العلم خيال

قارئ الأفكار

pulse-sequences-fig3كم تمنينا أن نعرف بماذا يفكر الآخرون وكيف يشعرون نحونا. وفي الوقت الذي نتمسك فيه بهذه الأمنية فنحن نتفنن في تزييف ملامحنا وتعبيرات وجوهنا حتى لا يرى الآخرون ما نحاول إخفاءه. وعلى هذا الأساس عاش البشر حياتهم في ظل افتراض أساسي مفاده أن لا مخلوق سيعرف فعلاً ما يدور في عقولهم من نيَّات وغايات وأفكار مختلفة. ولكن إلى متى سيصمد هذا الافتراض؟ وهل ستقدم علوم الأعصاب والإدراك أية منجزات ترغمنا على «الخوف من قدرة العلماء على قراءة الدماغ» كما تحذر مجلة الإيكونيميست؟

«أنا أفكر إذن أنا موجود»
قبل أن نستعرض المشاريع القائمة والآفاق القريبة لقراءة الأفكار، لا بد أن نعطي الفيلسوف الفرنسي رينييه ديكارت (1596-1650) وأتباعه قليلاً من المساحة لنفهم إحدى وجهات النظر السائدة بين علماء الأعصاب اليوم.

كان التفريق بين «الدماغ» و«العقل» أحد أهم أركان فلسفة ديكارت. حيث اعتقد ديكارت أن كل ما نشترك فيه مع الحيوانات الأخرى يمكن رده إلى أعضاء الجسم الحسيّة التي يمكن أن نراها ونقيسها، بما في ذلك القدرة على الحركة والرؤية والنوم والسماع. لكننا نتميز عن كل الحيوانات الأخرى بالعقل، حيث يحدث التفكير، وهو الذي اعتقد ديكارت أنه لا يمكن أن يوجد في المادة ولا في الزمن بل يتواصل مع أجسامنا عبر الغدة الصنوبرية وسط الدماغ. ولهذا قال جملته المشهورة: «أنا أفكر إذن أنا موجود»؛ لكون التفكير هو النشاط الوحيد الذي يميّز وجود الإنسان ووعيه. وظل العقل بعيداً عن حقول العلم الطبيعي بعد ذلك لفترة طويلة تحت تأثير الفلسفة الديكارتية. بل إن بعضهم، مثل الفيلسوف الألماني كانط، ادّعى بأن العلوم القائمة على دراسة العقل يستحيل أن توجد، لأن العقل ليس له طبيعة حسية مثل المعادن والمواد، وليس له وزن ولا مكان. وبالتالي فإنه لا يخضع للتجارب العلمية. ولكن سرعان ما أثبتت الدراسات العلمية للدماغ والنشاط العصبي أن الأمر ليس كما يتصورون.

البدايات
من المجازفة أن نزعم أننا اليوم نستطيع قراءة الأفكار. لكن هذا لا يعني أنه لا توجد مشاريع قائمة على قدم وساق لتحقيق هذه الغاية. فوكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية (داربا) التابعة لوزارة الدفاع الأميركية، وغيرها من المنظمات، بدأت فعلاً بوضع قدمها في هذا الحقل بدعم سخي للغاية تبرره المبررات الأمنية لهذه البحوث. من ذلك برنامج إدارة الهجرة الأميركية المسمى «تكنولوجيا فرز السمات المستقبلية – Future Attribute Screening Technology» أو (فاست) الساعي إلى إنشاء حسّاسات آنية تلتقط الإشارات التي تدل على النيَّات السيئة (الإشارات الفسيولوجية والسلوكية وغيرها). حيث تهدف هذه التقنية للمساعدة في كشف المحاولات الإرهابية قبل وقوعها. وفي مايو 2011 تم بالفعل وضع فاست تحت الاختبار في أحد ملاعب نيويورك. إضافة إلى ذلك، أعلنت وكالة الفضاء (ناسا) أنها ستمضي في مشروع مشابه لقراءة نشاط أدمغة المسافرين جواً، إلا أنها وتحت الإحراج العام أعلنت أنها لا تملك القدرة على قراءة الأفكار.

مسح الدماغ
maxresdefaultالنقاشات الفلسفية حول قراءة الأفكار قد تصبح أكثر أهمية إذا حققت هذه المحاولات نجاحات ملموسة. فعديد من هذه المشاريع يستخدم التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) ، كإحدى أهم النوافذ التي يرى العلماء من خلالها النشاط العصبي داخل الدماغ. وتقوم فكرة هذه التقنية على مقارنة تدفق الدم على مناطق محددة من الدماغ حيث إن الخلايا النشطة تستهلك كمية أكبر من الدم، وبهذه الطريقة يتسنى معرفة أي مناطق الدماغ يتم تشغيلها وربط ذلك بالنيات. وهناك وسائل أخرى لتصوير نشاط الدماغ وتستخدم تقنيات مختلفة مثل التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني (PET) وتخطيط موجات الدماغ (EEG) والتصوير الطبي بأشعة جاما وغيرها من الوسائل التي غيّرت من نظرتنا للدماغ، بحيث توصلنا عبر آلاف التجارب المتخصصة، إلى حقائق أساسية عن الدماغ البشري لم يكن بمقدورنا أن نتوصل لها من خارج هذا الصندوق المغلق.

لكن لأن الأجهزة تتطلب معدات خاصة تستأثر بمساحات كبيرة جداً تشبه ما كانت عليه الحواسيب الأول في منتصف القرن الماضي، فمن المستبعد أن نصل قريباً إلى امتلاك الخوذات الصغيرة قارئة الأفكار التي بشرت بها أعمال الخيال العلمي.

وتحاول (داربا) دفع تقنيات المسح العصبي إلى الأمام لتحقق هذا الحلم. وأحد المشاريع التي تدعمها داربا وتقوم عليه شركة في ولاية أوريغون الأمريكية، يسعى إلى تطوير نظام لتصوير الأعصاب باستخدام رقائق ضوئية. تكمن فكرة هذا النظام في زرع حساسات دقيقة في شبكة توضع حول الرأس لتتمكن من التقاط نشاط الدماغ ونقله وإعادة بنائه في وحدة معلومات مستقلة. وهناك مشروع آخر تدعمه داربا يهدف إلى رصد الأعصاب في البيئات التشغيلية بالأشعة تحت الحمراء، ويشمل أيضاً استغلال شرائح شبكات لاسلكية لالتقاط النشاط العصبي وإرساله إلى حاسوب مستقل لمعالجة البيانات. والآن، تملك داربا بالفعل نماذج أولية لخوذات يوجد بها حساسات قادرة على التقاط حالة تدفق الدم في القشرة المخية على عمق 5 سم. ولكن بعيداً عن التفاصيل والمشاريع القائمة، إلى أين وصلت تقنيات مسح الدماغ بخصوص قراءة الأفكار؟

وصلت إلى مدى أبعد مما نتوقع. فمثلاً، قد تمكن العلماء في معهد علوم الإدراك بمعهد ماكس بلانك بألمانيا من التخمين الصحيح إذا ما كان الفرد الخاضع للتجربة على وشك أن يجري عملية حسابية محددة (جمع أو طرح) قبل أن يجريها فعلاً. وهذا عبر تحليل نمط النشاط العصبي باستخدام برامج حاسوبية قائمة على خوارزميات رياضية معقدة (مثل خوارزمية تحليل النمط متعدد المتغيرات MVPA).

وفي جامعة كاليفورنيا ببيركلي تمكن العلماء أثناء دراستهم للإدراك البصري من فك تشفير جزء من نشاط الدماغ ليميِّزوا ما يراه الفرد الخاضع للتجربة، ولو بشكل جزئي. فمثلاً أثناء مشاهدة الفرد لمحادثة بين رجل وامرأة، تستطيع تلك الخوارزميات تحليل النشاط العصبي إلى حد أن هناك «محادثة» و«امرأة». هذه التقنية لفك تشفير النشاط العصبي استخدمت بنجاح كذلك في تجربة أخرى لتخمين الحرف الأبجدي الذي يفكر فيه الفرد الخاضع للتجربة.

لكن هناك عقبات كبرى تجعلنا نشك في أن نتائج تلك التجارب يمكن تعميمها على الحياة خارج المختبرات حيث لا حدود للمتغيرات. وتزيد هذه الشكوك إذا عرفنا أن دقة تخمين الحروف أو الأوجه أو ما إلى ذلك – ما نعده قراءة للأفكار- تحت ظروف هذه التجارب تراوح بين 60 و%70؛ أي أكثر بقليل من احتمال الصدفة المحضة %50.

الحدود
يبدو جلياً أن العقبات العملية ما زالت هائلة، فالأجهزة التي توفر قراءات دقيقة -وتقوم عليها الأبحاث العلمية اليوم- تزن عدة أطنان وتكلف عدة ملايين كذلك. ولكن لنفترض جدلاً أن مشروعاً ما مما ذكر أعلاه نجح في إنتاج خوذة تستطيع تسجيل النشاط الدماغي بدقة زمانية وموضعية متناهية، فهل يمكن حينها أن نقول إننا نستطيع قراءة الأفكار؟ بالطبع لا. فطريقة تسجيل الدماغ للمعلومات تشكل عقبة هي الأخرى. إذ إن كل الخوارزميات التي تخمن النشاط العصبي يتم تدريبها واختبارها على فرد واحد فقط وفي فترة زمنية محدودة. حيث لا تستطيع الخوارزميات تخمين النشاط العصبي لدماغ فرد آخر من العينة لأننا لم ندرب تلك الخوارزميات على أنماط عمل أدمغة سواه. وحتى لو افترضنا أننا سنعمل على ذات الفرد طوال الوقت، فقد لا تستطيع الخوارزميات تخمين نشاط الأعصاب بعد فترة معينة لأن الخلايا نفسها تتغير، وكذا المسارات العصبية بفضل ما يعرف بالمرونة العصبية التي تغير من تركيبة الدماغ مع تراكم الخبرات.

كل هذه الاعتبارات قادت إلى موجة جديدة ضمن علماء الأعصاب تقلل بشكل كبير من آفاق القراءة الحرفية للأفكار. حيث يشير مايكل كازينكا، أحد أشهر علماء الأعصاب اليوم في كتابه «الدماغ الأخلاق» إلى أن علم الأعصاب اليوم لا يملك أي برهان على طريقة تمثيل الأفكار في موجات الدماغ، وبأنه على الرغم من أن الأفكار كلها تتوالد في الدماغ، إلا أننا قد لا نستطيع قراءتها مطلقاً. فعلم الأعصاب يقرأ الدماغ، ولا يقرأ العقل. وهذا ربما يعيدنا عدة قرون إلى الوراء حيث الفرق بين الدماغ والعقل عند ديكارت. وإلى أن تبلغ هذه التجارب والتقنيات مستوى أعلى من الدقة والإتقان، علينا أن نتذكر أن أفضل طريقة لمعرفة أفكار الآخرين هي أن نبادرهم بالسؤال، ونكون على قدر من الصبر والإنسانية اللازمين لأن نفهم بعضنا البعض على نحو أفضل.

Screen Shot 2015-03-09 at 7.35.28 PMالرمز ألفا (α) هو الحرف الأول في الأبجدية الإغريقية القديمة، واسمه ذو جرس لا تخطئه الأذن، شبيه بجرس حرف «الألف» العربي. وهذا التشابه ليس اعتباطياً بل مرده لجذور تاريخية مشتركة تربط الأبجديات البشرية معاً.الاسم «ألفا» إذاً مقترن بالبدايات وبالأوليّة. في علم الحيوان مثلاً يُطلق لقب (الذكر الألفا – Alpha Male) على قائد قطيع الذئاب.. كأقوى وأبرز أفراد القطيع. وهي تسمية استعملت في المجتمعات البشرية لتعبِّر عن الأعلى تحصيلاً والأول ضمن دفعته الدراسية!في مجالات الرياضيات والعلوم، فإن الرمز ألفا حاضر وبقوة ويُعبّر به عن كثير من الثوابت والمصطلحات والقيم. نذكر من ذلك جسيمات ألفا التي تمثلها نواة ذرة الهيليوم المكونة من بروتونين ونيوترونين. هناك أيضاً إشعاع ألفا الصادر عن العناصر الثقيلة كاليورانيوم إذ تتحوَّل إلى عناصر أخرى أخف. في الكيمياء الفيزيائية يعبر الثابت ألفا عن معامل التمدد الحراري للأجسام. وفي الفيزياء البحتة فإن ألفا هو اسم معامل التسارع الزاوي. أما في الرياضيات، فطالما ظهر لنا هذا الرمز كاسم للزاوية المقابلة للضلع «أ»، وهو ذات الاسم الذي يصرّ على استخدامه الطيارون الحربيون للتعبير عن زاوية الانقضاض بمقاتلاتهم. كما وأن ألفا أو «أ» هو جزء من المعادلة العتيدة المعروفة لحل معادلات الدرجة الثانية. فضلاً عن أن له نصيباً بين مصطلحات علم الإحصاء كرمز للدالة المعنوية. ويبقى علم الفلك، ليقدم لنا الرمز ألفا، كقيمة للمطلع المستقيم وهو البعد الزاوي لجرم سماوي عن نقطة أول الاعتدال الربيعي.

أضف تعليق

التعليقات