أدب وفنون

بين ثلاثة روائيين

بشرٌ كثيرون
وهموم مشتركة!

لكل روائي طريقته في مقاربة الحقائق الإنسانية التي تشمل المشاعر على اختلاف ألوانها والقيم والمفاهيم، وما تتسبَّب به الحياة في النفس من تحوِّلات. فبعض الروايات قد لا يعطينا أجوبة واضحة عن تساؤلاتنا، وبعضها يحمل القارئ على إسقاط هموم الشخصيات الروائية في صيغة أسئلة على حياته الحقيقية، وبعضها يحاول أن يجد ترياقاً لبعض الهموم الإنسانية المشتركة. وهنا، عرض مختصر لهذا التلوّن في المعالجة عند الروائيين الثلاثة: جين أوستن ودوريس ليسينج ودونيس ديديرو.

أحياناً يحتاج الإنسان إلى فضاءات كثيرة ليدرك فعل بعض الكلمات، أو ليقنع نفسه بما يصعب عليه الاقتناع به. فلبعض الكلمات مضامين غارقة في العتمة وبعضها يضيء وضوحاً يخطف البصر. ولكننا لا نستطيع أن نأخذ بعضاً منها إلَّا كما هي بلا تنقيح أو تلميع، ومن ضمن هذه الفئة، مصطلحا “العاطفة” و”العقل” اللذان حيّرا البشرية وعانت من تبعات تفسيرهما كثيراً. وقد يأخذ تفسير هذين المصطلحين أشكالاً متعدِّدة، ولكنها غالباً ما تكون مؤلمة.

العقل والعاطفة عند جين أوستن

اشتهرت الكاتبة الإنجليزية جين أوستن  بست روايات، أبرزها روايتها الأكثر انتشاراً “كبرياء وهوى” التي تتناول وضع المرأة في القرن الثامن عشر، وسعيها إلى الزواج من أجل الحصول على دخل ثابت ومركز اجتماعي . أما في روايتها “عاطفة وعقل” فتصف أوستن العقل بأنه الحَكمُ الصائب والحكمة كما تجسِّدها شخصية إلينور، أما تغليب العاطفة والمشاعر فتجسِّده شخصية ماريان. فالصراع في هذه الرواية هو بين الشخصية العقلانية والشخصية العاطفية ممثلتين بالشقيقتين المختلفتين، وبما لكل منهما من مواقف وأحكام ومشاعر.

فالعقلانية إلينور تراهن على صواب الفكرة القائلة إنّ المرأة مصلوبة على جدار العقل والحكمة ولا شيء غيره. أما ماريان التي فتحت أبواب الحُب والوفاء والرقة أمام نفسها، على الرغم من علمها سلفاً أنها ستخسر قصة حُبها، فإنها لا تحيد عن الدرب الذي سلكته. بل بقيت تتعامل مع الحُب مثلما تلعب لعبة المكعبات، تحرك ألوانها طوال الوقت، ولا تمل حتى تصل إلى مرحلة اصطفاف الألوان. وعندما تنجح، تترك اللعبة وتمضي لتشاكس عقلانية أختها إلينور التي تعتلي الحكمةُ والمنطقية عقلَها وقلبَها، والمنشغلة دائماً بكثير من الأسئلة والتساؤلات. وفي النهاية، كلتاهما تخسران المعركة. فلا العقل وحده يفوز ولا القلب وحده يحقِّق النجاح. فالسؤال هو كيف يتعامل الإنسان مع عاطفته وعقله؟ وهل الرواية تجيبنا فعلاً؟ أم أن الرواية ما هي إلا تعبير عما نعجز أن نمارسه في حياتنا؟

دوريس ليسينج وإسقاط الأسئلة على حياة القارئ
ربما تُجيبنا عن هذه الأسئلة الكاتبة دوريس ليسينج التي تحمل أكثر من قلب في صدرها. فهي ذات رسالة تتمثل بمناهضة الاستعمار والعنصرية، إنسانية بالدرجة الأولى، وذات قلم يحترم عقولنا كبشر، إضافة إلى أنها تفاعلت مع ثقافات مختلفة، فقد عاشت في إيران، ثم انتقلت إلى زيمبابوي، وبعدها استقرَّت في بريطانيا. وهذه المؤثرات الحضارية والفكرية مكّنت ليسنج من التعامل مع لغة القلم في وصف ما كان يحدث في تلك الفترات، كشاهد على العصر. فأصبحت رمزاً  للأديبة التي تناولت قضايا المرأة وصارعت من أجل حقوقها.

مناضلة، محاربة، ودائماً تعيش التحدي، ولا تزال دَهِشَةً من الحياة. ثمانينية في قلب شابة بسبب أفكارها، دافعت عن حريتها وأنوثتها وعقلها من أجل فضيلتها وليس تمرداً. فقد حررَت عقلها من الجمود.

في روايتها “المفكرة الذهبية”، تخفي بطلتها الروائية المميَّزة “آنا وولف” ندوب جروحها خلف كلماتها الأنيقة. تعيش آنا مع ابنتها، وتؤجِّر إحدى غرف شقتها، ولكنها تعيش مأساة من نوع آخر. فقد لمع نجم آنا بوصفها روائية بعد أن أصدرت كتاباً عن الشيوعيين الإفريقيين في زمن الاستعمار، حاولت فيه إعادة تشكيل التجربة الإفريقية، حيث كانت في فترة شبابها، وقرَّرت أن تكتبها ولكن بطريقة مختلفة حتى لا تضيع أفكارها أو تنسى شيئاً.

أحضرت آنا أربعة دفاتر مختلفة الألوان. وخصّت كل واحد منها بأحد المواضيع التي رصدتها في تلك الفترة. فقد جعلت الدفتر الأحمر للشيوعية، وموقفها الخائب الرجاء منها، أما الدفتر الأصفر فكان لبطولاتها الخيالية، وسجَّلت يومياتها في الدفتر الأزرق. ولكنها بعد تعرُّضها لأزمة عاطفية، حيث أحبَّت أمريكياً خانها، حاولت جمع كل أفكارها في دفتر واحد: “المفكرة الذهبية”، في محاولة للتخلُّص من أوهامها المتعلِّقة بالشيوعية، والتقرب إلى الأسرة، والانغماس في علاقات الصداقة الصحية لعلّ في ذلك ما يساعدها على أن تتعافى من أوجاعها التي سببها الحب.

تبدو أحداث هذه الرواية عادية. إلَّا أن دوريس، وإن كانت لا تجيب عن كثير من الأسئلة التي تثيرها، فإنها تجعل القارئ يسقط كل أحداث حياة آنا وولف على حياته، ليتساءل عن الحُب والحرية والمعتقدات والأوهام المرتبطة بوعينا، وأين نقف بأفكارنا من الآخر، وكيف يمكننا أن نكون بعد تحقيق نجاح عظيم. كل هذه التساؤلات ليست إلَّا محاولة لتجاوز الواقع واستنطاق قدراتنا ورؤيتنا تجاه الحياة.

“فضيلة الكاتب الوحيدة هي المعرفة”
هرمان بروخ روائي نمساوي

لم تكن الكتابة يوماً فعلاً عادياً، بل هي قدر. وهي أداة يستخدمها الكاتب لتحريك كل ما هو من حوله، وليبث شجونه ومشاعره، غضبه وحزنه، وسعاداته الكثيرة. وهي أحد أقدم أشكال الاتصال بين الذات والآخرين، والانتقال بين العوالم والحيوات. فلأن الإنسان لا يستطيع انتزاع نفسه من محيطه ومجتمعه الضيق، تمنحه الكتابة القدرة على اقتحام ما خلف الأفق.

فالكاتب لدية دائماً رغبة في الخوض في تفاصيل لا يتطرَّق إليها أحد، ولديه حاجة إلى أن يكتب عمّا لم يقله أحد من قبل!

ولعل  الدافع الأكبر للكاتب كي يستمر في الكتابة هو إدراكه للاختلاف والتنوُّع. فعلى الكاتب الحقيقي ألَّا يكون انتقائياً، بل يجب أن يُجبر نفسه على فهم ما يدور حوله ويتفادى إصدار الأحكام. إذ ليس من مهامه أن يكون  قاضياً، بل يجب أن يبقى مبدعاً وحسب، ويُعين على الإبداع، رغم صعوبة التخلّص من الأحكام المسبقة. لكن تعوّد التأني والحرص على الحياد، والتفكير في الأمور من كافة الزوايا والرؤى، سيكون حتماً عاملاً مساعداً في الابتعاد عن جاهزية الأحكام.

والحقيقة أننا لسنا ملزمين ببناء العالم وإصلاح ما تهدم منه، ولكننا ملزمين بالبحث عن الحقيقة.

ديدرو وشخصياته المتناقضة
السؤال الذي يلحّ علينا أكثر هو كيف يستطيع الكاتب أن يتلَّمس بيديه موضع الألم، وترياق الشفاء؟

شخصياً، وجدت جواباً عن هذا السؤال في رواية الفرنسي دوني ديديرو “جاك قَدَرِيّ”. فمنذ البداية، كانت إحدى الروايات التي أحببتها، إذ إنها واحدة من أكثر الروايات التي تحاكي واقع الإنسان وطريقة تفكيره وسلوكه.

يخرج الكاتب هنا بأقصى ما يمكن الحصول عليه من شخصيات متناقضة، لأنه فهم أن الكتابة تحتاج إلى حياة عامة، وتبادل حر للأفكار، والنقاش، والجدال، والاستماع. وعليه، فالكاتب (أي كاتب) ليس ملزماً بالكتابة فقط، بل يلزمه التأمل أولاً، وإمعان النظر وتقمص الأدوار، لأنه لا بد أن يحمل بين حناياه كثيراً من الأرواح!

كيف يؤمن الكاتب المبدع بذاته؟
الإجابة عن هذا السؤال صعبة، وقد تطول وتتشعب. ولكن الأساس في الكاتب أنه إنسان، ولديه دائماً أشياء مشتركة مع البشر جميعاً. الصراع، الحُب، الرغبات.. فنحن نشبه بعضنا في ما نعيشه وفي ما نتألَّم منه ومن أجله. العالم هو مكان للجميع. البشر يعطون شكلاً للحياة ويزودون الكاتب بكثير من المشاعر، والكاتب الذي يرفض كل شيء ويتصيد ما يروق له ويتوافق مع أهدافه غير أمين على الواقع، لأنَّ الالتزام بالحقائق المجرَّدة والموضوعية في الطرح هو أساس الكتابة. ويجب أن تكون في داخل كل كاتب معركة قائمة، بين الشخوص و الاضداد فيظهر له البائس والسعيد الفقير والغني الشجاع والجبان ببعدهم الإنساني الصرف كي يفهم الكاتب ما حوله وكي تُفهم الطبيعة الإنسانية.

أضف تعليق

التعليقات

جابر خليفة جابر

مقال يشفّ عن مقدرة عالية على القراءة والغوص في ثنايا البناء الروائي ومسارات شخصياتها وبيان مزاياها وتوجهاتها ، استمتعت به وأفدت منه ، شكرا وتحية