البهجة الموعودة بقدوم يوم العيد، أو باقتراب أي مناسبة حميمة، لا يضاهيها سوى الافتتان بتسلم الهدية أو تقديمها. وهذه المناسبات عديدة في العائلة والمجتمع. فالهدية في هذه الأوقات تشغل المجتمع بأسره، بنقاش حميم حول ما هي الهدية المناسبة لهذا أو ذاك من أفراد العائلة أو الأصدقاء. ويمتد النقاش ليستذكر الناس ما تسلَّموه بأنفسهم في الماضي للرد بالمثل أو حتى الإضافة إليه. ويتداخل كل ذلك مع الإعلان والدعاية والترويج في التلفزيون والصحف وكافة وسائل التواصل الاجتماعي. هكذا، تصبح الهدية شغل المجتمع دون منازع.
نشأتها
الهدية وتبادلها يعنيان كثيراً بما يرمزان إليه في العلاقات الاجتماعية. وعلى الرغم من تبدل طبيعتها وقيمتها وظرف إعطائها، ظلت، كما يقول عالم الأنثروبولوجيا كلود ليفي شتراوس، واحدة من ثلاث عمليات تبادل تحكم العلاقات الإنسانية منذ تكوّنها؛ اللغة حيث نتبادل الكلمات، والقرابة في تبادل الزيجات، والاقتصاد حيث نتبادل الهدايا والأشياء.
لكن تقديم الهدايا تغيَّرَ وتبدَّل خلال التاريخ وعبر المجتمعات المختلفة كثيراً. وذلك بفعل عاملين مهمين، هما: العلاقات الاجتماعية التي باتت تعتمد بدرجات متزايدة، على الصداقة أكثر من اعتمادها على القرابة كما كانت الحال فيما مضى. وسيادة النزعة الاستهلاكية وقيم السوق على ما عداها. فعندما تكون علاقات القُربى هي الأساس فإن فعل الإهداء هو المهم أكثر من الهدية. بينما في الواقع الحالي فإن فعل الإهداء يتساوى بالأهمية مع الهدية نفسها.
في الثقافات القديمة، لم يكن تبادل الهدايا مزاجاً فردياً كما هو سائد اليوم. في ذلك الوقت، كان يشبه التبادلات الاقتصادية والاتفاقيات القانونية التي تجري في السوق بين الشركات والمؤسسات في عصرنا الحالي. ويقول مارسيل ماوس في كتابه الشهير «الهدية» (1950م) إن «اقتصاد تبادل الهدايا هو أقدم نظام اقتصادي وقانوني يمكننا الحصول عليه أو تصوره». كما يُعد عالم الأنثروبولوجيا مارشال ساهلين أن تقديم الهدايا هو أحد الأشكال الأولى لتشكل الاقتصاد وولادة السوق.
ربما كان الدافع الأساس لتقديم هدية ما متأصلاً بالتزامات دينية أو أخلاقية معينة مع نزعة قوية للاعتراف وتثبيت تراتبية اجتماعية ما، وتأكيد العلاقات السلمية بينها. أو ببساطة، ربما يكون الدافع هو توقع العمل بالمثل. يضيف «ماوس»، هذه الدوافع تصبح، مع الوقت، متأصلة بنسيج المجتمع بحيث يصبح الفرد، بحكم ظروف معينة، مضطراً اجتماعياً إلى أن يقدم الهدايا. وبهذا المعنى أيضاً، يصبح تسلّم الهدية ملزماً. ورفضها يعتبر غير اجتماعي وحتى عدائي.
في البدء ينشأ نوع من التوتر عند تقديم الهدية لأن المستلم يُعد قبولها اعترافاً ضمنياً باعتماده على المانح أو بسلطة معينة عليه. لإزالة هذا التوتر، يصبح الرد بالمثل، أو الإهداء بدوره، ملزماً. النكوص عن ذلك، أو الرد بالمثل بطريقة غير كافية، يُعد حينئذ نقصاً للمكانة والاحترام الذاتي. وهكذا عندما يفي المستلم برده يصبح المانح الأساسي ملزماً بالرد من جديد. فتولد وتتأسس عند ذلك دورة قائمة، كما يقول س. د. روبرتس، على «المديونية». كلا الطرفين ينتابهما شعور بأنه لم يفِ تماماً بالتقابلية عند رده بالمثل. هذا الشعور بالمديونية هو ما يقود نظام تبادل الهدايا بأكمله.
التبادل
وهكذا حسب ماوس، فإن تبادل الهدايا هو نظام يحمل في طياته الاستدامة الذاتية ويقوم على التزامات ثلاثة:
1- الالتزام بالعطاء
2– الالتزام بالتسلُّم
3 – الالتزام بالعمل بالمثل
ويقول روبرتس إن التزام العمل بالمثل ليس مهماً فقط لإيجاد تقابلية متوازنة بين الطرفين، بل ما يوازي ذلك أهمية هي الطقوس التي يتم من خلالها تقديم الهدايا لأنها تثبت العلاقات الاجتماعية القائمة، كطقوس مناسبات ميلاد الأشخاص وغيرها كما يوضح بيار بورديو. فالتبادل لم يقتصر على الأشياء المادية، بل كان تبادلاً للمجاملات في احتفالات تتخللها الولائم والطقوس بين العائلات والقبائل والعشائر.
والهدية يجب أن تعكس المناسبة. عندما نقدِّم الهدية لا نقدِّم فقط الشيء بل إننا بحسب ماوس نقدِّم جزءاً من أنفسنا. وتُعد الهدايا رمزاً للعلاقة بين الطرفين يتم من خلالها التواصل دون استعمال اللغة. لهذا يقول راسل بالك من جامعة «يورك» إن الهدية المثالية تتسم بست سمات:
1 – وضوح تعبيرها عن التضحية من قبل المانح
2 – أن تكون أمنية المانح سعادة المتسلِّم
3 – أن تكون الهدية نوعاً من الرفاهية
4 – أن تكون الهدية مناسبة للمتسلِّم
5 – يجب أن يتفاجأ المتسلِّم بالهدية
6 – أن تنجح الهدية في إسعاد المتسلِّم
إذ ذاك يصبح لدينا أربعة عناصر أساسية: المانح والمتسلِّم والمناسبة والهدية. ويقول ج. ف. شاري إن هذه العملية قائمة على الإيثار (أو الغيرية) والتسابقية بمعنى أنها تؤدي إلى تعظيم الاكتفاء الذاتي للمانح من خلال تعظيم متعة المتسلِّم.
بالمقابل، فإن عملية مشاركة المتسلِّم باختيار نوع الهدية محدودة جداً، وتجري عن طريق الصدفة عندما يكون المتسلِّم برفقة المانح حيث يتم الاقتراح بطريقة مواربة. لكن في هذه الحالة تفقد الهدية الرمزية الديناميكية الموصوفة أعلاه.
وعن ردود الفعل، استنتجت دراسة قام بها «د. ب. ووتن» أن متسلِّمي الهدايا يلائمون ردود أفعالهم لتوافق التوقعات الاجتماعية للمانحين، من خلال التوضيح العلني أو الإيحاء أو تعابير الوجه أو كيفية التعاطي مع الهدية. لكن في حالات قليلة، تخفت هذه الدلالات مما يعني أن الهدية مرفوضة وعديمة القيمة.
وهناك أربعة عوامل تؤثر في الحكم الذي يصدره المتسلِّم: العلاقة بين الاثنين، والسياق الذي تقدم فيه، وقيمة الهدية، وتناسبيتها.
وعلى الرغم من كل ذلك، تجدر الإشارة إلى اختلاف بين علماء الأنثروبولوجيا والاقتصاد حول أهمية الهدايا. فبينما يعتقد الأولون أن منح الهدايا هي عملية اجتماعية إيجابية، حيث تحقق عدة أهداف سياسية ودينية ونفسية، كما يقول ماوس، فإن الاقتصاديين يُعدونها هدراً للموارد. وحجتهم أن المانحين يشترون أشياءً يمكن ألاَّ يشتريها المتسلِّمون أنفسهم إذا ترك الأمر لهم، أو أنهم يقيمونها بأقل من سعر السوق.
تاريخها قديم جداً
إن تقديم الهدايا هو دأب الإنسان منذ القدم. فقد تمكنت الأبحاث الأحفورية من اكتشاف مغارة سنة 1991م في جنوب إفريقيا على شاطئ المحيط الهندي تُعرف بمغارة «بلومبوس»، حيث وجدوا داخلها 39 محارة حلزون صغيرة بحجم حبة الحمص، مخرمة بعناية بغرض تقديمها كهدايا تعلق كقلادة. وأثبتت الفحوصات المخبرية أنها تعود إلى خمس وسبعين ألف سنة خلت خلال العصر الحجري الوسيط.
ويقول ألان ووكر وبات شيبمان في كتابهما «البحث عن أصول الإنسان» إنه منذ ذلك التاريخ هناك انفجار للفن والزخرفة والتبرج والوشم كوسائل لإبراز التميز خصوصاً عندما بدأت التجمعات الإنسانية تتكثف. وكذلك كعلامة للانتماء إلى مجموعة أو أخرى مختلفة. ويعلق «راندال وايت» من جامعة نيويورك إنه في هذه المناسبات التبادلية المتقطعة للمعرفة والتكنولوجيا وكذلك للجينات من خلال تبادل الزيجات، ظهر الإهداء كواحد من التعاملات التي ترمز إلى الالتزامات المتبادلة التي بدأت تتأسس وتتقونن.
جاء في ملحمة «جلجامش» السومرية القديمة، التي تعود إلى حوالي أربعة آلاف سنة ما يلي: «فتح جلجامش فاه وأجاب عشتار العظيمة: إذا تزوجتك أية هدايا يمكن أن أقدمها لك بالمقابل؟ أية دهون وأية ملابس لجسمك؟ سأكون فرحاً اذا أعطيتك خبزاً وكل أنواع الطعام الذي يليق… سأفرغ الشعير في صوامعك».
ويصف تشارلز ديكينز في إحدى رواياته الحياة التي تخلو من العطاء والكرم بالعاقرة روحياً. وهذه حال أحد أبطاله «أبينيزر سكروج» الذي يجلس على ثروته متهرباً من العطاء، واصفاً إياه بالفقير الحقيقي وبغير الإنساني. بينما الموظف الفقير «بوب كراتشيت» مستعد لإهداء القليل الذي يملكه حتى إلى صاحب عمله الوضيع، هو الغني الفعلي. لكن في النهاية عندما يقرر «سكروج» العطاء يستعيد إنسانيته.
تقاليد مختلفة لتقديم الهدايا
تختلف تقاليد تقديم الهدايا وتسلمها من مجتمع إلى آخر. ففي الثقافة الصينية واليابانية تكون الصفة الجماعية والاحتفالية في تقديم الهدايا هي الغالبة. بينما في الثقافة اللاتينية والأنكلوساكسونية فإن العلاقات الشخصية هي السائدة.
تقتضي التقاليد الصينية للهدايا الامتناع عن قبول الهدية لثلاث مرات. وذلك لدحض أي شعور يمكن أن يخالج الطرف الآخر بوجود طمع ما. وعلى مانح الهدية في كل مرة أن يواصل بإصرار تقديمها بلطف. ويجب أن تُقدَّم باليدين الاثنتين وأن تكون الهدية ملفوفة بورق خاص. وفي النهاية تقبل الهدية وتوضع جانباً دون أن تفتح أمام المانح تجنباً للحرج الذي يمكن أن يظهر على وجه المقدم إليه. الرموز في الثقافة الصينية مهمة جداً. الألوان والأرقام لها معانٍ خاصة. ففي رأس السنة الصينية يجب أن تُهدى الأموال في مغلف وأن يكون عددها مفرداً. أما في اليابان فإن تقديم الهدية هو شكل من أشكال الفن. فالاحتفالية والمظهر الخارجي يُعدان أهم من قيمة الهدية نفسها. لكن هذا يُعد في المجتمعات الغربية مبالغة غير مفيدة.
وفي البلدان العربية تختلف أشكال التقديم والتسلُّم بشكل كبير وفق البيئات المختلفة حتى على نطاق ضيق. ولكنها عموماً تتراوح ما بين فتح الهدية أمام متسلِّمها، وما بين إحجام هذا عن فعل ذلك أمام المانح. والرائج أيضاً، أن يترافق ذلك مع بعض عبارات المجاملة من قبل المتسلِّم تتضمن لمسة مبالغة في تقديره لقيمة الهدية.
مع توسع العولمة وتشابك العلاقات الدولية على صُعُدٍ عدة، ازداد احتكاك القيم الثقافية المختلفة بعضها مع البعض الآخر. لهذا السبب أنشأ كثير من الشركات أقساماً خاصة لدراسة كيفية التعامل مع ثقافات غريبة عما هو سائد في بلدها المنشأ.
وفي حادثة ذات مغزى أرسلت إحدى الشركات الأمريكية عدداً من الساعات التي توضع على المكاتب كهدايا لزبائنها حول العالم. لكن الذين تسلَّموا هذه الهدايا في شرق آسيا أبدوا كثيراً من الاضطراب. إذ تبين أن كلمة «ساعة» تعني بالصينية شيئاً قريباً من «موت» وهي بذلك ترمز إلى النية بإنهاء العلاقة وليس تعزيزها. وهذا بالطبع ليس غاية الشركة المرسلة التي اضطرت إلى استرجاع هداياها واستبدلت بها أخرى مناسبة.
ترك هذا التبادل الثقافي أيضاً أثراً على طريقة تبادل الهدايا. فتقديم الهدية باليدين الاثنتين لم يكن سائداً في الولايات المتحدة الأمريكية. أما اليوم فإن كثيراً من المهتمين وواضعي قواعد إتيكيت الهدايا في أمريكا يشددون مثلاً على ضرورة تقديم الهدية باليدين الاثنتين. ويشيرون إلى أن المتسلِّم أيضاً عليه مد يديه الاثنتين لأخذها متأثرين بذلك بعادات بلدان شرق آسيا. كذلك فتح الهدية مباشرة عند تسلّمها وأمام أناس آخرين كما هو سائد في الولايات المتحدة وأوروبا، بدأ يتغير متأثراً بثقافات أخرى. كما أن بعض العادات اليابانية كربطات الهدايا البسيطة والأنيقة وتجنب الألوان الحادة، بدأ تأثيرها يتسرب إلى كثير من البلدان الغربية.