منذ بدأنا نستهل صباحاتنا المدرسية بعطر المداد ونكتحل بإشراقة المفردات، ونحن نصدح مع الشاعر السوري: فخري البارودي، قوله:
بلاد العرب أوطاني من الشام لبغداني
إلى أن يقول بيتاً، كنت شغوفاً به لهوجاً بإنشاده:
لسان الضاد يجمعنا بغسان وعدنان
وكم كان معلمونا الأوائل يجهدون في شرح الضاد كحرف مجهور مستطيل، يتردد صداه في الحنك الأعلى.
ويذكر «الفيروز بادي» في مقدمة كتابه القاموس المحيط: «ويأتي الضاد في المرتبة الخامسة عشرة في منظومة الحروف العربية، وهو حرف مشهور يحل في الكلمة أصلاً لا بدلاً ولا زائداً، وهو للعرب خاصة».
وكان العلامة بطرس البستاني يقول: «فصوت الضاد بفخامته ونضارته وغنته، إنما هو أوحى أصوات الحروف الهجائية قاطبة، فتحس معه بمشاعر الشهامة والمروءة والشمم…
وحرف هذا شأنه يستحق في نظر العربي أن يحمل لسانه مشقة لفظه، وتوسم العربية بوسمه، وقديماً قال المتنبي مفتخراً:
وبهم فخر كل من نطق بالضاد
وغل الجاني وغوث الطريد
والمتنبي لا يقصد هنا بالضاد اللغة العربية بشكل عام، وإنما حرف الضاد تحديداً.
فمنذ قرون عديدة أصبح من المعهود والمقبول أن تحمل العربية لقباً يطلق عليها هو «لغة الضاد».
لغة الضاد أم الظاء؟
لكن وبعد هذا كله، هل العربية لغة الضاد حقاً وفعلاً؟ أم هناك ثمة صوت آخر يزاحمه على هذه المكانة التي تبوأها منذ أن عرفت العربية طريقها إلى الألسن؟ يبدو أن الأمر كذلك. فالفراهيدي اللغوي العربي المشهور، يُعد من أوائل الذين صرَّحوا بأن «الظاء» هو الحرف الوحيد المختص بالعربية، واقتصر عليها دون غيرها من اللغات الأخرى، وذكر في كتابه «العين» قائلاً:
• «وليس في شيء من الألسن ظاء غير العربية» وكرر هذا المعنى في أكثر من موضع في سياق الكتاب نفسه، وأضاف:
• «والظاء عربية لم تعط أحداً من العجم، وسائر الحروف اشتركوا فيها بما في ذلك الضاد».
• لغة الضاد أم الظاء أم الحاء؟
إلا أنه وما كاد هذا النقاش يحتدم في أي من الحرفين يستحق هذا المكانة حتى فوجئنا برأي آخر مخالف يفيد:
• «إن لا الضاد ولا الظاء يستحق أن توصف العربية في وصفه. فالضاد من أسهل الحروف نطقاً بالنسبة للأقوام الأخرى من غير العرب. ومن نقائض الضاد أنه يسم جبين كل كلمة بمكروه، وبالكاد تسلم منه مفرده من اسم أو فعل، مثل: «ضجر ضوضاء ضلال ضنك ضنا ضوى ضراوة ضرر، إلخ …».
• وأن شقيقه الظاء لايقل عنه تطرفاً من حيث اختصاصه بمفردات توصف بالعتمة والضيق من مثل: «ظلام ظلم اكتظاظ لظى غيظ». والى ما هنالك من كلمات مدلهمة تبعث على التشاؤم وتدعو للانقباض.
• بينما عكسهما الحاء الذي يكاد يحتكر أشرف المعاني وأقواها، مثل: «حب حسن حق حركة حزم وحي، إلخ».. فحرف الحاء من أظهر الحروف أثراً بمعاني السعة، حسية كانت أو فكرية، ويعم الحكم فيسوى بين موقعه في أول الكلمة أو في وسطها أو آخرها، مثل: «الحرية والحياة والحكم والحكمة والحلاوة والحلال والرحمة». وإليها نضيف: «الارتياح والسماح والفلاح والنجاح والفصاحة والفرح والمرح والصفح والروح والريحان والترويح».
وأن هذا الحرف الحلقي من أصعب الحروف نطقاً على حناجر الأعاجم، الذين يلفظونه: «هـ» أو «خاء» وهو بذلك يكون الأجدر بأن تنسب إليه لغتنا الجميلة، فنقول بملء أفواهنا: «لغة الحاء بدلاً من قولنا لغة الضاد أو الظاء».