خمسة عشر عاماً هي عمر التجربة الألمانية مع سنوات العلوم، سنة للفيزياء وأخرى للأحياء وثالثة لعلم الأرض، ورابعة للكيمياء، وأخرى للعلوم الإنسانية، وفي كل مرة تقام عشرات بل مئات الفعاليات، يحضرها جمهور يصل عدده إلى ميلون بل وإلى مليوني شخص، تهدف إلى تعزيز الحوار بين المؤسسات العلمية والمعاهد البحثية من جانب، والمواطنين العاديين من جانب آخر. فقد أدركت ألمانيا أن التفوق العلمي، لا يعني بقاء العلماء في أبراجهم العاجية، بل يجب أن ينزلوا إلى الأسواق، ويخاطبوا الناس على قدر عقولهم، ففعلوا ونجحت التجربة.
البحث العلمي والمباريات الرياضية
على الرغم من أن نسبة مخصصات البحث العلمي في ألمانيا، والبالغة %3 من إجمالي الدخل القومي، تفوق تلك التي في الولايات المتحدة الأمريكية وكثير من الدول الأوروبية، وعلى الرغم من المكانة الرائدة التي تحتلها مراكز الأبحاث الألمانية على مستوى العالم، فإن الجامعات الألمانية شهدت في نهاية الألفية الثانية عزوفاً عن دراسة العلوم الطبيعية وخاصة الفيزياء. الأمر الذي دفع الحكومة الألمانية إلى أن تدق ناقوس الخطر، وتحذِّر من عواقب الهوة الفاصلة بين المجتمع وبين المؤسسات العلمية ومراكز الأبحاث، واعترفت بأن المواطنين لا يهتمون بما يحققه العلماء والباحثون من اكتشافات، كما يهتمون بنتائج المباريات الرياضية.
ونظراً لأن النقد الذاتي هو أحد أهم معالم الشخصية الألمانية، فإن نتائج دراسة أسباب هذه القطيعة بين العلماء والمجتمع كانت قاسية. وتوصلت إلى أن اهتمام العلماء والباحثين انصب على التجارب والأبحاث، وأنهم نسوا أن مئات المليارات التي تأتيهم من ميزانية الدولة، إنما هي أموال دافعي الضرائب، وأن للمجتمع الحق في معرفة ما يفعلونه بهذه الأموال، وأنه ليس من المنتظر أن يدق المواطنون على أبواب المعاهد البحثية، بل يجب على العلماء والباحثين أن يتركوا أبراجهم العاجية، وأن ينزلوا إلى الناس ويتعلموا كيف يتحدثون معهم باللغة التي يفهمونها.
ما حدث بعد ذلك يستحق الاهتمام، لأن الأفكار المبتكرة التي خرجت بها الجهات المشاركة، استطاعت اجتذاب أعداد وصلت إلى مليوني شخص.
سفينة تطوف الموانئ المختلفة، وعلى متنها معارض ومعامل وعلماء وباحثون يستقبلون الزوار، ويتنقلون بهم في أرجاء السفينة العملاقة، ليتعرفوا إلى أهمية هذا العلم أو ذاك لحياتهم اليومية ومستقبلهم، وشاحنة تتحوَّل إلى مسرح أمام المدارس وفي وسط المدينة لتعرض فقرات تجذب الصغير والكبير، وقاعات سينمائية تعرض أفلاماً عادية، لكنها تحتوي على معلومات علمية، تجري مناقشتها قبل الفِلم أو بعده، وليلة العلوم التي تبقى فيها الجامعات مفتوحة طوال الليل، ليقوم الشباب والأطفال بمغامرات في قبو تحت الأرض، وبحضور محاضرات يلقيها أساتذة بلغة سهلة، حتى تظهر أول خيوط النهار، فينصرف الجميع إلى بيوتهم، وهم يحملون انطباعات لا ينسونها.
العلوم الطبيعية
كانت البداية عام 2000م، حين أعلنت جميع مؤسسات البحث العلمي، عن إنشاء مبادرة «الحوار حول العلم»، التي قامت بالتعاون مع وزارة التعليم والبحث العلمي بدعوة كل الجهات الراغبة في المشاركة في (سنة الفيزياء)، فاستجابت الجامعات ومراكز البحث العلمي، ومتاحف وجمعيات علمية ومدارس، وأسهمت مدن ألمانية في ميزانية الفعاليات بملايين الماركات آنذاك.
بين عشية وضحاها أصبحت الفيزياء حديث العامة. فقد أفردت وسائل الإعلام صفحات كاملة للفعاليات التي لم تقتصر على العاصمة القديمة بون والعاصمة الجديدة برلين. بل أقيمت أكثر من 200 فعالية في مختلف المدن، عرف الحاضرون منها أهمية هذا العلم واستطاع العلماء أن يتخلصوا من المفردات الصعبة، والمصطلحات الأجنبية. كما استطاعوا تقديم هذا العلم بصورة شيقة، وأوضحوا المجالات التي تلعب فيها الفيزياء دوراً كبيراً.
ظهرت نتائج هذه السنة بسرعة، وارتفع عدد الطلاب الذين التحقوا بدراسة الفيزياء في الجامعة، من 5500 إلى 7200 طالب وطالبة. وتنفس العلماء الصعداء لأنهم كانوا يخشون أن تواجه بلادهم في المستقبل نقصاً في علماء الفيزياء، القادرين على مواصلة البحث العلمي، الذي هو أحد ركائز الرفاهية الألمانية.
وتوصلت استطلاعات الرأي التي أجرتها المبادرة إلى أن غالبية من حضروا فعاليات هذه السنة العلمية، أدركوا أن تفوق بلادهم لا يقوم على المنتجات الصناعية فحسب، بل على البحث العلمي أيضاً، الذي تعتمد عليه هذه الصناعات في تفوقها، والذي يفتح المجال لزيادة أماكن العمل، ويسهم في عدم انتقال المصانع إلى دول أخرى، حيث تنخفض تكاليف اليد العاملة.
في العام التالي وقع الاختيار على علم الأحياء، وجرى التركيز على الثورة التي أحدثها علم الوراثة، وانعكاسات شفرة الجينوم البشري، والأغذية المعالجة جينياً، والآمال المعقودة على أبحاث علم الوراثة في التوصل إلى علاج لأمراض مستعصية مثل السرطان، وحدود الأبحاث العلمية إذا تعارضت مع القيم الأخلاقية، مثل استنساخ الخلايا البشرية.
لم تقتصر هذه المرة الفعاليات على سفينة الأبحاث، والمعامل والجامعات، بل نزل العلماء إلى محطة قطارات لايبزيغ، وأقاموا معرضاً بعنوان «بين رصيف القطار، وشباك التذاكر»، تناول التطورات التي تشهدها علوم الحياة، والتي لا تقتصر على علم الأحياء، بل تضم كثيراً من التخصصات مثل الطب والكيمياء والزراعة والصيدلة والزراعة والتغذية، حيث يتعاون العلماء من هذه التخصصات على دراسة مختلف مظاهر الحياة، وتتكامل أبحاثهم، لتتوصل إلى نتائج تفيد البشرية.
أدرك الحضور في هذه الفعاليات أن النباتات المعالجة جينياً قد أصبحت تشغل 40 مليون هكتار من الأراضي الزراعية على مستوى العالم، وأن حجم التعامل في مجال التقنية العضوية تجاوز لأول مرة حاجز المليار مارك آنذاك، وتوقعت التقديرات أن يصل عدد اليد العاملة في هذا المجال إلى نصف مليون وظيفة، وكانت هذه البيانات كافية لجذب اهتمام الزوار، الذين رأوا أن المعرفة والعلم مرتبطان مباشرة بحياتهم.
في عام 2002م الذي كان موضوعه علم الأرض، أو الجيولوجيا، أوضح العلماء للجمهور المخاطر التي تتهدَّد الأرض جرَّاء قيام الإنسان بالقضاء على مساحات شاسعة من الغابات، والاستخدام المفرط للأسمدة الكيماوية التي تترسب في المياه الجوفية، وعواقب انبعاث الغازات الضارة وتأثيرها السلبي على المناخ.
تزامنت هذه السنة العلمية مع مؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة في جوهانسبورج، الأمر الذي أسهم في إقناع الجمهور بضرورة الحفاظ على المصادر الطبيعية، حتى تتوافر مقومات الحياة للأجيال المقبلة. وقد أقيمت في هذه السنة 2500 فعالية، حضرها ثلاثة أرباع مليون شخص، الأمر الذي أكد نجاح الجهود في تقريب العلوم والبحث العلمي من المواطنين العاديين.
وفي سنة الكيمياء أمكن للمرة الأولى اجتذاب أكثر من مليون شخص، بفضل اللجوء إلى طرق غير تقليدية مثل استخدام الشاحنة التي حملت اسم عالم الكيمياء الألماني يوستوس فون ليبيج، وكان طول الشاحنة 16.5 متر، وطافت بحوالي خمسين مدينة، بقيت فيها 115 يوماً، ليتحول نصفها إلى مسرح، والنصف الآخر إلى معمل لمشاهدة التجارب العلمية، وأحدث الاكتشافات في أبحاث الكيمياء. وتكرر الأمر على متن سفينة الأبحاث، التي بلغ طولها 105 أمتار، وطافت بموانئ نهر الراين طوال ثلاثة أشهر، وتناولت دور الكيمياء في الحياة.
رد الاعتبار إلى العلوم الإنسانية
بعد عام 2004م الذي حمل عنوان سنة التكنولوجيا، أقامت ألمانيا في العام التالي ما أطلقت عليه «سنة أينشتاين»، حيث لم يقتصر الاهتمام فيها على علم الفيزياء، الذي سبق تناوله من قبل، بل تناولت شخصية العالم الفيزيائي العبقري، واعتلت أقواله المباني، ووضعت وزارة التعليم والبحث العلمي على مقرها عبارته الشهيرة: «من المهم ألا يتوقف الإنسان عن طرح الأسئلة»، كما أبرزت الفعاليات جهوده لإحلال السلام العالمي، ومحاولته وقف الخطط الأمريكية لإلقاء القنبلة النووية على اليابان. وفي عام 2006م جاءت «سنة المعلوماتية»، التي جعلت المواطن يدرك كيف تغلغل الكمبيوتر في حياتنا، بحيث لم يعد ممكناً تصور الحياة بدونه.
بعد سبع سنوات من التركيز على العلوم الطبيعية، أرادت ألمانيا ألا تغفل العلوم الإنسانية، فخصصت لها عام 2007م، وركزت في المقام الأول على اللغة التي بدونها لا توجد علوم، والتي تحفظ التراث. وانطلاقاً من الأبجدية الألمانية التي تضم 26 حرفاً، اختارت كل مؤسسة أحد هذه الحروف، ومصطلحاً يبدأ بالحرف، ليكون شعاراً لها طوال هذه السنة، فاختارت وزارة التعليم والبحث العلمي (م مثل مستقبل)، ووزارة الخارجية (أ مثل أوروبا)، والبرلمان الألماني (د مثل ديمقراطية).
زاد عدد الشركاء في هذه السنة على 300 مؤسسة. وأقيمت أكثر من 1000 فعالية، سعت كلها للتأكيد على أهمية العلوم الإنسانية، وأعلنت الحكومة الألمانية تخصيص ميزانيات إضافية لهذه العلوم، وعملت على إدراجها في برنامج الاتحاد الأوروبي السابع للأبحاث، وعلى تأسيس مركز لأبحاث العلوم الإنسانية، بالتنسيق مع أكبر مؤسسات البحث الألمانية. كما أضافت محوراً جديداً لتمويل الأبحاث يعتمد على الربط بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية.
نجحت هذه السنة في اجتذاب الشباب، من خلال ورش عمل، حيث يتولى الشعراء والأدباء المرموقون إعداد الجيل الجديد، للمشاركة في مسابقات على مستوى ألمانيا، حول أجمل نص لغوي، يكتبه الشاب حول موضوع يتحدد أثناء المسابقة، على ألا يستغرق إلقاؤه أكثر من خمس دقائق، ويحتوي على لغة رصينة وأفكار مبتكرة، سواء كان نصاً نثرياً أو شعرياً، أو حتى على شكل أغنية راب.
وقد أقيم الحفل الختامي لسنوات العلوم الإنسانية في مجمع متاحف «بيرجامون» في العاصمة الألمانية برلين، بحضور كثير من السياسيين والعلماء والباحثين، الذين اعتبروا أن هذه السنة قد استطاعت إعادة الاعتبار إلى هذه العلوم، التي رأوا أنها الجسر الذي يربط الماضي بالحاضر والمستقبل، لأنها تحافظ على التراث الفكري للشعوب، وتنقلها إلى ثقافته الحاضرة، وتجعل المجتمع منفتحاً على المستقبل.
تحديات المستقبل
نجحت سنة الرياضيات عام 2008م في اجتذاب آلاف الطلاب من المدارس والجامعات لأكثر من 30 مسابقة، من بينها الأولمبياد الدولي للرياضيات، علاوة على مشاركتهم في 205 مشاريع للأفكار المبتكرة في الرياضيات. وللمرة الأولى بلغ عدد الطلاب المشاركين في الاختبار السنوي لقياس مستوى الرياضيات في المدارس، والذي يعرف باسم «الكنغر»، حوالي ثلاثة أرباع مليون طالب وطالبة من الصفوف الثالث الابتدائي وحتى الثالث الثانوي.
كانت سنة الرياضيات آخر سنة علمية تقتصر على تخصص بعينه. وحمل عام 2009م، عنوان «البعثة الاستكشافية البحثية في ألمانيا»، سعياً إلى تسليط الضوء على جهود الباحثين الألمان في استكشاف آفاق جديدة في العلوم.
بدأت فعاليات هذه السنة في العاصمة الألمانية برلين في شهر أبريل، بحضور المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي أعطت إشارة انطلاق «قطار المستقبل» الذي بلغ طوله 300 متر. وقامت مؤسسة «ماكس بلانك» بتجهيزه علمياً، بحيث يحصل الزائر على تصور ما سيكون عليه العالم في عام 2020م، وذلك من خلال برامج وأجهزة تفاعلية، وصور توضيحية. وقطع القطار خلال هذه السنة العلمية 15000 كيلو متر، واستمر العرض 216 يوماً، وبلغ عدد زواره 260000 شخص، شاهدوا التحديات التي يواجهها العالم: مثل التغير المناخي، ونقص مصادر البيئة، والتطورات المتعلقة بالتركيبة السكانية، والأبحاث التي يجريها العلماء الألمان، للتوصل إلى حلول خلال السنوات العشر المقبلة.
أما سفينة الأبحاث فقد زارها 90000 شخص، علما أنها زارت 34 مدينة، وشاهد الزوار عائلة افتراضية من عام 2030م، ليتعرف الزوار على أنماط الحياة المتوقعة عندئذٍ. ووجد الزوار في انتظارهم معروضات بطول السفينة، كما قدَّمت لهم المؤسسات العلمية الألمانية 27 جهازاً يوضِّح كيفية إسهام البحث العلمي في جعل أنماط السكن والعمل والعلاج والمواصلات وقضاء وقت الفراغ، مناسبة للأوضاع السائدة في المستقبل.
تناولت السنوات التالية التحديات التي تواجه العالم. ركزت سنة 2010م على الحاجة المتزايدة إلى الطاقة في المستقبل، وضرورة التوصل إلى حلول ناجعة لمصادر الطاقة المتجددة، واستطاعت هذه السنة أن تجتذب مليوني شخص من كافة أرجاء ألمانيا، حضروا حوالي 2000 فعالية. وحمل العام التالي شعار «البحث العلمي من أجل صحتنا»، وأعلنت الوزارة تخصيص 1.4 مليار يورو للأبحاث الطبية في السنوات الأربع المقبلة.
في عام 2012م، كان موضوع السنة العلمية هو «مشروع المستقبل: الأرض». وفي العام التالي التحديات الديموغرافية التي تواجهها ألمانيا، بسبب تراجع أعداد المواليد، وارتفاع متوسط أعمار الأشخاص، وبالتالي تغيّر التركيبة السكانية، والحاجة إلى يد عاملة من الخارج. لذلك حملت الفعاليات شعار «سنعيش أطول، سنصبح أقل عدداً، سنصبح أكثر تنوعاً»، وما يعنيه ذلك من ضرورة تقبل الثقافات الأخرى. وفي عام 2014م كان موضوع السنة العلمية هو «المجتمع الرقمي»، التي أوضحت الفوائد الضخمة التي يجنيها المجتمع من هذه الثورة التقنية. ولكنها تنضوي أيضاً على مخاطر، تتطلب العمل على تأمين المعلومات، وخصوصية الأفراد، مما جعل ألمانيا تقيم دائرة مستقلة لمفوض الحكومة الاتحادية لحماية المعلومات. وأخيراً موضوع العام الحالي هو (مدينة المستقبل).
حديث مع القافلة
في حديث خاص بالقافلة، توضح السيدة كرستينا برونج، وهي مسؤولة الاتصالات الاستراتيجية بوزارة التعليم والبحث العلمي الألمانية، أن الائتلاف الحاكم حالياً قد نص في اتفاقية تشكيل الحكومة، على أن يكون نشر المعرفة حول العلوم، أحد مهام العمل الحكومي، نظراً للتأثير الكبير للعلوم والبحث العلمي على التطورات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والحاجة إلى صيغ جديدة في الحوار، ونشر المعرفة حول العلوم، والعمل على زيادة الاهتمام والتقدير للعلوم والبحث العلمي لدى مختلف الطوائف المجتمعية.
وشددت على أن المؤسسات العلمية أدركت أهمية التواصل مع المجتمع من خلال مختلف القنوات، ومن بينها التعاون مع الإعلاميين، لمخاطبة الرأي العام. وأن العلماء والباحثين لديهم قناعة متزايدة بمسؤوليتهم عن التعريف بأعمالهم، وأن الباحثين بصورة خاصة يستخدمون الصيغ الحديثة في التواصل لتحقيق هذا الهدف بنجاح.
وأشارت إلى أن استطلاعات الرأي التي تجريها مبادرة «الحوار حول العلوم» باستمرار، تؤكد على أن غالبية كبيرة من المواطنين تدرك الأهمية الفائقة للعلوم والبحث العلمي بالنسبة للمجتمع الألماني. ويرون أن الاستثمارات في البحوث الأساسية، هي طريقة جيدة لتوفير مزيد من فرص العمل.
ولم ترغب في ربط النجاح بعدد الحاضرين فحسب، بل رأت أن كل سنة علمية كان لها جمهورها، فالعام الذي ركز على التغيرات الديموغرافية، اجتذب كبار السن بصورة واضحة، لأنها ركزت على الإمكانات التي توفرها هذه التغيرات لهذه الفئة العمرية، في حين كانت السنة التي حملت عنوان (المجتمع الرقمي) موجَّهة إلى الجيل الجديد، الذي يتقن التعامل مع التقنيات الرقمية.
ورداً على سؤال حول الشروط اللازم توافرها في الدولة الراغبة في إقامة سنوات علمية، قالت السيدة برونج، إن كل دول العالم التي تهتم برفع النضج العلمي لدى مواطنيها ومواطناتها، قادرة على أن تقيم سنوات علمية. وحول كيفية استفادة الدول الأخرى من التجربة الألمانية، اعتبرت أن أهم ما فيها هو التأكيد على المشاركة بين أطراف كثيرة لتحقيق هدف مشترك، وإسهام مختلف القطاعات العلمية والبحثية والسياسية والتعليمية والمجتمعية تحت سقف واحد، بحيث تتولى جهة مركزية، تنسيق هذه الجهود، والتحدث باسم الجميع أمام الرأي العام. وكشفت أن وزارة التعليم والبحث العلمي الألمانية، تخصص حالياً ستة ملايين يورو، لكل سنة علمية، وأن بقية الشركاء يتحملون التمويل من ميزانياتهم.
وعما إذا كانت السنوات العلمية ستشهد تكراراً للموضوعات السابقة في المستقبل، أم ستتوقف بعد أن تنتهي الموضوعات، أكدت أنه ما زال هناك كثيرٌ من الموضوعات بالغة الأهمية التي ينبغي تناولها. في إشارة إلى التحديات التي تواجهها البشرية، والتي ترغب الحكومة في أن يدور حوار مجتمعي عنها مع العلماء والباحثين، لرفع الوعي لديهم، ولتستحق ألمانيا اسم «مجتمع المعرفة» عن حق.
ختاماً
يصعب اختزال تجارب خمسة عشر عاماً في صفحات قليلة، ويستحيل تناول الفعاليات التي بلغت عشرات الآلاف. لكن أهم ما يمكن الاستفادة منه في هذه التجربة، هو حاجة المجتمع لفهم التطورات العلمية والبحثية، ليدرك حجم التحديات التي تواجه مستقبله ومستقبل أبنائه وأحفاده. وليعرف أن حماية البيئة، والحفاظ على المصادر الطبيعية، ليس رفاهية، ولا يجب أن ينطلق من الخوف من العقوبات القانونية، بل بناءً على قناعة بأن إهدار هذه المصادر الآن، سيجعل حياة الأجيال المقبلة أشد صعوبة.
والدرس الثاني من هذه التجربة هو أن العلماء والباحثين أيضاً في حاجة إلى المجتمع، الذي يمكن أن يدعم أعمالهم، ويقبل تخصيص مزيد من الميزانيات لهم، حتى لو تسبب ذلك في تخفيض الإنفاق على جوانب أخرى تمس حياته مباشرة. ولا يستغرب مثلاً من مساعدة دولة نائية، تعاني حروباً أهلية، بدلاً من ضخ الأموال في القرية المجاورة، لأن الكوارث الكونية، لا تقف آثارها عند الحدود، ويكفي وباء (الإيبولا) دليلاً على ذلك.
الدرس الثالث هو أن العلوم لم تعد معزولة عن بعضها البعض، وأن حصيلة التعاون بين العلماء والباحثين من تخصصات متعددة، أكثر بكثير من حصيلة مجموع الأبحاث في كل تخصص على حدة، وأن وحدة الهدف يجب أن تحل محل كل رغبة في الظهور، وأن السفينة لا تصل إلى الهدف، إلا إذا أجمع كل من فيها على الاتجاه، الذي يجب أن تسير فيه.
وأخيراً لا يتحقَّق مجتمع المعرفة بأن يتحدث زعماء الدول عنه في خطبهم فحسب، ولا أن يكتب عنه الإعلاميون في صحفهم ومجلاتهم فقط، ولا أن تصدر كتب مبسطة عن المعارف والعلوم، ولا بأن تخصص حصص للمعلومات العامة، ولا بفرض اختبارات معلومات للمتقدمين إلى الوظائف، بل من خلال تصور كامل، ومشروع ضخم يسهم فيه كل طرف على قدر إمكاناته، ليس لأجل الحصول على ميدالية أو وسام، بل لكي يخرج مجتمع بأكمله من ظلام الجهل والتخلف والانشغال بأمور لا قيمة لها، إلى مجتمع المعرفة الذي يفكر في تحديات المستقبل، ويهتم بأخبار جائزة نوبل، أكثر من نتائج بطولة العالم لكرة القدم.