عين وعدسة

جبل قارة

صخور وكهوف وتاريخ وحكايات

ما من زائر أو عابر سبيل مرّ بالأحساء إلَّا وتوقَّف أمام أبرز مَعْلَم طبيعي فيها: جبل قارة.
فمنذ زمن بعيد، عُرفت كهوفه بأنها كانت ملجأ الهاربين من حر الصيف، يبيتون فيها لبرودتها. وبتشكيلاته الصخرية الفريدة من نوعها وانتصابه بجوار بساتين النخيل والمزارع الخضراء، أصبح قِبلة المصوِّرين الفوتوغرافيين ونبعاً لا ينضب من اللقطات المتنوِّعة. ومؤخراً، حظي هذا الجبل بعملية تطوير تعزِّز مكانته كمعلم سياحي قديم-جديد، ليشدّ إليه مزيداً من الزائرين، ويمنحهم الوقت الكافي لاستطلاع ماضيه وما يكتنزه من حكايات.

على بعد 12 كيلومتراً عن العاصمة الإدارية للأحساء، الهفوف، ينتصب “جبل قارة”، أو القارة كما اشتهر الاسم في العقود الأخيرة، الذي يردّ الجيولوجيون تشكّله إلى ما قبل 2.5 مليون سنة. ويرتفع عن سطح البحر 210 أمتار، ويبلغ طوله نحو 1000 متر من الشمال إلى الجنوب، و800 متر من الشرق إلى الغرب.

يتكوَّن هذا الجبل من صخور رسوبية تميل إلى اللون (الأحمر)، ويشرف على مساحات شاسعة من أشجار النخيل والبساتين، وعدد من القرى أبرزها “القارة” التي اتخذ الجبل اسمه منها. وإضافة إلى القارة، يطل الجبل كذلك على قرى “الدالوة” و”التهيمية” و”التويثير”. ويطلق أهالي هذه الأخيرة على الجبل اسم جبل “أبو حصيص” الذي شهد موقعة الملك عبدالعزيز – يرحمه الله – مع قبيلة العجمان عند دخوله الأحساء في العام 1313هـ.

أما ما صنع شهرة هذا الجبل، والأمر معروف، فهو احتواؤه على اثنتي عشرة مغارة مختلفة الأشكال والأطوال، وتتميّز ببرودة جوّها الداخلي، حيث تبقى الحرارة في حدود 20 درجة مئوية، حتى في أحرّ أيام الصيف عندما تتجاوز الحرارة في خارجها الأربعين درجة مئوية.

مغارات الجبل والقرى الأربع
أرجع العلامة حمد الجاسر – يرحمه الله – في معجمه الجغرافي برودة كهوف جبل قارة إلى وقوعها أسفل الواحة، ما يمنحها تلك الطراوة الملحوظة، فضلاً عن حجب الصخور العظيمة حرارة الشمس، ما يسهم في تبريد التيارات الهوائية الداخلة. وفي أثناء توغلك في المكان وتشعباته والتواءاته، يتفاوت اتساع الممرات والمغارات وضيقها تفاوتاً كبيراً، من طريق يضطرك إلى حشر نفسك بين الصخور الملساء بصعوبة لتعبره إلى طريق آخر قد يصل إلى أمتار عدة في اتساعه، وكذا في الكهوف والمغارات، فبعضها لا تستطيع ولوجه إلَّا منحنياً أو جاثياً على ركبتيك أو حتى زاحفاً، وبعضها الآخر قد يصل اتساعه إلى بهو قصر كبير، مثل “مغارة الناقة” التي تستوعب أكثر من 500 شخص.

ذاكرة أبناء القرى المحيطة بالجبل تمتلئ بكثير من المواقف والحكايات الغريبة التي تأخذ شكل الأساطير
مغارة الناقة تستوعب أكثر من 500 شخص، وكان بعضهم ينام فيها ويضطر إلى التلحُّف بغطاء ثقيل لشدة برودته في أشد الأيام قيظاً

ويلفتنا الإعلامي وابن القارة جعفر عمران في حديثه عن مغارات الجبل، إلى أن ما لا يعرفه السياح والزائرون هو وجود مغارات في القرى الأربع المجاورة للجبل. ففي كل واحدة منها، يوجد عدد من المغارات المعروفة عند أهالي القرية نفسها، ويكون مدخلها من القرية. أما تلك التي هي في قرية “القارة” فهي المغارات الرئيسة الشهيرة. وكلها تحتوي على حكايات ضاربة في عمق تاريخ الجبل، ومنها غار “العيد” وغار “الميهوب” وغار “عزيز”.

ويضيف عمران أنَّ في كل قرية من القرى المحيطة بالجبل، ثمة حكايات كثيرة يرويها الصغار والكبار، وبعضها أقرب إلى الأساطير، تغذيها التشكيلات الصخرية للجبل وتلك القائمة في جواره، إذ إنَّ بعضها يشبه الحيوانات والطيور، وبعضها الآخر يشبه الإنسان، أو غير ذلك مما يغذي خيال البعض، أو يكتفي بأن يكون مادة للتصوير الفوتوغرافي عند البعض الآخر. ويشير محدثنا إلى أن هذا الجبل ومحيطه قد يكون أكثر المواقع الطبيعية في المملكة جذباً للمصوِّرين. وقد تمكَّن عدد كبير منهم من الفوز بجوائز عالمية عن صور تم التقاطها في محيط الجبل ومغاراته وعُرضت عالمياً.

في البحث عن تاريخ الجبل
وأمام جبل قارة يبدو استطلاع تاريخه أمراً مغرياً حتى لأولئك الذين لا يتمتعون بفضول كبير. ومن ينطلق في استطلاع هذا التاريخ من الاسم، سيجد روايات ترده إلى قبيلة جاهلية “حذقت في الرماية” وسُميت “القارة”، لشدة براعة أهلها في رمي السهام. لكن تضاريس الموقع ترجِّح صحة التعريف بأنَّ معنى الاسم هو “جبل صغيرٌ منفردٌ أَسودُ مستديرٌ ملمومٌ طويلٌ في السماءِ”.

وتفيد بعض كتب التاريخ أن جبل قارة كان هو المقصود باسم “المشقّر” الذي ورد قديماً عند المؤرِّخين والرحَّالة.

فقد كتب العلَّامة حمد الجاسر في كتابه “المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية – المنطقة الشرقية – القسم الرابع” أن المؤرِّخين اختلفوا في موضع المُشقّر، فقيل “إنه موضع في الحجاز، ووادٍ في أجأ أحد جبلي طيء، وحصن في البحرين، وهذا أشهرها”.

ويتحدَّث الجاسر عن اختلاف المؤرِّخين في موقع المُشقّر ، فهناك من يَعُده سوقاً في الطائف، وحصناً بين نجران والبحرين، ويذكر في معجمه: “إذا أجملنا أرض البحرين وهي أرض المُشقّر، فهي هجر مدينتها العظمى والعقير والقطيف والأحساء، ومحلّم نهرهم”. وهذا ما توصَّل إليه الباحث عبد الخالق الجنبي في بحث تاريخي صدر في كتاب عام 2004م بعنوان “هَجر وقصباتها الثلاث، المُشقّر – الصفا – محلّم”. حيث يؤكد الجنبي أن القارة سميّت بهذا الاسم لأن جنوبها يلتصق بتلّ كبير الحجم، غريب الشكل والتكوين ذي كهوف متفاوتة الحجم، وفوقه صخرة كبيرة منحوتة بشكل عجيب: إنها ثلاثة رؤوس، أحدها متجه إلى الجنوب وهو يشبه رأس امرأة، وآخر متجه نحو الشمال، وهو يشبه رأس رجل، أما الثالث فهو الوسط بينهما ويشبه رأس أسد في منظره، وهذا الجبل ما زال يُعرف حتى اليوم باسم جبل “رأس القارة” وهو الذي عناه الجغرافيون العرب، وأن حصن المُشقّر هو نفسه هذا التلّ العجيب التكوين، وهو تكوين إلهي، ولا يد للإنسان في تكوينه كما يقول الجنبي في كتابه.

وجاء ذكر المشقّر أيضاً في الجزء الرابع من “معجم ما استعجم” لأبي عبيد البكري: “قال ابن الأعرابي المُشقّر: مدينة عظيمة قديمة، في وسطها قلعة، على قارة تسمى عطالة، وفي أعلاها بئر تثقب القارة، حتى تنتهي إلى الأرض، وتذهب في الأرض. وماء هجر يتحلب إلى هذه البئر في زيادتها”.

ومن تاريخ الجبل الأحدث من ذلك، يروي المعمّرون أن مغارات قارة كانت قديماً موضعاً للتعليم قبل ظهور التعليم النظامي. فكان المتعلمون من كبار السن يجمعون الأطفال في باحات الجبل المكشوفة، أو عند مداخل مغاراته، لتعليمهم قراءة القرآن الكريم.

ومن بين العادات التي كانت رائجة قديماً، يذكر البعض أن أهالي القرى المجاورة للجبل كانوا يدفنون أوراقهم الخاصة في جنبات الجبل. وتأكدت صحة هذه الرواية بعثور البعض على وثائق قيّمة داخل ثنايا هذه المغارات. ومن هؤلاء الشيخ والمؤرِّخ جواد الرمضان، 80 عاماً، الذي عثر على بعضها، واستفاد منها بوصفه مؤرخاً، إذ احتوت على تاريخ بعض الأعلام والأسر الأحسائية.

الاستثمار السياحي يجدِّد شباب الجبل العجوز
حتى عام 2016م، كان الجبل من ضمن مسؤوليات أمانة الأحساء، رغم المحاولات المتكرِّرة من دون جدوى لتسجيله على قائمة الأونيسكو لمواقع التراث الطبيعي العالمي.

فقد قامت مؤخراً “شركة الأحساء للسياحة والترفيه” (أحسانا) بالاستثمار في الجبل لتطويره كمرفق سياحي حديث. وبلغت تكلفة المشاريع السياحية التي نفَّذتها الشركة نحو 100 مليون ريال، وذلك مقابل تقديم منتج سياحي طبيعي وتاريخي وثقافي يعبّر عن قيمة الموقع.

وسمي هذا المشروع “أرض الحضارات”، وتضمَّن تهيئة المغارة الرئيسة وإنارتها وتسوية أرضيتها. كما يضم متحفاً عن تاريخ هجر (الأحساء)، ومسارح متدرجة ومقاهي حديثة ومحلات تجارية. وأسهم ذلك في إقامة فعاليات أسبوعية متنوِّعة بين الأمسيات الثقافية والموسيقى والفنون التشكيلية والعروض البصرية، أضفت حياة جديدة على هذه الصخور الصمّاء القديمة.

*تصوير: زكي غوّاص

 

 

أضف تعليق

التعليقات

Redha Alibrahim

هذا التاريخ والإرث العظيم من جبل القارة ليس سوى جزء من الاحساء, فالأحساء تحمل حضارات وثقافات متعددة ولعل هذا الجبل وحكاياته أهم المعالم الموجودة بتلك الواحة المليئة بالروايات.