العلم خيال

السايبورج

مستقبل تعزيز جسم الإنسان بمكونات آلية

عندما دخل د. فيشر على المريض الروسي، وجد أن رأسه مُغطى بقلنسوة حريرية سوداء، وعندما أزالها وجد أنَّ هناك رأساً فضيَّة تقبع تحتها. سنكتشف أن هناك جهاز (كمبيوتر مجازاً) تم إدخاله لرأس المريض، فجعله شخصاً عبقرياً.

وكان ذلك في قصة “أبرع رجل في العالم” (The Ablest Man in the World) للكاتب البريطاني إدوارد بيج ميتشيل، وهي القصة التي نُشرت منذ أكثر من قرن وستة عقو، في عام 1852م تحديداً، وكانت واحدة من أوائل قصص الخيال العلمي التي تناقش مسألة تحسين خصائص بشرية بذلك العمق بأجهزة صناعية.

وفي واحدة من أعظم قصص كاتب الخيال العلمي الأمريكي الشهير أيزك أسيموف، وهي قصة “رجل المئتي عام” (Bicentennial Man 1976) التي تحوَّلت لفِلم رائع كان بطله روبن ويليامز، قام البعض بعمل حملة تهدف إلى إقرار قانون بعدم سداد ديون أي شخص له قلب صناعي، باعتبار أنّ هذا يجعله روبوت وينزع عنه آدميته.

وعلى الرغم من غرابة الفكرة، كما في معظم قصص أسيموف التي تتعلَّق بالآليين التي تناقش أفكاراً فلسفية عميقة، إلا أنها أظهرت أن فكرة وجود أجزاء صناعية في جسم الإنسان ربما تكون ذات نتيجة أعمق مما تبدو عليه.

فهناك أسئلة فلسفية كبيرة جداً قد تنجم عن تلك الفكرة. فمثلاً ما هو الجزء الذي لو استبدلناه من الشخص لم يُصبح آدمياً؟ هل هو العقل مثلاً؟ وهذا يقود إلى السؤال الأكبر: ما الذي يجعل البشريّ بشرياً؟

مصطلح السايبورج
في عام 1960م، وفي مجلة (Astronautics)، ظهرت مقالة بعنوان “السايبورج والفضاء” (Cyborgs and Space) لعالِمين هما مانفريد كلاينز وناثان كلاين. وكان المقال يتحدَّث عن تحسين خصائص الجسم البشري بواسطة إضافات وأعضاء صناعية ليستطيع العمل في بيئة الفضاء بكفاءة أكبر.

وفي هذا المقال تمَّ سك مصطلح “سايبورج” (Cyborg) لأوّل مرَّة، الذي تم استخدامه على مدى عقود تالية حتى يومنا هذا. والمصطلح بوجه عام يُعرف بأنّه الشخص الذي يحتوي جسده أجزاءً صناعية.

ماذا لو تم تعديل خصائص الجسد البشري لتتحمَّل ظروف الفضاء القاسية؟

قبل أي شيء، فالسايبورج من ناحية التعريف الأساسي موجود بيننا، فهناك آلاف الناس استفادت بالفعل من التقنيات في تحسين أو تعويض تلف في جزء أو عضو من أعضاء الجسد، مثل زراعةأجهزة تنظيم ضربات القلب مثلاً، وزراعات قوقعة الأذن.

إذاً، لأيّ حدٍّ وصلت تقنياتنا في ذلك المضمار؟ هل الأجزاء الصناعية أصبحت جيدة بشكل يسمح لنا أن نقول إنَّ قُدرات الإنسان تحسَّنت بالفعل، أو إلى حدِّ استخدامها في الفضاء كما رغب العالمان اللذان سكّا المصطلح؟ وهل نستطيع تحقيق حُلم إدوارد ميتشل بزرع كمبيوتر في دماغ الشخص لتحسين الخصائص العقلية له؟

الفضاء، التحدي المستقبلي الأكبر
الفضاء.. دائماً كان المستقبل مقترناً بذكر الفضاء، والسفر بين الكواكب وتقنياته، ومستعمرات الفضاء وغيرها. وبالطبع كان مستقبل السايبورج متعلقاً بمستقبل الفضاء بشكل ما.

الفضاء قاسٍ.. تسعون ثانية فقط في الفضاء كفيلة بقتل أي بشري. درجات الحرارة تصل إلى 270 درجة مئوية تحت الصفر، لا يوجد أكسجين للتنفس، والإشعاع مُهلك.

ماذا لو تم تعديل خصائص الجسد البشري لتتحمَّل تلك الظروف القاسية؟

لو كنتَ تظنّ أن تعديل خصائص الجسد البشري بحيث يستطيع تحمل بيئة الفضاء القاسية أمر مستحيل، فأنت على الأرجح مخطئ، فهناك كثير من الأبحاث التي نُشرت بالفعل توضِّح الإمكانية العلمية لحدوث ذلك. منها البحث الذي أشرنا إليه آنفاً من ستينيات القرن الماضي.

الاستيقاظ مثلاً عامل مهم جداً في تلك الرحلات الحرجة، وباستخدام عقاقير نستطيع الحفاظ على انتباه روَّاد الفضاء المستقبليين لأكبر عدد من الساعات في اليوم.

الأكسجين مشكلته كبيرة، ولكن يُقترح أن يتم استخدام ما يسمى بخلية وقود عكسية (An (inverse fuel cell، وظيفتها أن تأخذ غاز ثاني أكسيد الكربون الخارج، وتقوم بتحليله لمكوناته ومنها الأكسجين الذي يستفيد منه الجسم، ثم بعد ذلك تتخلَّص من الكربون. هذا النظام يمكن يعمل بواسطة طاقة شمسية أو نووية، ويمكن أن نستبدل به الرئة، ولن يحتاج رائد الفضاء ساعتها لأن يتنفس بالشكل المعتاد.

الحماية من الأشعة القاتلة في الفضاء يمكن تحقيقها بزرع مستشعرات في جسم الإنسان، بحيث تتحسَّس مستوى الإشعاع، وعند زيادة مستوى الإشعاع عن حدٍّ معيَّن، تقوم بضخ عقاقير تحمي من ذلك الإشعاع، وبالفعل أجريت تجارب على عدة عقاقير يمكن أن تحمي من الإشعاع.

ما ذكرنا من إمكانات هي جزء صغير جداً من الحلول المقترحة لمشكلات التواجد في الفضاء، وهناك غيرها العشرات من التقنيات التي ربما تكون في أجساد أحفاد أحفادنا عندما يستعمرون الفضاء.

الرأس والدماغ، المحرِّك الأكبر

تعديل خصائص الدماغ شيء جدير بأن يُبذل فيه مجهود بحثي كبير جداً كما يُفعل الآن. تخيَّل مثلاً أجهزة تُزرع في الدماغ تعطي لنا إمكانات موسعة في الذاكرة والذكاء مثلاً.

تعديل خصائص الدماغ شيء جدير بأن يُبذل فيه مجهود بحثي كبير جداً كما يُفعل الآن

لو عدنا للخلف قليلاً (تحديداً في عام 2004م) سنجد مثالاً شهيراً لشخص تمت زراعة هوائي في رأسه. كان هذا الشخص (وهو البريطاني نيل هاربيسون) يعاني من عمى ألوان، وساعده هذا الهوائي على أن يشعر بتلك الألوان، فالهوائي يقوم بتحويل الألوان المختلفة إلى ترددات صوتية. وبذلك يستطيع هاربيسون أن “يسمع” الألوان.

وتمَّ اعتبار هاربيسون رسمياً سايبورج من قِبل حكومة بريطانيا، بعد أن سُمح له بالتواجد بصورته بعد تركيب الهوائي على رأسه في جواز سفره. ومغزى هذا أن الجهاز يُعدُّ امتداداً لجسده (إذ لو لم يكن امتداداً لجسده لما سُمح له بالتواجد على الباسبور بتلك الصورة).

ومن شهور قليلة، أعلن إلون ماسك (مؤسس شركتي سبيس إكس، وتسلا، العملاقتين التقنيتين) عن تقنية تحت التطوير، وهي عبارة عن كمبيوتر صغير جداً يُزرع في الدماغ يُحسن من القدرات العقلية البشرية. وذلك عن طريق شركته تسلا.

وإلون ماسك نفسه، أعلن أيضاً عن تقنية متمثلة في إلكترودات صغيرة جداً تُزرع في الدماغ لتوسيع الذاكرة، وتحميل الأفكار من وإلى الدماغ. وأنشأ الرجل لتلك الأغراض شركة سمَّاها (Neuralink). واستقطب إليها أكاديميين كبار للعمل على تحقيق هذا الغرض.

إذاً، كان هذا هو السايبورج باختصار. كعادة كثير من التقنيات، ظهر في قصص الخيال العلمي، لتتطوَّر تقنياته لما رأينا عليه هاربيسون، لتذهب في المستقبل القريب لتقنيات الفضاء التي تحدثنا عنها، إضافة لتقنيات إلون ماسك (مُحقق أحلام البشرية)، انتهاء بمستقبل لا نعرف ما الذي سيرى أحفادنا فيه.

إنها الثلاثية الناجحة التي جعلت العالم كما نراه اليوم.. الخيال العلمي، والعلم، والتقنية.

 

أضف تعليق

التعليقات