نتذمَّر منها أحياناً، ولكننا في الوقت نفسه نحمِّلها أعمق المعاني وأعزّ الذكريات وكثيراً من آمالنا وأحلامنا. إنها كلمات السر التي أصبحت جزءاً من نسيج حياتنا اليومية. نختارها بعناية عند اعتمادها، وهاجسنا الأول هو ألاَّ تكون قابلة للتكهن بها من قبل الآخرين. فهي السور الدفاعي الذي يحمي خصوصياتنا وحتى أموالنا. ولكن في لحظة الاختيار بالذات، ثمة عوامل عديدة غير جانب السرية والطابع الأمني تدخل على الخط وتوجه اختياراتنا. فما هي؟.
قد تكون كلمة السرّ التي نسجِّل فيها دخولنا إلى الأجهزة الإلكترونية المختلفة، أكثر من مجرَّد رمز يفتح أمامنا عالم الإلكترونيات بل هي بمنزلة المدخل الذي ينفذ إلى داخلنا ويكشف أعمق أسرارنا. وذلك حسب عالمة النفس البريطانية هيلين بيتري التي اعتبرت أنّ كلمات السرّ توازي اختبار «Rorschach» في القرن الواحد والعشرين. وهو الاختبار الذي اشتهر بتسجيل انطباعات الأشخاص عند رؤيتهم لبقعة حبر عادية ومن ثمّ كان الخبراء يقومون بتحليل تلك الانطباعات باستخدام إمّا التحليل النفسي أو الخوارزميات المعقَّدة أو كليهما. فكلمات السرّ هذه تشبه كثيراً فنّ الأورغامي الياباني من حيث إنّها أعمال إبداعية صغيرة وتلقائية تنبع من أعماق وجودنا.
حاول الكاتب دوغلاس هوفستادتر تحديد الحلقات الدقيقة التي تمكننا من صناعة اللغة التي نتحدّث بها وإحساسنا بذاتنا من المواد الجامدة حولنا. لا شكّ في أنّ هناك ما هو موازٍ بين كلمات السرّ وبين الحلقات الدقيقة الموجودة في الموسيقى والرياضيات والفن التي وصفها هوفستادتر في كتابه. فالطبيعة البشرية لا تتقن ابتكار كلمات السرّ فقط، وإنمّا تبتكر تلك التي تحمل معها حلقات متداخلة من الإحساس الذاتي العميق.
وعندما سئل هوفستادتر عن رأيه فيما إذا كانت هناك علاقة بين العادات المتعلقة بكلمات السرّ وبين حلقات الإحساس الذاتي التي درسها في كتابه، أكَّد أنّ بعض الأنماط التي ترسمها تلك الحلقات موجودة طبيعياً ونقوم نحن باكتشافها، والبعض الآخر نقوم بابتكاره. ولكنّه يشير في الوقت نفسه إلى أن الطبيعة البشرية تعارض أكثر من أي شيء آخر، الاعتباطية في الاختيار وأن اختيار كلمات السرّ يتوافق مع تلك الطبيعة بالكامل، إذ إن اختيارها يأتي دائماً بالتوافق مع الوعي الكامل دون أي عشوائية.
الجوانب النفسية المختبئة فيها
في ديسمبر 2009، عندما كان يتصيد الإنترنت للإيقاع بأهداف محتملة، استطاع أحد قراصنة الكمبيوتر في أوروبا الشرقية اختراق قاعدة البيانات المؤلفة من 32 مليون كلمة سرّ لشركة (Rock you) التي تدير شبكة ألعاب إلكترونية. وبعد عدّة أسابيع، قام هذا الشخص بنشر قاعدة البيانات هذه لتتحوّل إلى أحد أهم مراجع الأرشيف لكلمات السرّ في العالم.
وعلى مدى السنوات الأخيرة قام فريق صغير من علماء الكمبيوتر في معهد أونتاريو للتكنولوجيا بدراسة قاعدة البيانات هذه وخرج باستنتاجات مهمة. فعلى الرغم من أنّ معظم الدراسات المتعلقة بكلمات السرّ ركّزت على الجانب الأمني إلاّ أنّه تبيّن أنّ لهذه الكلمات دلالات نفسيّة وأنتروبولوجية مهمة.
فقد ظهر أنّ معظم كلمات السرّ تعكس مروحة كبيرة من المشاعر الإنسانية المختلفة. وكانت أكبر نسبة منها هي الكلمات التي تعّبر عن الحُب. حيث اختار عديد من الأشخاص كلمات ترمز إلى أشخاص وأحداث لها قيمة عاطفية. وهناك نسبة مهمة تحتوي على تعويذات تحفيزية، حيث إن أحد العدَّائِين، على سبيل المثال، كان يستخدم كلمة السرّ «16:59» وهو الوقت الذي يهدف إلى تحقيقه في السباق مسافة 5000 متر. وكان أحد السجناء السابقين يستخدم الرقم الخاص به عندما كان سجيناً ليذكره بألاَّ يرتكب خطأ آخر يعيده إلى السجن من جديد. وكانت الآلاف من الكلمات تعبِّر عن الحنين والألم من أمور خسرناها، فكانت إحدى الأمهات، مثلاً، تستخدم اسم طفلها الذي فقدته صغيراً في محاولة منها لابقاء ذكراه حيّة. وفي أحيان أخرى عكست الكلمات نوعاً من الدعابة والمرح إذ استخدم بعض الأشخاص كلمة سرّ «غير صحيح» حتى في حال نسيانها يقوم برنامج الكمبيوتر بتوجيههم إلى كلمة السرّ الصحيحة بمجرد أن يشير لهم أنّ كلمة السرّ غير صحيحة. وهناك بعض كلمات السرّ اللافتة لبراعتها وهي التي تضم أفكاراً كبيرة وتحفظها في شيفرة صغيرة. فهناك أحد مهندسي الكمبيوتر الذي يهوى اللعب على الكلام، كان يستخدم كلمة السرّ «TnsitTpsif» التي ترمز حرفياً إلى The next sentence is true. The previous sentence is false. أي إن «الجملة اللاحقة صحيحة. والجملة السابقة غير صحيحة». وهو ما يسمّى بعالم الفلسفة بـ «مفارقة الكذّاب». بالإضافة إلى كلّ ذلك كانت هناك نسبة ضئيلة من كلمات السر التي تعكس الجانب الإنساني المظلم حيث وجدت الآلاف من الكلمات التي تتحدّث عن العنف والقتل.
هذا من الجانب النفسي، أمّا من جانب آخر، فقد قدّم آندي ميا، أستاذ علم التواصل والإعلام في جامعة سافورد في بريطانيا وجهة نظر أنتروبولوجية، وذلك بعد أن تحوّل استخدام التكنولوجيا من شيء خارجي إلى ما هو متداخل تماماً مع حياتنا الخاصة.
فقد أصبحت كلمات السرّ بمنزلة طقس يومي نتواجه فيه مع ذكرياتنا الخاصة التي لا يمكننا استرجاعها من أي مكان آخر، إذ أصبح من النادر جداً في حياتنا المعاصرة السريعة أن نستعرض الصور القديمة أو أن نقرأ رسالة شخصية مثلاً. خصوصاً وأن استخدام كلمات السرّ أصبح من الممارسات العالمية حيث إنّ الغني والفقير والشاب والمتقدّم بالعمر والكل تقريباً يتواجه يومياً مع أحد الأجهزة الإلكترونية التي تتطلب تسجيل الدخول إن كانت التحويلات المالية أو الخدمات المصرفية عبر الإنترنت أو البريد الإلكتروني أو بطاقات الاتصال أو غيرها. ويؤكد ميا على أهمية هذا الطقس اليومي في حياتنا المعاصرة ويقول إنّه إذا ما فقدناه «نفتقد الحميمية التي نختبرها مع أنفسنا».
كلمات السرّ هي هنا لتبقى
منذ بضع سنوات توقّع بيل غيتس خلال مؤتمر أمن التكنولوجيا تراجع اعتماد الأشخاص على كلمات السرّ قريباً لأنّ الأفراد والمؤسسات، على حدّ سواء، لن تستطيع مواجهة تحدّي إبقاء معلوماتهم السّرية بأمان. وخلال السنوات الأخيرة جرى بالفعل تحديث لأجهزة مختلفة للتعّرف على الأشخاص، ليس من خلال كلمات السرّ، وإنمّا من خلال أمور أو ممتلكات خاصة مثل القطع المعدنية أو البطاقات أو من خلال مسح الأعين أو الأصوات أو البصمات.
وفي السنة الحالية، على سبيل المثال، قامت شركة غوغل بشراء الشركة الناشئة Slik Login التي تتحقق من هويات الأشخاص من موجات الصوت. وقد أصبحت هواتف آي فون مجهَّزة بتقنيات مسح ضوئي للبصمات لأكثر من سنة الآن. ولكن على الرغم من كلّ ذلك استمرّ العمل بكلمات السرّ، لا بل ازداد استخدامها، وأنتجت أجهزة كثيرة مثل لوحات مفاتيح السيارة وأجهزة تنظيم الحرارة وأجهزة الإنذار المنزلية الموصولة بشبكة الإنترنت، التي يتمّ تشغيلها من خلال كلمة السرّ.
ومنذ سنوات خمس كان معدّل كلمات السرّ للشخص الواحد حوالي 21، ولكن هذا العدد تزايد اليوم إلى 81 كلمة سر، وذلك وفقاً لشركة Last Pass، وهي الشركة التي تصنّع البرامج لتخزين كلمات السرّ. ويظهر ذلك أنّه على الرغم من أنّ كلمات السرّ تضع ضغوطاً على الذاكرة، وتشعرنا بالدرجة الكبيرة التي يسيطر بها علينا العصر الرقمي، إلا أنّ هناك صعوبة في التخلّي عنها.
عندما سُئل بول سافو، أستاذ الهندسة في جامعة ستانفورد والمهتم بمستقبل التكنولوجيا، عن رأيه في كلمات السرّ، قال إنّها تشبه الشيفرة التي تحمل عديداً من المعاني، وهذه المعاني التي نحمِّلها لتلك الأحرف والأرقام تجعلها تحمل معها كثيراً من الحنين والمشاعر الخاصة، مما يمنحها نوعاً من الحياة السرّية. وهذه الحياة السرّية هي التي تتوق الطبيعة البشرية إلى المحافظة عليها والتمسك بها على الرغم من تعقيداتها والضغوط التي تفرضها علينا.