طاقة واقتصاد

نزاهة الأسواق المالية

ينصرف مفهوم التلاعب في الأسواق المالية إجمالاً إلى التصرفات التي يقوم بها متداول أو مجموعة من المتداولين لإحداث فرق مقصود بين سعر الورقة المالية وقيمتها بهدف الربح على حساب بقية المتداولين في السوق.
د.محمد السحيباني يبيِّن لنا استراتيجية المتلاعبين في السوق وآثارها السلبية في الاقتصاد.

يكثر التلاعب في الأسهم التي لا يتابعها المتداولون المطلعون ومنها الأسهم ضعيفة السيولة، وكذلك أسهم الشركات الصغيرة التي يمكن تملك جزء كبير من أسهمها بسهولة

للتلاعب أثر سلبي في كفاءة السوق، لأنه يقوم على استدراج بقية المتداولين لتوفير السيولة، وتنفيذ الصفقات عند أسعار تبتعد بدرجة أو بأخرى عن قيم الأوراق المالية.
فالمتلاعب مغرر لغيره من المتداولين بالقول أو الفعل من خلال نشر الشائعات أو التصريح بمعلومات خاطئة، أو تنفيذ صفقات تولد أسعاراً أو كميات تفسد معلومات بقية المتداولين وتوقعاتهم، ويتصرف بناءً عليها لمصلحته. وهو باختصار يهدف إلى رسم صورة مختلقة للسوق، يأمل أن يخطئ المتداولون الآخرون في جعلها صورة حقيقية لما يجري في السوق.

لبيان التلاعب في الأسواق المالية بشكل أوضح، نسوق المثال الآتي، حيث يستخدم المتلاعب واحدة من أكثر استراتيجيات التلاعب شيوعاً وهي الشراء بسعر منخفض والبيع بسعر مرتفع تمهيداً لتنفيذ استراتيجية التلاعب، قام المتلاعب في البداية بإجراء بحث دقيق في أسهم السوق، فوجد أن سهم شركة الفقاعة مرشح جيد للتلاعب، لكون الشركة ناشئة ولديها بعض الفرص الواعدة، خصوصاً أنه اطلع في آخر تقاريرها على معلومة تفيد بأن الشركة ستقوم في الأسابيع المقبلة بتشغيل أحد مصانعها في الصين.

حالياً، لم تحقق شركة الفقاعة أي أرباح وسعر سهمها في السوق 20 ريالاً، ولدى الشركة 10 ملايين سهم، %30 منها فقط متاحة للتداول.
بدأ المتلاعب في تنفيذ استراتيجية بشراء أسهم شركة الفقاعة بكل هدوء، وفي الغالب باستخدام أوامر مقيدة هي الأوامر المحددة السعر. ومن الطبيعي أن تؤدي هذه الزيادة الصورية في قوى الشراء إلى ارتفاع أسعار الشركة مع مرور الوقت. بعد 40 يوماً من التداول، استطاع المتلاعب أن يشتري 300 ألف سهم بأسعار تراوح بين 20 و30 ريالاً، بمتوسط 25 ريالاً للسهم.

في اليوم 41 بدأ المتلاعب بحملة لإبراز أهمية الشركة ومستقبلها الواعد باستخدام عدد من الشخصيات الوهمية في منتديات الأسهم وغيرها من وسائل التواصل الإلكتروني مع مجتمع المتداولين في السوق. وقد تضمنت الحملة معلومات مفصلة عن مستقبل الشركة والمنتجات المبتكرة التي ستطرحها كما لو كان خبيراً في تفاصيل التقنيات التي تستخدمها، مع تقديم تقديرات أولية ومتفائلة لأرباحها. ولإضفاء مزيد من المصداقية على هذه الحملة، فقد ضمن حملته بعض المعلومات من آخر تقارير الشركة.

وقد اعتمد في هذه الحملة على التخاطب مع نفسه وربما مجادلتها أحياناً بأسماء متعددة في منتديات مختلفة ليعطي انطباعاً بأن هناك عدداً كبيراً من المحللين الماليين المتابعين لأداء هذه الشركة.

في صباح اليوم 51 صرحت الشركة بأنها بدأت تشغيل مصنعها في الصين، وهو خبر متوقع لمن قرأ آخر تقرير للشركة، ومن الطبيعي أن يظهر هذا الخبر في اليوم التالي في عدد من الصحف، وقد يعلِّق عليه بعض الكُتَّاب والمحللين بشكل إيجابي. وكغيره من المتداولين، اطلع المتلاعب على هذه المعلومة التي ليس لها أي تأثير في قيمة سهم شركة الفقاعة بوصفها متوقعة منذ فترة، ولكنها كانت له بمنزلة الفرصة التي كان ينتظرها، حيث قرر بعدها أن يشتري 80 ألف سهم باستخدام أوامر سوقية قام بإرسالها للسوق عبر شركات وساطة مختلفة. وكما هو متوقع، تسببت هذه الأوامر بارتفاع سعر سهم الشركة، إذ ارتفع سعرها خلال 20 دقيقة من 30 إلى 33 ريالاً، وبمتوسط سعر شراء 31.5 ريال للسهم. ونتيجة لهذا النشاط الملحوظ على السهم، واحتلالها النسبة العليا في قائمة الأسهم الأكثر ارتفاعاً ذلك اليوم، تضمنت كثير من التقارير المتابعة للسوق في مساء ذلك اليوم واليوم التالي خبر تداولات الشركة.

استمر المتلاعب في نشر معلومات مفصَّلة عبر منتديات الإنترنت عن أهمية مصنع الشركة في الصين، متوقعاً أن يصل سعر الشركة من 60 إلى 70 ريالاً وربما أكثر من 100 ريال عندما يصل المصنع إلى مرحلة التشغيل الكامل.

من الطبيعي عندما يرتفع سعر سهم شركة الفقاعة بهذا الشكل، يتساءل بقية المتداولين عن سببه، ومتى بدأ في الارتفاع. وسيكتشفون أن ذلك حدث بسبب قصة مصنع الصين، وأن الارتفاع السريع بدأ بعد إعلان تشغيله. وعلى الرغم من أن الخبر لا يمثل جديداً لمتابع تقارير الشركة، ويجب ألا يؤثر في قيمتها، إلا أن الارتفاع بحد ذاته أعطى انطباعاً بأن هناك أموراً إيجابية أكثر مما ورد في الخبر، وأن هناك متداولين مطلعين يعتقدون أن قيمة الشركة ارتفعت. في ضوء هذه الاستنتاجات، قام كثير من المتداولين برفع توقعاتهم حول قيمة الشركة، بوصف أن التقنيات التي تستخدمها فعلاً أفضل مما كانوا يتصورون عند شرائهم لسهمها أول مرة. وتبعاً لذلك، قرروا استعجال الشراء وتحقيق معدل أعلى من الربح، بدلاً من الانتظار حتى يرتفع سعرها وتفوت عليهم هذه الفرصة الذهبية. ولكونهم يخشون أن يسبقهم غيرهم للاستفادة من هذه الفرصة، استخدموا أوامر سوقية لشراء أكبر عدد من الأسهم في أسرع وقت، ما دفع سعر السهم إلى مزيد من الارتفاع. في الوقت نفسه، ومع صعود سعر السهم، يقوم المتلاعب ببيع مخزونة من الأسهم بشكل تدريجي، ليتخلص من نحو 200 ألف سهم، بمتوسط سعر بيع 40 ريالاً للسهم.

بالنظر للتغير الملحوظ في سعر السهم، قامت الهيئة المشرفة على السوق بالاتصال بشركة الفقاعة للاستفسار عن أسباب التغير الكبير في سعر سهمها، لترد على الهيئة بأنه ليس لديها أي علم عن سبب ما يجري في السوق. ودرست الشركة إصدار تصريح صحافي بأنه ليس لديها أي معلومة إيجابية جديدة تبرر هذا الارتفاع في سعر سهمها، ولكن محامي الشركة نصحها بألا تفعل، لاحتمال تعرض الشركة للمساءلة من بعض المتداولين. في المقابل، عندما يتصل الصحافيون بإدارة الشركة للاستفسار عن أي معلومات جديدة، يمتنع أي مسؤول عن التعليق، وأن من سياسة الشركة عدم التعليق على تقلبات السوق.

في اليوم 60، يكون قد اطلع عدد كبير من المتداولين على الارتفاع الملحوظ في سعر سهم شركة الفقاعة، والتي فسرها بعضهم بأنها مؤشر على أداء أفضل للسهم في المستقبل، بخاصة من قرأ منهم تعليقات المتلاعب في منتديات الأسهم. وقد يفسر بعضهم امتناع إدارة الشركة عن التعليق على أن هناك شيئاً ما سيحدث. وهؤلاء البعض هم من الضحايا الذين سيقررون شراء السهم. في المقابل، سيلاحظ بعض المتابعين أن السهم يتداول بسعر أعلى من قيمته، مع ذلك سيقررون الاحتفاظ بالسهم لاحتمال أن يكون هناك فعلاً معلومات مهمة في الطريق ستؤدي إلى ارتفاع ملحوظ في قيمة الشركة وسعر سهمها.

أما المتعاملون المطلعون على معلومات الشركة، وهم قلة، فسيستمرون بالبيع لأنهم يرون أن سعر السهم تجاوز الحد في الارتفاع عن قيمته، والمتلاعب يبيع معهم، لأنه يعلم يقيناً أن سعر السهم أعلى من قيمته. ومع تزايد البيع وبكميات كبيرة لتصريف 180 ألف سهم المتبقية في محفظة المتلاعب، ينهار سعر السهم ليصل إلى 30 ريالاً. ويتمكن المتلاعب من بيعها بسعر يبلغ في المتوسط 35 ريالاً للسهم. وخلال الأيام التالية استمر سعر السهم في الانخفاض إلى أن وصل إلى السعر الذي كان سائداً قبل استراتيجية التلاعب وهو 20 ريالاً للسهم.

نظراً لوجود نمط تداول غير عادي على سهم شركة الفقاعة في الشهرين الماضيين، قررت السوق المالية التحقيق في الأمر للتعرف إلى من تداول خلال هذه الفترة، ومن ربح خلالها. وقد أظهر تحليل البيانات وبشكل سريع أن المتلاعب في هذا المثال متداول رئيس في سهم الشركة، وحقق خلال هذه الفترة أرباحاً كبيرة. ولهذا قررت السوق إبلاغ هيئة السوق بحالة التلاعب في سهم شركة الفقاعة ودور المتلاعب فيها. وبعد قيام الهيئة برفع قضية ضد المتلاعب، وبداية التحقيق معه، دافع المتلاعب بقوة عن موقفه، وأنه بكل بساطة متداول مطلع جداً على الأمور، وأنه بعد أن اطلع على المعلومات الإيجابية عن مستقبل الشركة في تقريرها الأخير، قرر امتلاك نسبة كبيرة من أسهم الشركة. وبعد الإعلان عن بدء تشغيل مصنع الصين زادت قناعته بنجاح الشركة ومستقبلها الواعد وقرر شراء المزيد من أسهمها، وبأسرع وقت ممكن، خشية أن يسبقه بقية المتداولين لاقتناص هذه الفرصة، خصوصاً أنه قرأ عدداً من التقارير الإيجابية عنها في الصحف والإنترنت. وأشار إلى أنه وزع أوامر الشراء التي أرسلها على أكثر من شركة وساطة، لأنه خشي أن تستغل معلومات التداول التي يجريها لو قصر تداولاته على شركة وساطة واحدة. وبيَّن للهيئة أن الارتفاعات اللاحقة في سعر السهم أكدت صدق توقعاته. ومع اعترافه بكونه مسؤولاً جزئياً عن ارتفاع الأسعار، إلا أنه أكد أن آخرين كانوا يشترون مثله. كما وضّح لهيئة السوق أنه مع تزايد عدد المشترين، تأكد له أنهم سيدفعون بالسعر إلى أعلى من قيمته، ولهذا قرر البيع بمجرد تجاوز السعر لقيمة السهم في تقديره.

ونتيجة لقوة حجة المتلاعب، وعدم إمكانية إيجاد دليل مادي على أنه هو الذي نشر الشائعات حول السهم في مواقع الإنترنت، اكتفى المحققون بتحذيره، وعدم رفع قضية عليه أمام اللجنة القضائية المختصة.
ويمكن جعل هذا المثال أكثر واقعية بافتراض أن هناك مجموعة متواطئة من المتلاعبين، وليس المتلاعب واحداً فقط، وكذلك بافتراض أن المتلاعب نفذها في وقت أطول، إذ إن تنفيذ الاستراتيجية في فترة زمنية أطول يجعل من الصعب اكتشافها، وبالتالي إمكانية إثبات وقوع التلاعب في ساحة القضاء. ويلحظ من هذا المثال ما يلي:
المتلاعب يحتمي ويتترس بالمعلومات ليستخدمها في محاجة هيئة السوق، فهو يتحين الفرص، ويتابع أخبار الشركة وقطاعها والاقتصاد المحلي والدولي، ليلتمس منها الغطاء لقرارات تداوله بالبيع أو الشراء.

المطلع يتعب في البحث عن المعلومة وتحليلها، والمتلاعب يصنعها ثمينة ويحصل عليها رخيصة. ولهذا يكثر التلاعب في الأسهم التي لا يتابعها المتداولون المطلعون ومنها الأسهم ضعيفة السيولة، وكذلك أسهم الشركات الصغيرة التي يمكن تملك جزء كبير من أسهمها بسهولة.

للتلاعب أثر سلبي في كفاءة السوق، لأنه يقوم على استدراج بقية المتداولين لتوفير السيولة وتنفيذ الصفقات عند أسعار تبتعد بدرجة أو بأخرى عن قيم الأوراق المالية. أما في الأجل الطويل، فيؤدي استشراء التلاعب في السوق إلى زيادة احتمال وقوع الغبن في التداول، فتقل ثقة المتداولين في السوق، وينصرفون عنه، ما يتسبب في إضعاف سيولة السوق.وعليه فإن نزاهة السوق المالية وعدالتها شرط ضروري لقيام السوق بالدور المتوقع منها في مساندة الاقتصاد الحقيقي. وبالمنطق نفسه، يؤدي استشراء التلاعب في السوق المالية إلى حدوث العكس، أي قيام الاقتصاد الحقيقي بتعويض خسائر السوق المالية.

أضف تعليق

التعليقات