علوم

الصحراء لا تحتاج علاجاً

قاوموا التصحُّر لكن لا تقتلوا الصحراء

حين يتعلَّق الأمر بما تعنيه بعض الكلمات، نجد أن بعض الألفاظ التي نستخدمها عادة ما تأتي محمَّلة أو مثقلة بما نلقيه نحن عليها من معانٍ. وما يحدث مع كلمة “التصحُّر” بالذات أن أغلب الناس يربطها بشكل واعٍ أو لا واعٍ مع كلمة الصحراء. وهو ربط خطأ بطبيعة الحال. فالصحراء منظومة بيئيّة كاملة متكاملة، تحتوي كل العناصر التي تشكِّل أي منظومة بيئيِّة في العالم من ماء ونباتات وحيوانات وحشرات وغيرها.

التصحّر هو ما يحدث للأرض غالباً بسبب تدخُّل أنانية وغرور الإنسان، حين يقوم بتطهير عرقي للزرع والضرع في بقعة ما. هذا الربط الفج بين الصحراء والتصحّر يجعل من الصحراء بالضرورة، عيباً خلقياً على وجه الأرض نحتاج كبشر أن نصلحه ونحوِّله إلى.. غابة! وربما هذا الربط هو ما بعث بأحد الأساتذة -بعد انتهاء مؤتمر شاركت فيه مؤخراً – إلى أن يوضِّح للحضور الفرق في التعريف بين الصحراء والتصحّر! هذا ونحن في مؤتمر مختص بالحديث عن هذه القضية، وكل الحضور اختصاصيون في هذا المجال، فما بالنا برجل الشارع العادي؟ كيف سيفسِّر كلمة مثل هذه؟ لذلك بات من الضروري تغيير الكلمة واستبدالها بمصطلح تدهور الأراضي (خاصة أنها تُعدُّ نوعاً من أنواع تدهور الأراضي بالفعل) أو مصطلح آخر، لا يكون له ربط سلبي بكلمة صحراء!

الدعوات إلى زراعة الصحراء
لهذا السبب، ولأسباب أخرى أيضاً (منها انقطاعنا عن موروثنا الطبيعي وما تعنيه الأرض لنا)، تتزايد في الكويت مثلاً، وبشكل كبير، تلك الأصوات التي تنادي بزرع مليون نخلة أو مليون سدرة أو مليون شجرة أو مليون من شيء ما.. حتى نتخلَّص من العار الذي يدعى صحراء! من دون أي اعتبار لأي أبعاد منطقية أخرى.

فيا ترى، كم ستؤثِّر تلك الغابات المفتعلة على صحة الإنسان؟ وفي صدر مَنْ سيدخل غبار طلعها؟ ما طبيعة تفاعل بيئتك مع هذه الكميات من الأشجار الدخيلة؟ ينسى دعاة تغيير الصحراء أننا في الجزيرة العربية نُعدُّ من أفقر مناطق العالم بالمياه، بعد أن نحرق النفط لتشغيل مصانع تحلية المياه. فمن أين ستكون لنا القدرة لنسقي هذا الكم من النباتات حتى لا تموت؟ أين الاستدامة؟ ولا أحد يسأل هذه الأسئلة. يؤكِّد موقع المنظمة الأمريكية للمياه أن %97 من المياه على الأرض مالحة وأن الـ %3 المتبقية منها توجد غالباً على هيئة جليد أو تحت الأرض وغيره، وما يستطيع الإنسان أن يستهلكه للشرب يقل عن %1 فقط للعالم أجمع!

حين تحاول إدخال أي نبات إلى بيئة جديدة، عليك أن تدرس هذا النبات وكل ما يحيط به وطبيعة تفاعله معها ومعنا كبشر. وذلك برصده لمدة تتراوح ما بين 10 و15 سنة قبل أن تدخله إلى أي منطقة جديدة

علمياً، حين تحاول إدخال أي نبات إلى بيئة جديدة ما، عليك أن تدرس هذا النبات وكل ما يحيط به من نباتات وحيوانات وكائنات دقيقة وحشرات وفطريات، وطبيعة تفاعله معها ومعنا كبشر. وذلك برصده لمدة تتراوح ما بين عشر وخمس عشرة سنة قبل أن تدخله إلى أي منطقة جديدة، خاصة في غياب العدو الطبيعي له، حتى تضمن أنه لن يؤثِّر سلباً على أي مما ذكرناه سابقاً. وتفادياً لحدوث أي مصائب بيئية لا تُعرف نتائجها إلَّا لاحقاً.

والأمر نفسه ينطبق على الأشجار أو النباتات التي تضمّها حدود الجزيرة العربية، وذلك ببساطة لاختلاف النظم البيئية التي أتت منها كل شجرة عن تلك التي ستُدخل إليها. بمعنى ألَّا أُدخل – على سبيل المثال – شجرة لا توجد إلا في حدود المملكة العربية السعودية إلى الكويت فقط لأنَّ الدولتين تقعان ضمن الحدود الجغرافية للجزيرة العربية، فما بالك لو أتيت بشجرة ليست من ضمن حدود الجزيرة العربية أساساً؟

مخاطر النباتات الغريبة
عانت دول كثيرة مما يُعرف بالكائنات الغريبة الغازية، ببساطة لأنَّ النباتات (أو أي كائنات أخرى) بإمكانها الهروب وإكثار نفسها بنفسها، وهو ما حدث مع شجرة “غاف المسكيت” (Prosopis juliflora) في المملكة العربية السعودية التي تسبَّبت في الإصابة بالحساسية والربو، كما أن هذه الشجرة قادرة على الانتشار بشكل كبير وسريع، ومن الصعب إزالتها. والأمر نفسه يحدث في سلطنة عمان مع الشجرة نفسها. فقد تمَّ إدخال هذا النوع منذ حوالي قرن، لمحاربة “التصحّر”، غير أنه تبيَّن لاحقاً أنه يقضي على نباتات المنطقة، ويخترق أنابيب الصرف الصحي، وتؤدي ثماره إلى تساقط أسنان الحيوانات وإصابتها بالهزال، وغير ذلك من المشكلات التي تواجهها هذه الدول بسبب هذه الشجرة.

ومن ناحية أخرى ففي الكويت على سبيل المثال، تم إدخال شجرة لم تستطع أن تهرب وأن تكاثر نفسها بنفسها، ولكنها سبَّبت بعضاً من المشكلات المذكورة سابقاً وهي شجرة “الكونوكاربس” (Conocarpus lancifolius). صحيح أنه لم يقم أحد – على حد علمي – بدراسة هذا النبات وأضراره علمياً، إلَّا أن تقارير الأضرار الكثيرة التي تلحق بالبنى التحتية لبعض البيوت لا يمكن تجاهلها أبداً. كما أن الملاحظات الأولية تقول إنه نبات لا يسمح بنمو أي نبات آخر بجانبه، ولا تعشش عليه الطيور (لاحظت وجود عشٍّ أو اثنين في الفترة الأخيرة). وهو نبات أحلناه نحن قسراً إلى نبات غازي حين زرعناه بكميات مهولة في الشوارع والحدائق. وهو أمر أعرف أن بعض دول الخليج الأخرى تعاني منه أيضاً.

المحافظة على الفطري المحلِّي
لكل ما تقدَّم، من الضروري أن ندرس ونحافظ على النباتات الفطرية الخاصة بكل منطقة. ومن هذا المنطلق، قام الدكتور علي الدوسري من معهد الكويت للأبحاث العلمية بدراسة كفاءة بعض النباتات الفطرية، وأثبت قدرة بعضها على مسك التربة بشكل فعّال. وعلى سبيل المثال، فإن نباتاً مثل “العوسج” قادر على مسك 5.5 متر مكعب من التراب، ونبات آخر مثل “العرفج” قادر على مسك خمسة أمتار مكعبة منه، بالإضافة إلى أنَّ لهاتين النبتتين شكلاً جميلاً كشجيرات، ولا تستهلكان ماءً كثيراً، ولهما أعداؤهما الطبيعيون، مما يحفظ لهم توازنهم الطبيعي، وتأقلمهما مع البيئة وأهلها. والأهم من كل هذا أن نباتات البيئة نفسها هي الأقدر على مواجهة التغيرات المناخية التي تواجه العالم اليوم.

لذلك، تقوم الكويت اليوم بأكبر مشروع من نوعه لإعادة تأهيل للأراضي في العالم، وذلك بزراعة 35 مليون شتلة من النباتات الفطرية في خمس محميات موزعة على مساحات الكويت، بحيث ستتم زراعة ما مساحته 79.2 كم مربع بالعرفج والأرطى والرمث والألبانة والثمام وغيرها من النباتات، حتى تستعيد الأرض المتدهورة صحتها مرة أخرى. وعلى الرغم من هذه النباتات تنتمي إلى البيئة المحلية، فمن الواجب دراسة تأثير هذا الكم الكبير جداً من هذه النباتات على الإنسان، ومتابعة ورصد طبيعة تعامل البيئة مع هذه التدخلات، في محاولة لإعادة توازنها الطبيعي لها كما كان من قبل. ولعل وعسى أن يندمل الجرح الموجود على جلد الأرض. ولكن ما هو جلد الأرض؟

جلد الأرض الجريح
جلد الأرض هو الاسم الذي أطلقه متحف التاريخ الطبيعي في الولايات المتحدة الأمريكية على طبقة التربة التي تحيط بالعالم. ولَك أن تتخيَّل إن جرحت ذلك الجلد متى سيُشفى؟ كما قامت منظمة الزراعة والغذاء في الأمم المتحدة باعتبار عام 2015م “السنة العالمية للتربة”، وذلك لتوعية الناس بأهميتها، لأنَّ التراب يُعدُّ بشكل أو بآخر كائناً حياً. إذ إنه يعج بالكائنات الدقيقة الحية من فطريات وبكتيريا.

غير أن جلد الأرض مصاب بجرح غائر! فقد بتنا كبشر نستهلك الطبقة العلوية للتربة من 10 إلى 40 مرَّة أسرع من قدرة الطبيعة على التجدد، ومواكبة استهلاكنا الجشع لجهدها. ويقدَّر العلماء الوقت الذي يستغرقه تكوّن تلك الطبقة التي لا تتعدى سماكتها 3 – 5سم، ما بين مئة سنة وعشرة آلاف سنة! بحيث إن الفترة الزمنية لتكوّنها تتناسب عكسياً مع نسبة المياه في المنطقة. وهذه الطبقة تتكوَّن عادة من التربة القادرة على حضن البذور، وذلك لاحتوائها على نسبة هواء ورطوبة وغذاء مناسبين. ويقول البروفيسور جون كروفورد من جامعة سيدني إنَّ العالم خسر بالفعل أكثر من %40 من هذه التربة (وهناك من العلماء من يقول أكثر من %50). فقد تآكلت طبقة التربة هذه إلى الحد الذي سنفقد فيه القدرة على زراعة أي شيء بعد أقل من ستين سنة من الآن! يقول ڤولكريت إنغلزمان الناشط في منظمة الزراعة والغذاء بالأمم المتحدة: “بسبب الزراعة المكثّفة، بتنا نخسر تلك الطبقة بما يعادل مساحة 30 ملعب كرة قدم، كل دقيقة!

تنفِّذ الكويت اليوم أكبر مشروع من نوعه لإعادة تأهيل الأراضي في العالم، وذلك بزراعة 35 مليون شتلة من النباتات الفطرية في خمس محميات موزَّعة على مساحات الكويت

وإلى ذلك، يضيف المحامي والناشط البيئي الأمريكي جيمس غوستاف سبث، متحدثاً عن المصائب البيئية بشكل عام، فيقول:  “كنت أظن أن أكبر المشكلات البيئية هي في ضياع التنوُّع الأحيائي والتغيُّر المناخي وضياع المنظومات البيئية. كنت أظن أننا بعد 30 سنة من التقدُّم في هذا المجال، بتنا نستطيع أن نصنع تغييراً، ولكني كنت مخطئاً. إن أكبر مشكلاتنا البيئية هي الأنانية والطمع واللامبالاة، نحن بحاجة لنقلة ثقافية وروحانية حتى نستطيع أن نواجه هذه المشكلات، ونحن كعلماء لا نعرف كيف ندفع بهذا التحوُّل”.

وحقيقة الأمر أن ما قاله سبث يكشف مرَّة أخرى أصل المشكلة. فالمشكلة هي نحن! إنَّ نظرتنا الفوقية ومركزيتنا التي تحوم حولها الخلائق، بالإضافة إلى انفصامنا في ما يتعلَّق بمن نكون وكيف نعيش، ينصبُّ مباشرة في طبيعة علاقتنا ببعضنا بعضاً وينعكس على البيئة وكيفية حفاظنا على تراثنا الطبيعي. إننا كبشر جزء من منظومة بيئية متكاملة. لسنا في أعلاها أو أسفلها.

فنحن ننتهك الأرض وما عليها، ثم نزيد الأمر سوءاً بتسميتها تسمية خطأ، ثم نتَّهمها بالتقصير. لذلك دعونا نسمي الأشياء بأسمائها. فاعلم يا من تطالب بتغيير بيئتك أن الله خلقك هنا وخلق بقعة الأرض هذه بهذه الطبيعة، والعلم يقول لك إن الجزيرة العربية لها موقع جغرافي معيَّن من الأرض، يفرض عليها هذه الطبيعة. لذلك حاول أن تتفاعل مع أرضك وأن تحبها كما هي، وبالكيفية التي هي عليها، لا بالكيفية التي تريدها أن تكون عليها.

 

 

أضف تعليق

التعليقات

محمد

مقال راقي، رائع ومكتوب بدقة وتمعن وفيه الكم من المعلومات التي لو فهمها القارئ لغير مفهومه تجاه بيئتنا البرية. أتمنى أن يكون هناك تفاعل مع الموضوع لأنه فعلا صحراء الكويت أصبحت ممر لتخريب البيئة وغيره.

سلوي العريفان

مقال ممتاز جدا أعطي تشخيصا حيويا للمشكلة و توجهات الحل و دق ناقوس الخطر لمباشرة وضع الحلول لهذه المشكلة

علي الدوسري

تفاجأنا الدكتورة سارة بمقالات ومحاضرات نستفيد منها على الدوام. نعم لنتعايش مع الصحراء بمكوناتها الفطرية لماذا يجب أن نغيرها إلى شئ آخر؟ مقال جميل وضع النقاط على الحروف شكراً جزيلاً.

فهد ابو فيصل

السلام عليكم ورحمة الله
ممكن ان يزرع من جوانب الطرق بأشجار السدر لقوة تحمله
وسقايته بمياه الصرف الصحي بعد المعالجه من الشوائب
وزراعة حدائق كبيره في ضواحي المدن شجر دون ثيل وسقايته بمياه الصرف

فهد ابو فيصل

وهذا السدر على جنبات الطرق شكل جمالي وللتخلص من مياه الصرف المعالجه وظل لمن اراد ان يرتاح من طول السفر
ارجوا الرد ان امكن ولكم جزيل الشكر