أقول شعراً

الموزع الذي لا يدري

الشاعر حسن الربيح

هل ما يقوم به الشاعر هو ضرب من الكتابة والتَّجريب فقط؟ بامتلاكه تقنيات معيَّنة وقدرة على السحر بالكلمات والصور. أم هو تأمُّل عميقٌ لا يظهر على وجه الكلمات حتى نستبطنها بصبرٍ وأَناة؟
بين التأمُّل والكتابة يقف الشاعرُ المجرَّدُ إلَّا من اختلاجاتِهِ وتداعياتِهِ، إنَّه يسمع ولا يسمع ويرى ولا يرى، ويتحرَّك جيئةً وذهاباً، ولا يقصدُ شيئاً سوى الدُّخول إلى ذاتِهِ.
الدخول إلى الذات هو تماماً العروج إلى هذا الكون الشاسع، ثمَّة مشتركات بين الذات والكون إِذاً.
في لحظة تأمُّل تكتشف أنَّك ممتلئ بالأبد، ومنتشر كالشُّعاع على كلِّ كوكبٍ تطارد الدَّيجورَ، ولا تُمسكُ به، وتجسُّ المجهولَ ولا تُطبِّبُه، فلا العلاج غاية، ولا الغنيمةُ بُغية. وفي الخروج من الذَّات لا يعني المغادرة النِّهائيَّة، فما هو إِلَّا التقاط أَنفاسٍ، وغفوة أخرى لاستراحة الأبد.
الرِّحلة إلى القصيدةِ رحلةٌ كونيَّة، لا تبدأ من الذَّاكرة، ولا تستهدف ركَّاباً ينتظرونها على مقاعد الكسل تترجَّى ودَّهم، وتستجدي استعطافهم، ليملؤوا المركبة بالتصفيق، والهتاف.
هي رحلة لا تنتظر ولا تضع بداية أو نهاية، هي رحلة إلى النَّشوةِ، وتلك هي السَّعادة الكبرى.
يصغون إلى كائناتهم اللامرئيَّة واللامسموعة، يسافرون مع أحلامهم غير الملوَّنة، يتحدَّثون مع جلسائهم الذين لا يبيعون المسك، ولا ينفخون الكِير، يكتبون للاأحد، ويقرؤون كلَّ أحدٍ، الصَّمت زادهم، والعزلة دارهم، ليست أَنفة من أَحدٍ، ولكنَّه الشِّعر في ملكوتِهِ.

تُسِرُّ لَكَ القَصِيدَةُ
ما انطَوَى عن قَلبِ شاعرِها
فتَرحَلُ، والخَيالَ
قَصِيدَةً أُخرَى عَلَى الأَوتارْ
أَتَجلِسُ مُغمَضَ العَينَينِ
تَصطادُ انقِداحَ اللحنِ
مِن غَيمِ القَرِيحَةِ مِثلَ شاعرِها؟
وتَمشِي دُونَما هَدَ إِلى أَن تَسمَعَ الآهاتِ في الكَلِماتِ
والتغرِيدَ في الأَحجارْ؟

وتَعتَزِلُ الخَلِيقَةَ في حِرائِكَ
صامِتًا حَتى يُطِل برَأْسِهِ
رَشَأُ القَصِيدَةِ راقِصًا
فتُلاحِقُ الإِيقاعَ
مُنَتبِهًا إِلى الأَسرارْ؟

رَفِيقُكَ
مَن رَفِيقُكَ فِي بِساطِ الغَيمِ؟
تَأْخُذُكَ الرِّياحُ
إِلى امتِدادِ الوَهمِ
تُصغِي للمَجراتِ البَعِيدَة تمزُجُ الأَصداءَ
بالحُلُمِ المُخبأِ
بينَ أَحشاءِ الكَلامِ
تُفِيقُ
ثُم تُدندِنُ الجُدرانُ حولَك
والستائرُ
تَستَحِيلُ إِلى صَدًى
في بُحةِ المِزمارْ

عَلَى كَفيكَ نَبضُ العَز يَسرِي مَوجَةً مِن لَهفَةِ الشِّريانِ
حَتى عُودِكَ المُشتاقِ
في لَيلِ التِقاءِ الوَحيِ بالأَفكارْ

تُسِرُّ لَكَ القَصِيدَة ما تكورَ مِثلَ بَذرٍ في مَجاهلِها
فتُجرِي جَدوَلَ النغماتِ
تخضَلُّ المَواعِيدُ الشهِيةُ
تَلبَسُ اللحَظاتُ
خُضرتَها الشفِيفَةَ
والنخِيلُ
تُفِيقُ مِن قَيلُولَةِ المَعنَى
فتَحسَبُ أَنها أَطرا هَذِي الأَرضِ
ترقُصُ في المَدارِ
وأَنتَ لا تَدرِي
لأَن كَفي مَهَبِّ الاختِطا مُوزعٌ كالوِردِ في الأَسحارْ

أضف تعليق

التعليقات

مصطفى عبدالوهاب

هذا المقال
بمثابة صك دفااع عن المبدعين
اللذين يقطن في ذواتهم أكوان اخرى
غير ملموسه ولكنها تعيش تحت وعي المبدع

حقا ما قرأته زاد يقيني بأن المبدع يحمل في ذاته شي أكبر من السماء اللتي اراها