لغويات

تناقض صفة “القرية” ومعناها

وردت لفظة قرية في القرآن الكريم للإشارة إلى مكة المكرمة والطائف، وخص مكة بأنها أم القرى. وهنا يجب أن نسأل لماذا. لماذا سميت مكة والطائف قريتين؟ هل لأنهما محل للزراعة؟ لا. كانت الطائف تحوي مزارع وجنائن، لكن الزراعة لم تكن مهنة السكان الأساس. والأمر أوضح في مكة، التي كانت مهنة أهلها الأساس هي التجارة.

لا علاقة لكلمة قرية بالزراعة، بل لها علاقة بما يجمع بين التجمع السكاني في مكة والطائف من خصائص مرتبطة بالمهنة الأساس في المجتمع، وهي تأمين قوافل التجارة، واستضافة الغرباء وإكرامهم وإجارتهم خلال الأشهر الحرم، موسم التجارة والسفر، الذي يبدأ بسوق عكاظ بالقرب من الطائف، وينتهي بالحج الأكبر.

ويتماشى هذا تماماً مع الاشتقاق اللغوي لقرية من القرى، أي الإطعام، والكرم، والضيافة. ومنها اشتق لفظ “المقراة” التي تتجمع فيها الأيدي على الطعام. كما إن اللفظة تدل على الاستقرار، تمييزاً عن حياة الترحال.

اللفظة نفسها انتقلت إلى مصر لتستخدم في وصف تجمعات المزارعين، وربما تيمّناً بمكة المكرمة. في حين أن القرآن الكريم عندما أشار إلى قرية مصرية أشار أيضاً إلى محل للتجارة نزل فيه إخوة يوسف.

 

بينما تجمعات المزارعين في مصر تجمعات عائلية مغلقة، لا تبيع ولا تشتري. وحتى إن فعلت، فليست تلك مهنتها الأساس. وأغلب الظن أن المكان المشار إليه ليس تجمعاً للمزارعين، بل تجمعاً للتجار يقبل عليه الغرباء.

وهذا يعني أن استخدامنا الحديث للفظة “قرية” لوصف تجمعات المزارعين المصريين لا يتسق مع المعنى، ولا يؤدي وظيفته في الإشارة إلى ما يميّز ذلك التجمع البشري.

وحين نبحث عن اللفظ العربي الأقرب إلى وصف تجمعات المزارعين نجد لفظة مصرية قديمة مشتقة من الفعل “واح” أي “عاش”. وهو الفعل الذي لا يزال المصريون يستخدمونه في أغنيتهم الشعبية “وحوي.. يا وحوي.. إيَّاحا”، أي “عاش عاش الفرعون إياح”. ومن هذا اللفظ اشتقت الكلمة المصرية القديمة التي تصف تجمعات المزارعين، وهي واهت، أو واحت، وتعني الحديقة.

واستخدم المصريون الكلمة نفسها لوصف البيت، مكان الحياة. وهي بالطبع لفظة قريبة جداً في اللفظ والمعنى من كلمة “واحة” العربية، التي تعني البقعة الخضراء أو النابضة بالحياة في وسط الصحراء.

لكن استخدام لفظ واحة، بسبب هذا التداخل بين معنى ”تجمع المزارعين“ وبين الواحة في صحراء العرب مربك أيضاً. فهل من بديل؟

هنا تأتي كلمة مصرية أخرى، هي “عسبت”. وتلك أيضاً لفظة فرعونية قديمة تعني التجمع السكاني للمزارعين. وهي لا تزال مستخدمة في مصر بتحوير في اللفظ، بحيث تنطق “عزبة”.

السبب الأساس في عدم استخدام هذه اللفظة هو أن لفظة عزبة صارت تحمل مدلولاً طبقياً إقطاعياً. فهي تعني في المدلول المصري المكان الذي يتملكه شخص، ويعمل الآخرون لديه أجراء. والحقيقة أن هذا توصيف أدق في وصف طريقة إدارة وسياسة تجمعات المزارعين في الجزء الأكبر من تاريخنا. بمعنى أنه لو كان الأمر لي لاعتبرت هذا حجة كافية لاستخدام لفظة عزبة بدلاً من قرية.

هل هذا مهم؟
تخيل تعبيراً مثل “أخلاق القرية” أو “جوّ القرية”. ماذا يعني؟ في المدلول العربي يعني المجتمع المنغلق على نفسه، والعائلي. وهو بهذا المدلول ليس مجتمعاً مرحباً بالغرباء. ولا مجيراً لهم. أي إنه عكس مدلول الكلمة العربية تماماً. وعكس السبب الذي سميت من أجله تجمعات سياحية وتجارية في جزيرة العرب “قرية”.

أضف تعليق

التعليقات