رأي ثقافي

أُفول المرجعيات الروائية العربية

من الطبيعي أن يتأثَّر الإبداع سلباً عندما تمر الأمة بمنخفض حضاري. لأنه ليس مجرد عنوان جانبي لروح الأمة وعافيتها، بل هو رحيق خبرتها ومزاجها الحضاري. وإذ لا يُسهم الإنسان العربي في رسم معالم الحضارة الحديثة في إطارها التنموي يصعب تصوُّر حالة أدبية أو فكرية عربية ذات معنى. لأن الإبداع بتجلياته المفهومية والجمالية لا يزدهر إلا بمحايثة مشروع نهضوي تكون الحرية هي جوهره ووقوده. وبالتالي يتعذَّر ظهور مرجعيات إبداعية تُنتج النظريات والسرديات والجماليات والنقديات والمناهج والمصطلحات، وتكون خلاصة ذلك التفكير الجمالي للوجود. وهو ما يعني أن تُستلحق الأمة المنهزمة اليائسة بالأُمم المنتجة القوية. وهو ما يؤدي في نهاية المطاف أيضاً إلى الاستلاب وموت المرجعيات الذاتية، في الوقت الذي يتحوَّل فيه الآخر إلى مرجعية كبرى على كل المستويات المادية واللامادية.

وكما أن لموت المرجعيات أسبابه وأعراضه، فله تبعاته أيضاً. حيث تشكّل الانتكاسة الحضارية السبب الأهم لذلك الأفول الإبداعي. وهو ما يتبدى في الوقت نفسه كعرض من أعراض المرض الثقافي العام. وفي هذا الصدد، يمكن التمثيل بالرواية التي شكَّل نجيب محفوظ مرجعيتها العربية على أكثر من مستوى. فهو من أدخلها إلى النادي العالمي في سابقة يتيمة. ومنذها لم يتحرك الخطاب الروائي أي خطوة في هذا الاتجاه. أما نجيب محفوظ نفسه فلم يشكِّل مرجعية لأنه تأهَّل لجائزة نوبل وحسب، ولكن لأنه كان يمتلك مشروعه العريض المتنوِّع. وقد أثَّر في أجيال لاحقة من الروائيين إلى أن بدأت الترجمات تتوالى وتتكتف، وهنا حدث الانقلاب على المحفوظية. وهذا هو أحد أهم الأسباب في زحزحة المرجعيات. حيث تشكِّل الترجمة اليوم بكثافتها وتنوِّعها رافداً مهماً من روافد الإبدال الثقافي.

ومن يتأمَّل سوق الرواية اليوم سيجد أنَّ الروايات المترجمة هي التي تستأثر باهتمام القارئ. وبالتالي فهي التي تدفع بالناشر إلى البحث عن مزيد. وهو اتجاه يتحرَّك بشكل تصاعدي لتعزيز ميثاق قراءة روايات الآخر. التي لا يمكن التعامل معها كمنتجات أدبية صرفة، بل كمنظومة قيم وأفكار ومعارف وسلوكيات وممارسات وعادات وتقاليد وطقوس حياتية. الأمر الذي يعني أنها ستكون مجرة تأثير لها سطوتها على تفكير ومزاج الإنسان العربي. وفي المقابل سيمتد أثرها الفني على الروائي العربي. حيث يبدو أثر غابريل غارثيا ماركيز ساطياً على عدد من الروائيين العرب. وذلك ضمن موجة الاندفاع نحو الواقعية السحرية. في الوقت الذي لم تتمكن فيه الرواية العربية من تثبيت مواقعها في أطلس الرواية العالمية بطراز كتابي يمكن أن يكون مرجعية.

الرواية وإن كانت تُكتب من منطلقات فردانية إلا أنها تظل جزءاً من التاريخ الوجداني للأمة. وبالتالي فإن الاستجابة الواسعة على مستوى القراءة والكتابة لما يُنتج في دوائر الآخر سيكون له ارتداداته في الحقلين: الفني والقيمي. فالانقياد إلى الآخر وتحويله إلى قيمة استحواذية كبرى لا يتم على مستوى الشكل فقط، بل يتجاوز ذلك إلى جوهر منظومة القيم. وهذا مآل ماثل بالفعل بعد مقدمات ظهرت في نهاية القرن الماضي. حيث كان عبدالرحمن منيف وغسان كنفاني والطيب صالح وغيرهم من رموز المرحلة الوسيطة للرواية العربية، يشكلون مرجعيات روائية تحوَّلت مع تراكم القراءات والسجالات إلى مرجعيات قيمية.

ولكن ذلك الجيل الذهبي من الروائيين لم يعُد اليوم يشكِّل أي شيء في وعي القارئ والروائي الجديد مقابل مهبّات هوراكي موراكامي وإليف شفق وحتى باولو كويلو. وهكذا تحوَّلت الرواية العربية الجديدة إلى منصة عريضة للإبدال الثقافي وتحطيم المرجعيات بكافة صورها. فهي ما زالت تستدعي بعض القضايا التي تعني الإنسان العربي ولكنها لا تجادلها إلَّا من منطلق الهزيمة، وبمنزع فرداني لا يراعي الغائية التاريخية. وهذا هو ما يفسر وعي القارئ المتعاظم بالأسماء الروائية العالمية وانصرافه عن الجيل الجديد من الروائيين العرب.

أضف تعليق

التعليقات

مجهولة

الرويات العالمية لم يلتفت لها وقت صدورها وهكذا بعض روايات ايامنا هذه !
والان الكل يعكف على قرائتها ويستمتع بها

لما يموتوا كتاب اليوم ستقرأ
للاسف التاريخ يعيد نفسه