بين الكثبان الرملية الباردة شتاءً في ولاية بدية بالمنطقة الشرقية من عُمان، وسماء تُظهر أجمل ما فيها في هدوء وصفاء القرية، تمتدُ بساتين النخيل، وأفلاج وبيوت طينية تحيط بها الرمال من كل جهة، وتنتصر الطبيعة الخضراء في قلبها. هنا ولد الفنان الدكتور سلمان الحجري عام 1978م، وهنا بدأ يكتشف حبه للطبيعة، وتراسل الألوان المختلفة بين اصفرار الرمال واخضرار النخيل وتدرجاتهما المختلفة.
على الرغم من أسفاره الكثيرة، التي طال بعضها لسنوات تطلبتها الدراسة الجامعية في أستراليا والمملكة المتحدة، وعلى الرغم من انفتاحه المبكّر على أحدث وسائل التعبير التشكيلي وأدواته، تبقى بيئة الطفولة في الريف العماني حاضرة في ثنايا أعمال الحجري، دون أن يعني ذلك مجافاة أماكن أخرى أثّرت فيه. فثمة علاقة متجذِّرة في وجدانه بينه وبين بعض الأماكن، تبلورت بشكل جلي في معرضه الثالث الذي أقيم برعاية مؤسَّسة سلطان بن علي العويس الثقافية في مدينة دبي خلال شهر أبريل من العام الجاري ، وكان بعنوان “ضفاف الحلم”، وبدا كأنه تسجيل للأمكنة التي عاش فيها الفنَّان، وتأثَّر بها سواء كانت بيئته المحلية أو تلك المدن التي أقام فيها في فترة دراسته كمدينة سيدني في أستراليا ومدينة لوفبرا في المملكة المتحدة.
من خامات القرية إلى الفن الرقمي
ظهرت موهبة الحجري في الطفولة عندما راح يرسم وينحت على الخامات القليلة المتوفِّرة حوله في القرية. ثم صقل هذه الموهبة بالتخصص في التربية الفنية في جامعة السلطان قابوس التي تخرج فيها عام 2001م، وأتبع ذلك بشهادة ماجستير في التصميم الجرافيكي من “جامعة التكنولوجيا بسيدني” في أستراليا عام 2005م، ثم شهادة الدكتوراة في فلسفة الفن والتصميم الجرافيكي من “جامعة لافبره” البريطانية عام 2013م. ويعمل حالياً أستاذاً مساعداً في الفن والتصميم الجرافيكي بجامعة السلطان قابوس.
لا خامة محدِّدة تحدّ من عمل الحجري. فهو ينادي منذ أكثر من خمسة عشر عاماً بإشراك التقنية في الفن من خلال مقالات عديدة كتبها في هذا الموضوع، وأيضاً من خلال الأعمال الفنية التي نفَّذها باكراً بواسطة برامج مثل “الفوتوشوب” في السنوات الممتدة من 2001 إلى 2007م، وأخرى ببرنامج “الأليستريتور” في الفترة الواقعة بين 2017 و2008م، وهي الأعمال التي تجسَّدت في لوحات الحروفيات وأعمال وطنية أخرى.
وفي السنوات الأخيرة استغل الدكتور الحجري الفنون الرقمية، فرسم بالآيباد واللابتوب والهاتف الذكي. ويصف العمل بهذه الأدوات بأنها “ممارسات تشكيلية حرَّة وبها جوانب إبداعية عالية. فهي ليست مجرد اعتماد على التقنية للتنفيذ، إنما هناك كثير من الخطوات التي تسبق التنفيذ وهي تتطلَّب المعرفة في التكوين ومعرفة عناصر التشكيل كالخطوط والأشكال والألوان وصولاً إلى الحصول على الأسس الفنية كالنغم والتوازن والوحدة والتناسب وغيرها. ويبقى الفنَّان المبدع هو المنتج الرئيس لمثل هذه الأعمال مستعيناً بالتقنية في التنفيذ والإخراج”. وعلى الرغم من أنَّ الحديث عن التقنية الحديثة يوحي باتساع المسافة ما بين الماضي في القرية البسيطة وحاضر الفنانَّ اليوم، فإنَّ معرضه الأخير يقول عكس ذلك.
حين يرتحل المكان
في جوابه عن السؤال “كيف يمكنك أن تنتقل في لوحاتك من رقعة جغرافية محدَّدة إلى فضاءات أخرى؟”، يقول الحجري: “إن المكان يبقى معنا حتى لو ارتحلنا عنه. فالوجود المادي ثانوي، في حين أنَّ للمشاعر والأحاسيس التي ترافق وجودنا في هذا المكان بقاءً وسمواً أكثر”. بعض المدن التي زارها الكاتب مثلاً برزت ذاكرتها وتفاصيلها في لوحاته، لكنَّ مدناً أخرى كمدينة شيكاغو لم تنل منه النصيب نفسه، فعبَّر عنها الفنَّان الحجري بصورة هلامية مشوشة، ولم يرتحل المكان معه. لأنَّ أحاسيسه تجاه هذا المكان بالذات ، لم تنطبع في وجدانه كما تنطبع ذكرى افتراشه الرمال الباردة مع كتاب تحت شجرة عود على منحدر في الريف العماني.
والقاسم المشترك بين القرية التي نشأ فيها وبين المدن التي ارتحل إليها أو تأثَّر بها، يتلخص في حضور الطبيعة في أعماله. الطبيعة التي نشأ في كنفها، والطبيعة التي تساعده على التأمل وتلمس تنسيق الألوان فيها. وعنها يقول الحجري إنها مصدر إلهامه الأول، والثاني هو التراث، والثالث هو البيئة المحيطة به.
*تصوير: نادر دهيش