قرأت كل ما وجدت من روايات للياباني هوراكي موراكامي الذي كان مرشحاً مستحقاً لجائزة نوبل العام الماضي. وعلى الرغم من أن أعماله طويلة صعبة إلا أنني قرأتها غير مرة، و«كافكا على الشاطئ» بين يدي الآن للمرة الثالثة وهي تتجاوز ستمائة صفحة!. ولتعرِّفي إلى هذا الكاتب وعوالمه حكاية طريفة حقاً.
قبل سنوات ثلاث كنت في عمَّان، مشاركاً في مؤتمر. دعاني الصديق إبراهيم نصرالله ومجموعة من المثقفين إلى بيته. سألني أحدهم نسخة من روايتي «رقص» فاعتذرت لأنني لم أحملها معي قط. تدخل فخري صالح، ليقول إنها متوافرة في مكتبة المركز الثقافي. في اليوم التالي قُمنا بجولة في المدينة. زرنا المدرج الروماني وبيت الشعر والقلعة الأموية ثم نزلنا لنشرب الشاي ونرتاح قبيل تناول الغداء في مطعم أبو نواس وسط البلد. سألت عن المكتبة فقيل إنها قريبة، فذهبت بمفردي. سألت عن رواية بعنوان «رقص» لكاتب من السعودية فقال المدير إنها موجودة واستدعى أحد الباعة ليأخذني إلى الدور الثاني. وكم كانت دهشتي كبيرة حين أحضر لي رواية كبيرة الحجم بعنوان «رقص رقص رقص» للكاتب الياباني الذي قرأت عنه ولم أقرأ له شيئاً من قبل. اشتريتها ومعها كافكا.. والغابة النرويجية. وحين وصلت إلى الفندق بدأت القراءة. بضع صفحات فقط وبعدها أدركت أنني أمام واحدة من تلك النصوص التي لا تشبه غيرها ومجال الخلاص من فتنتها. كأعمال دستويفسكي، غارسيا ماركيز، أمين معلوف، أورهان باموق، إبراهيم الكوني وأمثالهم.
ولا شيء محدَّد عن فن الرقص كما توقعت!. فالرواية كلها تأملات ثاقبة للتحولات الرأسمالية التي اكتسحت تقاليد الحياة اليابانية العريقة لتحوُّل الأفراد إلى كائنات فعالة لا يحكم علاقاتها غير منطق الكسب. ولأنها تعاني أشكال الاستلاب والشقاء فلا غرابة أن تظهر غالبية الشخصيات في ذروة النجاح وعلى حافة الخطر في الوقت نفسه.
الراوي كاتب تحقيقات صحافية يقف في منتصف العلاقات لينقل الأخبار والمشاهد، مرة من موقع المراقب الحر النزيه، ومرة من موقع الشخص الطيب الذي يحب الناس ويحاول مساعدة الآخرين دون كبير جدوى!.
وحينما تبدر منه، ككاتب تحقيقات صحافية معتبرة، بعض التساؤلات الفضائحية، يتذكر الرجل المقنع الذي يصل عالم الأحياء بعالم الموتى وطالما نصحه بالحكمة نفسها : «ارقص. يجب أن ترقص. ما دامت الموسيقى تعزف يجب أن ترقص. لا تفكر في السبب. إذا شرعت في التفكير فسوف تتوقف قدماك ونتعطل نحن. وإذا تعطلنا فسوف تتعطل أنت.. ارقص بأقصى ما استطعت من قوة. ارقص حتى يظل كل شيء يدور. إذا فعلت ذلك فلربما استطعنا أن نفعل شيئاً من أجلك»!.
لا يخفى أن الرقص هنا مقولة رمزية تدخل في علاقة طباقية مع الحياة لتدل في الوقت نفسه على الشيء ونقيضه وكأن السخرية من العالم هي ما تبقى للكائن. وهناك أثر خفي لتلك الرؤية المأساوية المرحة التي تخترق أعمال ماركيز، حفيد سرفانتس الأوفى، لكن الأثر الأقوى يظل لكافكا وهرمان هسة. وتظل الروح الخاصة بالكاتب وتراثه البوذي مهيمنة، خاصة حين تحضر الطبيعة وعناصرها الخلاقة بشكل احتفالي يخفِّف من ثقل الحياة، وقد يشكل المصدر الوحيد لمعانيها الأكثر جمالاً. ولمن يحبون فن الرقص وزوربا أقول: اقرأوا «رقص» لا هذه الرواية!.