسجيل 23 حالة منذ العام 1884 لمواليد بذيول وصلت أطوال بعضها إلى 12 سم، ويتم التخلص من هذه الزوائد الأثرية جراحياً بدون أية أضرار لاحقاً.
أضراس العقل:
تظهر أضراس العقل لدى البالغين وقد تُفقد لاحقاً بدون أن تؤثر كثيراً على كفاءة عملية المضغ. إن هذه الأضراس هي في الواقع تراكيب أثرية من أسلاف كانوا ذوي فكوك أكبر وأطول احتاجوها لتسهيل عملية المضغ أكثر. وقد ساهم التغيير في النظام الغذائي وصغر حجم الفك لدى الأجيال اللاحقة في جعل أضراس العقل غير محورية الأهمية بسبب وجودها في ركن قصيّ داخل الفم. بل إن ضيق المساحة ومزاحمتها للأضراس الأخرى التي تظهر قبلها قد جعل من أضراس العقل سبباً في كثير من التهابات الفم والمشكلات الصحية الأخرى ما يستدعي اقتلاعها في أحيان كثيرة بعمليات مؤلمة!
تراوح نسبة نمو أضراس العقل ضمن الجنس البشري بين الانعدام الكليّ عند سكان تسمانيا الأصليين، والنمو الكامل بنسبة %100 بين سكان المكسيك، وبعض هذا الفارق يعزى للتنوع بين أفراد الجنس البشري في ترجمة الجين PAX9.
الأذُن:
لعلك قد صادفت أحداً من البشر ممن يمتلك القدرة على تحريك صيوان أذنه بشكل يُدهش الآخرين. هذه الحركة مرتبطة بمقدار الضمور الذي أصاب عضلة الأذن البشرية، كعضو أثري لا نزال نراه فعّالاً بشكل كبير لدى الأرانب والقطط على سبيل المثال.
على مستوى الرئيسيات، فإن قردة المكاك -وكثير من الثدييات الأخرى- تمتلك عضلات حول الأذن أكثر فعالية بكثير من الإنسان، بحيث تستطيع تحريك أذانها في جميع الاتجاهات، فيما نشترك نحن مع الشيمبانزي وحيوان (إنسان الغاب) في غياب هذه القدرة على تحريك الأذن وإن كنا حافظنا على أحجامها الكبيرة. وكأية صفة أثرية نجد أن بعضاً من أفراد الجنس البشري لديهم القدرة على تحريك آذانهم ولكن بنسبة قليلة جداً تدل -بعدما طوّرنا قدرة أفضل على تحريك الرأس بشكل أفقي- أن الانتخاب الطبيعي لم يعد عبر الأجيال يفضّل العضلات المحرّكة للأذن ضمن التعدد الجيني في الجنس.
غشاء العين الجانبي (الثنية الهلالية):
هذه الثنية توجد على طرف المقلة الجانبي في كل عين، ممثلة لعضو أثري هو جفن ثالث داخلي كبير نراه في الطيور والزواحف اليوم، ووظيفته عندها حماية الملتحمة بحيث يغطي سطح العين بغشاء شفاف مع الإبقاء على العين مفتوحة. وتظل لها وظيفة مهمة اليوم ضمن الجهاز الدمعي للعين.
أما فيما يخص التراكيب الأثرية السلوكية، فسنتناول القشعريرة مثالاً.
القشعريرة:
هي سلوك ارتكاسي -لا إرادي- يتولد لدى الكائنات عند تعرضها لأي نوع من الضغوطات أو التهديد، مثل هجوم مفترس أو البرد الشديد، ليجعل الكائن يبدو بحجم أكبر ويحافظ على طبقة من الهواء بين الشعر والجلد للتدفئة.
آثار باقية لماضٍ دفين
إن مصطلح العضو الأثري في اللغة الإنجليزية مشتق من الكلمة Vestigium ومعناها الحرفي «طبعة القدم»، وسنختم المقالة بشرح مصطلح العضو الأثري الحقيقي كما سماه عالم الحيوان الروسي أليكسي يابلوكوف الذي استخدم الحيتان والدلافين كمثال واضح شديد الوضوح لتوضيح العضو الأثري الحقيقي.
كما هو معروف، فإن الحيتان والدلافين لا تحمل أية أطراف نتوءات على أسطح أجسامها السفلية، ولكنها جميعها وبدون استثناء تمتلك عظمة الفخذ والحوض مدفونة بعمق تحت الجلد. كما لوحظ أن هذه الأنواع من الثدييات البحرية لا تظهر عليها النتوءات إلا في مراحل مبكرة من التخلق الجنيني وسرعان ما تنكمش فلا يبقى مكانها إلا سطح أملس ليتزامن ذلك مع تكون الزعانف الخلفية، ما عدا بعض الحالات التي سجلت وجود نتوء واضح عند بعض أفراد هذه الأنواع.
يظهر هنا جلياً أن هذه الآثار تعطينا صورة واضحة للتغيرات التي طرأت على الثدييات أسلاف الحيتان والدلافين التي كانت تدبّ على أربع فيما مضى.
في العام 1956، تم صيد إحدى إناث حيتان العنبر قبالة سواحل اليابان، فوُجد زوج من النتوءات على الطرف الخلفي للحوت. طولها يقارب 5 سم في الجهة اليمنى و6.5 على الجهة اليسرى. بعد ذلك فُحصت النتوءات من الداخل ووجدت بكل منها 3 عظام، ترتبط الأولى بالثانية من خلال عضلات قوية، والثانية بالثالثة من خلال عضلتين ضعيفتين ومتليفتين، وتشبه عظم الحوض والفخذ كثيراً، بينما الثالثة تبدو صغيرة وغير مكتملة النمو.
هذه الحالة تفهم كخلل في النمو الجنيني بحيث تم الإبقاء على أعضاء عادة ما تنكمش خلال التخلق الجنيني، لكنها تعطينا كذلك دليلاً يغلب الظن على صحته لبقايا الحالة رباعية الأطراف لأسلاف الحيتان الضاربين في القدم، ومن الصعب أن نقبلها كتشوه بدون أي إشارة للتاريخ الطبيعي لسلالة الحيتان.
عليه، لنتذكر دوماً أن الماسة تَمتُّ بقرابة بعيدة للفحم، نحتاج أحياناً أن نتجاوز ما نراه بأعيننا ويترك فينا انطباعاً أولياً بصعوبة الفهم أو التصور.