عندما تتصفح ألبوماً تتوقف عند الصور التي تبعث على التساؤل، أو تثير في النفس شيئاً من الوجع أو الجمال.
كان بن إيرفنغ مؤمناً بأن جمال اللقطة يكمن في طبيعيتها، أو في إبراز عيوب الأشخاص وشوائبهم كالتجاعيد، أو التراب، أو الطين العالق بهم
يقال إن العالم قرية صغيرة، لكن المصور بن إيرفنغ يقول إن العالم أصغر من ذلك. فالعالم مجرد غرفة صغيرة!
لقد اختار المصور الأمريكي إيرفنغ هذه الصورة من بين مئات الصور في مجموعته لتكون غلافاً لكتابه: «العالم غرفة صغيرة» الذي طُبع عام 1974م، وضمَّ صوراً التقطها في استوديو صغير متنقل باتجاه الأماكن النائية من العالم، حيث الشعوب المختلفة ذات الثقافات البدائية والسكان الأصليين من رجال القبائل والنساء والأطفال. التقط لهم صوراً بالأبيض والأسود بهيئاتهم الطبيعية التي تحكي عنهم، فكرَّس فكرة الجمال التقليدي موضوعاً لمشروعه العرقي التصويري. لقد مرَّ على غرفة إيرفنغ الصغيرة المتنقلة وأمام عدسته أصناف من البشر مليئين بالتفاصيل التي لم يبدل فيها المصور ملمحاً لكي تظهر الصورة أجمل! لقد كان مؤمناً بأن جمال اللقطة يكمن في طبيعيتها، أو في إبراز عيوب الأشخاص وشوائبهم كالتجاعيد، أو التراب، أو الطين العالق بهم، كل هذا وهم محصورون في غرفة صغيرة «استوديو» ذات خلفيات بسيطة.
لأول وهلة قد تبدو هذه الصورة غامضة وغريبة في مكان بلا ملامح، يكاد يكون مصمتاً، فقط، حيث يتزاوج فيه الضوء والظل، واللون الأبيض مع اللون الأسود، ولا كائنات أخرى سوى موضوع الصورة وهو المرأتان في الغرفة الصغيرة. ربما تصيبك هذه الصورة بالرعب، إذ تبدو لامرأتين قد تواجهان حكماً بالموت أو نوعاً من العقاب القاسي، فملابسهما تشي بذلك. فغطاءا رأسيهما يشبهان القمع، الذي يُذكرنا بملابس التعذيب في سجن أبو غريب. المرأة التي عن يسار الصورة يطوق رقبتها حبل، كأنها تواجه الإعدام شنقاً. يداها وأطراف أصابع قدمها اليمنى الحافية تشي بسمرة قاسية أحرقتها الشمس. أما المرأة الأخرى فهي أكثر غموضاً وغرابة، فلا شيء يدل على أنها امرأة. هذه الصورة جديرة بالتأمل والغوص في تفاصيلها، لعل بعض الغموض يزول.
من هما هاتان المرأتان؟ ولماذا تواجهان عدسة المصور بهذا الغموض السافر؟!
قبل التكهنات لا بد من المرور على تاريخ هذه الصورة التي التقطتها عدسة المصور بن إيرفنغ عام 1971م في الاستوديو المتنقل الذي أنشأه لمشروعه عن الثقافة البدائية والعرقية. التقطت الصورة في المغرب العربي، وهي تحمل اسم: «قويدرات في مهب الريح». والقويدرات هن راقصات القويدر، وهي رقصة طقسية بربرية تؤديها النساء وهن جالسات على ركبهن. إذ يقمن بالزحف على الأرض مع أداء بعض الحركات برؤوسهن وأجسامهن. بينما شعرهن مرفوع للأعلى على هيئة مخروطية. إن هذه الرقصة تؤديها المتصوفات لتصفو أرواحهن، على حد ما يزعمن، ولا يشارك فيها الرجال أو الأطفال إلا نادراً.
المرأتان البربريتان في الصورة لا تواجهان حكماً عنصرياً، أو عقوبة قاسية، بل ترتديان هذا اللباس لذلك الغرض. أما الحبل الرفيع الذي يطوق رقبة المرأة التي على يسار الصورة ليس إلا مسبحة طويلة بحبات خشبية. يكمن سحر هذه الصورة في طبيعتها وفي تفاصيلها الحقيقية، بدءاً من الأقدام الحافية، مروراً بخضاب الحناء على كفي المرأة، وبعض الحلي الفضية. كل شيء في هذه الصورة غير متكلف أو مصنوع لالتقاط اللقطة، لذا كان اختيار بن إيرفنغ لها في أن تكون غلافاً لكتابه: «العالم غرفة صغيرة».
الصورة بيعت في دار كريستيز للمزادات في أثناء مزاد أقيم بعد وفاة بن إيرفنغ عام 2009م بمبلغ 43.750 دولاراً. وكان سعر البيع المتوقع ما بين 40 ألفاً و60 ألف دولار. لكن الصورة لم تصل لأعلى سعر متوقع، ربما يكون السبب في الرعب الذي تثيره في النفس لأول وهلة!
بن إيرفنغ في سطور
مصور أمريكي ولد عام 1917م، يعد من أشهر مصوري القرن. وقف أمام عدسته أكثر الناس شهرة في العالم مثل: جون كيندي، بابلو بيكاسو، سلفادور دالي، سيمون دي بوفوار، وكثير غيرهم. عمل على مشروع الثقافة العرقية, وهو التقاط الصور للسكان الأصليين، وذلك من الستينيات الميلادية وحتى طباعة كتابه «العالم غرفة صغيرة» في عام 1973م. اشتهر بأنه مصور أزياء، فتصدرت صوره أغلفة مجلة فوغ الأمريكية. ظل يعمل دون توقف إلى أن توفي عام 2009م عن عمر يناهز الثانية والتسعين عاماً.