ملف العدد

العطر

  • 49Malaf3-32
  • 49Malaf3-33
  • 49Malaf3-34
  • 49Malaf3-35
  • 49Malaf3-36
  • 49Malaf3-54
  • 49Malaf3-55
  • 49Malaf3-56
  • 49Malaf3-57
  • 49Malaf3-58
  • 49Malaf3-60
  • 49Malaf3-62
  • 49Malaf3-65
  • 49Malaf3-66
  • 49Malaf3-68
  • 49Malaf3-70
  • 49Malaf3-73
  • 49Malaf3-74
  • 49Malaf3-75
  • 49Malaf3-76
  • 49Malaf3-77
  • 49Malaf-1
  • 49Malaf3-2
  • 49Malaf3-3
  • 49Malaf3-10
  • 49Malaf3-11
  • 49Malaf3-12
  • 49Malaf3-13
  • 49Malaf3-14
  • 49Malaf3-17
  • 49Malaf3-24
  • 49Malaf3-25
  • 49Malaf3-26
  • 49Malaf3-27
  • 49Malaf3-28
  • 49Malaf3-29
  • 49Malaf3-30
  • 49Malaf3-31

ليس ثمة ما يترك أثراً في النفس ما يتركه العطر في نفوس الناس وفضاءاتهم وذكرياتهم وليلهم ونهارهم. في مقدماته جميل، وفي خواتيمه أجمل. لقد جعل له في التاريخ فصولاً، وفي الصناعة تاريخاً، فكان طيباً عطَّر به الشعراء عالمهم وعالم من يحبون متفرقاً في رياحينهم وأزاهيرهم وفتيت مسكهم.
وكما عطَّر الشعراء فضاءات التاريخ بقصائدهم الساحرة، كان للعطر تجارته وصناعته وطرقه وقوافله ومدنه وأسراره الساحرة.
لا ينسى أهل الشعر والعطر من امرئ القيس خيله ولا فتيت مسكه، كما لا ينسون كيف عطَّر نزار كثيراً من شعره بياسمين دمشق الساحر.
فريق القافلة سبر غور تلك الفضاءات وقطف من الطائف بعض وردها، ومن دمشق بعض ياسمينها، ولملم من آثار الأطلال ومما سقط على طريق القوافل بعض ذكريات العطر وحكاياته.
العطر في الوجدان الشعري العربي
بقي العطر قروناً رفيق درب الشاعر العربي، ومكوناً أصيلاً من مكونات القصيد
الجمالية.
على مدى قرون هي عمر ذاكرة الشعر العربي، لم تتراجع يوماً مكانة العطر، بوصفه مكوناً عميقاً من مكونات أكثر اللحظات الشعرية الأثيرة ارتباطاً بوجدان الشاعر والمتلقي على السواء. رائحة اللحظات، رائحة الذكريات، التي كانت دائماً الأقرب والأحب والأكثر استحواذاً على المخيلة، تلك الرائحة التي تفنن الشعراء في اختيار أزهارها، ليرشوا بها أثرى المشاهد حميمية وولهاً وعشقاً برائحة العطر.

فهذا امرؤ القيس في بواكير مشاهد العشق التاريخية يأسره من محبوبتيه أم الحويرث وجارتها أم الرباب رائحة المسك الممتزج بالقرنفل:
كَـــدَأْبِكَ مِــنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْـــلَهَـا
وَجَـــــــارَتِــــهَــا أُمِّ الــــرَّبَــابِ بِمَأْسَــــــــلِ
إِذَا قَــــامَتَا تَضَـــوَّعَ المِسْــــكُ مِنْهُمَـا
نَسِيْمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ
ويتجاوز ولع المغامر امرئ القيس رائحة عطر محبوباته وكلهن من بنات النعمة والثراء فيقدم لنا وصفاً لأسلوب حياتهن الفخم، فمحبوباته من أولئك اللائي يطيبن مخادعهن بفتيت المسك:
وتُضْحِي فَتِيْتُ المِسْكِ فَوْقَ فِراشِهَـا
نَؤُوْمُ الضَّحَى لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّـلِ
ويفسر لنا هذا الأسلوب العربي القديم في التطيب الذي كان متبعاً عند نساء العرب في الماضي، إشارات الشعراء التي كانت تركز دائماً على موضع محدد يضوع منه عطر المرأة العربية قديماً هو ردن «كم» ثوبها، بقول الأعشي:
إذا تقومُ يضوعُ المسكُ أصورةً
والـزنبقُ الوردُ مـن أردانها شـمـلُ
وعلى الدرب نفسه يسير ابن هانئ الأندلسي، حين يقول في عطر محبوبته:
هلما نحــيي الأجـــرع الفــرد واللوى
وعوجاً على تلك الرسومِ وعرجا
مـــواطئ هــندٍ في ثــــرىً متنــفسٍ
تـضــــوّع مـــــن أردانــهـــــا وتــــأرجــــــا
بينما اشتق ابن معتوق الأندلسي من كل ملمح من ملامح محبوبته عطراً وكأنه يرش معطراً من هذا الخليط في جو اللقاء، يقول:
خفرت بسيف الغنج ذمّةَ مِغفَـــري
وَفَــرَتْ بِــرُمْحِ الْقَــدِّ دِرْعَ تَصـَبُّرِي
وجلت لنا من تحتِ مسكـــة خالها
كــــافـــور فجـــرٍ شــــقَّ ليـــلَ العــنبــرِ
أبو نواس، أيضاً، يرسم صورة فواحة العطر لهذه الفاتنة، مزج فيها بين اللون والرائحة حين يقول:
يا قَــــــــمَـــــراً أَبــــــــــرَزَهُ مَـــــــــــــــــــأتَــمٌ
يَنـــــدُبُ شَـــجــــــــواً بَــينَ أَتـــــرابِ
يَبــــكي فَيَذري الـــدُرَّ مِن نَرجِسٍ
وَيَلــطُـــــــــــمُ الـــــــــــــوَردَ بُـــعـــــــــــــــُنّـابِ
ولقد احتلت رائحة الخزامى مرتبة عالية في أشعار العرب، حتى جاورت رائحة المسك في جوزائها، فعطروا بها أصفى اللحظات الشعرية والإنسانية التي سطروها شعراً. فهذا عبيد بن الأبرص يقول:
وَمِلْنَ إلَيْنَا بالسّــــــوَالِفِ وَالحُـلَى
وَبالقَوْلِ فيما يَشتَهي المَرِحُ الخَـالي
كَأنّ الصَّبَا جــــاءتْ بِرِيــحِ لَطِيمَةٍ
مِنَ المِسْكِ لا تُسطاعُ بالثّمن الغالي
وَرِيـــحِ خُزَامَـــى في مَذانِبِ رَوْضَة
جَــلا دِمْنَها سـارٍ منَ المُـزْنِ هَطّال
وهذا عنترة يقول:
وريــحُ الخُــزَامــى يُـــذَكِّـــرُ أنْــفـي
نَســـيم عَــــــذَارَى وذَاتَ الأيــــــادي
وفي الشعر الحديث، تجاوز حضور العطر في القصائد كونه رائحة وحسب، إذ تحول إلى رموز شعرية ذات دلالات مضمونية، لكنها مضامين عطرية، أيضاً، اشتقت من الزهر، حتى إن قصائد بأسرها عنونت بأسماء زهور أشهرها الأقحوان والريحان. نجد هذا في «الريحان» قصيدة مظفر النواب، و«زهرة أقحوان» قصيدة إيليا أبوماضي، و«زغب الأقحوان» قصيدة إدريس علوش، و«ثورة الأقحوان» قصيدة جمعة عبدالعال، و«جمرة الأقحوان» قصيدة مصطفى بدوي.

ثم أصبحت الروائح مكوناً من مكونات الفعل الشعري لدى شعراء الحداثة، فأصبحنا نطالع قصائد تحمل عناوينها إشارات لفعل شعري خاص لهذا الحضور الطاغي لروائح امتزجت بفكر الشعراء وسكنت أعماق أكثر لحظاتهم الإبداعية عمقاً في قصائد مثل «رائحة الحياة»، و«رائحة البكاء» و«رائحة المطر»، و«رائحة الكلمات» و«رائحة الأرض» و«رائحة بيضاء»، في دلالة على تطور حضور العطر الذي أشرنا إليه سلفاً بوصفه فكرة إبداعية رافقت رحلة القصيدة العربية عبر القرون.

فهذا عدنان الصائغ يقول في قصيدته «ندم القرنفل»:
كلما هذّبتْ دمَهُ حكمةُ الكهل
أغوتهُ تجربةُ الطفلِ
قلتُ: تجيءُ المدينةُ
أشجارُها ندمٌ أخضرٌ يتفتّحُ تحتَ رذاذِ النوافيرِ، مرتعشاً
والمصابيحُ حافيةٌ تتسلّقُ أعلى النوافذِ
أعلى قميصكِ، منفتحاً للحمام يطيرُ إلى غابةِ السنديانْ
إن القرنفل هنا تجاوز كونه زهراً يذكر لشذاه، إلى رمز للمدينة التي أصبح لها في وجدان الشاعر إيقاع رائحة القرنفل التي يحبها.
غرائب العطور

غرائب العطور
مسك الغزال وعنبر الحيتان

ليست كل مكونات العطور نباتات وأعشاباً وزهوراً، بل من بعض الحيوانات يضوع أجود أنواع العبق، وتُصنع منه أجود أنواع العطور الشرقية. من بين اللحم والفرث تخرج أغلى المكونات العطرية لأغلى العطور العربية مثل المسك والعنبر. فالمسك عطر مصدره لذة الظبي، إذ ينتج من مادة في الدم تنمو في سرة الظبي وعندما يأتي موعد خروجها، تتضجر الظباء، فتحك سرتها على أحجار الجبال، وتجد في ذلك لذة حتى تسيل منها المادة المكونة من المسك. وتوجد ظباء المسك في كل من الصين وجبال التبت والهند. ولقد ذُكر المسك في القرآن الكريم وحديث الرسول- صلى الله عليه وسلم- وفي قصائد الشعراء، ما أعلى قدره كطيب عند المسلمين فتطيبوا به قدوة بالرسول- صلى الله عليه وسلم- لقوله: «أطيب الطيب المسك».
كما أن العنبر كالمسك يستخرج من مصدر يستغرب أن ينتج عطراً، أو رائحة زكية، فهو مادة شمعية توجد في أمعاء الحيتان العنبرية، وعندما تجف بعد أن يقذفها الموج تصبح زكية الرائحة. وكان العرب يجلبون عنبرهم من سواحل الشحر في اليمن وعُمان.
من المسك والعنبر ومن غرائب العطور صنع المسلمون عطورهم. فالمسك والعنبر كانا مكونين لعطر يسمى «الغالية» تطيب به خلفاء العصرين الأموي والعباسي، وحفظوه في أوان من الذهب الخالص، ومن الزجاج المعتم، ولقد سمي بالغالية لغلاء ثمنه وندرة مكوناته. ولعل أشهر غالية صُنعت كانت غالية هشام بن عبدالملك، وذلك لجودة مسكها وطيب عنبرها.
قوافل العطر
تاريخ تجارة الطيب والبخور عند العرب والمسلمين الأوائل.

لم تكن قائمة البضائع التي يتاجر فيها العرب، قديماً، طويلة. لكنها كانت تشتمل على سلع للرفاهية مثل: الحرير، والثياب الأرجوانية، والتماثيل المنحوتة والأبنوس، والزعفران وخشب الصندل والقرفة. وكانت قوافل طريق الحرير التي تنطلق من الصين إلى أوروبا، مارة بالهند وخراسان والشام وبلاد ما وراء النهرين والجزيرة العربية ممولاً مثالياً، لكل البلدان التي تمر بها، لما تفتقر إليه تلك البلدان من موارد. فنشأت مع طريق الحرير وقوافله الرغبة في معرفة ما يمتلكه الآخر وامتلاكه. لذا كان التبادل متاحاً مع هذه القوافل التي تعبر العالم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. إن مسيرة القوافل التجارية كانت بمنزلة ناقل للثقافة والحضارة من خلال بضائعها المتنوعة. كما كانت قوافل قريش الشهيرة برحلتيها في الشتاء والصيف، إذ تنطلق صيفاً باتجاه بلاد الشام، وشتاءً باتجاه اليمن والحبشة. إن في هذا التنوع في الاتجاه تنوعاً في السلع أيضاً. فما يوجد في دمشق لا يوجد في عدن.

مع هذه الطرق المتاحة للتجارة برز العطر سلعة رابحة، ومهنة متاحة، إذ كانت مكوناته تأتي من الشرق والغرب. فمن ساحل الشحر يأتي العنبر، ومن دارين في بلاد البحرين يأتي المسك، ومن بلاد الحبشة يأتي اللبان، ومن الهند يأتي الصندل. فمارس القرشيون مهنة العطارة في ظل توافر هذه المكونات العطرية، ومن ثم صدروا عطورهم بعدما استوردوا مكوناته. ولقد ورد في كتاب «مثالب العرب» لهشام بن الكلبي أسماء مَنْ مارس هذه المهنة وهم: أبو طالب بن عبدالمطلب، وهشام بن المغيرة، وأبو عبيدة بن الجراح، وأمية بن خلف، وعبدالله بن جدعان. كما كانت أسماء بنت مخرمة بن جندل أم أبي جهل تستورد عطراً ثميناً من اليمن وتبيعه لنساء قريش.

لقد كان القرن التاسع الميلادي إيذاناً ببدء تجارة واسعة للعطور في العالم الإسلامي، وذلك بعد اتساع رقعة الدولة العباسية، وكثرة مواردها، وتنوع أراضيها، وتوطد علاقاتها مع بلاد الصين والهند أكبر مُصدرين لمواد العطور، وانتشار حياة الدعة والترف في قصور المترفين، ما جعل العطر مطلباً للخاصة والعامة، فانتشرت أسواقه وكثر صناعه، وتعددت أنواعه. فكانت مهنة العطارة من المهن الرفيعة التي يمتهنها علية القوم، ويصرفون من وقتهم الثمين مساحة لتركيب عطورات يتفاخرون بتوليفاتها. ولقد عُرف من الوزراء في العصر العباسي من يقوم بخلط عطوره بنفسه مثل: جعفر بن يحيى البرمكي، كما كانت أم الخليفة المقتدر تصنع بنفسها ما تتطيب به.

إن ولع العرب والمسلمين بالعطر، وانشغالهم التاريخي بالتجارة جعل منهم سادة هذا النوع من الاتجار، فصدروا ما استوردوه متباهين بما صنعوه من تركيبات عطرية أخاذة. فُفتحت لهم أبواب أسواق السند والهند، بعدما جلبوا من الصين والهند ما صنعوا منه عطراً عربياً بامتياز.
مصنفات في العطر

لم يكن العطر في شعر العرب إهداءً وتغزلاً بحبيب يضوع فتيت المسك من فراشه، بل كان علماً صنفوا فيه الكتب، ووضعوا فيه المؤلفات. ذكر ابن النديم في فهرسه، في الكتب المؤلفة في العطور، كتابَ العطر الذي أُلِّف ليحيى بن خالد، وكتابَ العطر لإبراهيم ابن العباس، وكتابَ العطر للكندي، وكتابَ كيمياء العطر للكندي، وكتابَ العطر لحبيب العطار، وكتابَ العطر وأجناسه للمفضل بن سلمة، وكتابَ العطر وأجناسه ومعادنه لرجل جبلي لم يذكر اسمه.

(الفهرست لابن النديم، ص385، دار المعرفة، بيروت، لبنان،
ط1، 1415هـ-1994م)
العطر ذكرى

العبق لا يبقى في ذاكرة الرسائل التي من ورق، لكنه يترك أثراً لا ينسى لأول وهلة عند فض الرسالة. لذا فإن الحبيبة في الزمن الجميل كانت تُعطر رسائلها إلى الحبيب بعطرها، كي تضوع رسائلها برومانسية الورد. فكم من الحروف التي سال حبرها من قطرات العطر، فاحتار الحبيب: هل هذه دموع الحبيبة أم ماء الورد؟! فهل كانت مي زيادة تعطر رسائلها لجبران؟ وهل كانت غادة السمان تعطر رسائلها لغسان، مثلما تفعل الحبيبات قديماً؟!

العطر شؤم

ربما لا يخطر على بال أحد أن العطر زكي الرائحة كان نذير شؤم! هكذا كان الحال في الجاهلية عند بعض قبائلها. فيقال: «أشأم من عطر منشم». ومنشم حسب رواية الأصمعي امرأة تسكن مكة وتمتهن العطارة، حيث تبيع العطر والحنوط. وكان القوم إذ أرادوا دخول معركة غمسوا أيديهم في عطرها، فيقال إنهم دقوا عطر منشم استعداداً لحرب ضروس. وكانت قبيلتا خزاعة وجرهم إذا أرادتا الاقتتال تطيبتا بعطرها فكثر الضرب والقتل. قال زهير بن أبي سلمى في ذلك:
تــداركتــما عبــساً وذبيـــان بعـــدما
تفــانوا ودقوا بينهم عطـر مــنشم

الطيب..
وصية النبي للأمة

تؤكد جميع الأحاديث التي صحَّت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه أريد للأمة الإسلامية أن تكون أمة عطرة، زكية الرائحة، ولاسيما في تلك المناسبات التي تلتقي فيها جماعة المسلمين، حرصاً على أن يكون هذا اللقاء لقاءً محبباً إلى نفس كل فرد من أفراد الجماعة، وحتى يكون التعطر أبرز سمات هذه الجماعة، وأيضاً تعطر الزوجين وتزيُّن كل منهما للآخر، ما يضمن أجواءً من الإقبال والأريحية والسعادة، ومن ثم الاستقرار للأسرة التي هي قوام المجتمع المسلم. ولهذه الأسباب وغيرها، ولما للطيب والعطور بشكل عام من وقع طيب في النفس، فليس عجيباً أبداً أن نجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحتفي بالتطيب أيما احتفاء، بل يحرص على أن يبرز هذا التعلق منه- صلى الله عليه وسلم- بالطيب، بل يوصي أمته بالتطيب.

فهذا أنس بن مالك- رضي الله- عنه يقول: «ما شممت عنبراً قط، ولا مسكاً، ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله- صلى الله عليه وسلم-»، وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يحرص على أن يتطيب بأطيب ما يجد من الطيب. وهذه عائشة- رضي الله عنها- تقول: كنت أطيب النبي- صلى الله عليه وسلم- بأطيب ما يجد، حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته». رواه البخاري. وقالت، أيضاً- رضي الله عنها-: «كنت أطيب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لإحرامه حين يحرم ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت». رواه البخاري.

وبينما يصف أنس بن مالك النبي- صلى الله عليه وسلم- نجده يقول: «كَانَ رَبْعَةً مِنْ الْقَوْمِ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ، أَزْهَرَ اللَّوْنِ لَيْسَ بِأَبْيَضَ أَمْهَقَ وَلَا آدَمَ، لَيْسَ بِجَعْدٍ قَطَطٍ وَلَا سَبْطٍ رَجِلٍ، أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِين، فَلَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَقُبِضَ وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعَرَةً بَيْضَاءَ قَالَ رَبِيعَةُ فَرَأَيْتُ شَعَراً مِنْ شَعَرِهِ فَإِذَا هُوَ أَحْمَرُ، فَسَأَلْتُ فَقِيلَ احْمَرَّ مِنْ الطِّيبِ». رواه البخاري.

أما حث النبي- صلى الله عليه وسلم- أمته على التطيب فنراه في حديث أنس- رضي الله عنه- قَال: «قَال رَسُولُ اللَّه-ِ صلى الله عليه وسلم-: حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» رواه النسائي.

ويؤكده، أيضاً، في حديث عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ الْأَنْصَارِيُّ يقول أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّه-ِ صلى الله عليه وسلم- قَالَ: الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ وَأَنْ يَسْتَنَّ وَأَنْ يَمَسَّ طِيباً إِنْ وَجَدَ. قَالَ عَمْرو أَمَّا الْغُسْلُ فَأَشْهَدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَأَمَّا الِاسْتِنَانُ وَالطِّيبُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَوَاجِبٌ هُوَ أَمْ لَا وَلَكِنْ هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ». رواه البخاري.

الطائف
واحة الورد الجوري المعلقة فوق جبال السروات.

تلتقي بالطائف المأنوس، كما يحلو لأهله أن يطلقوا عليه، معطيات عدة تجعل منها عروس المصائف السعودية بلا منازع. أرض خصبة, وبتلات ورد جوري تنقاد في طواعية قرباناً لمعامل التقطير في المصانع الصغيرة المنتشرة بمرتفعات الهدا والشفا، بهدف الحصول على رحيقها النادر. يؤكد المزارعون أن الورد الجوري بالطائف لا مثيل له في العالم، فهو أقوى رائحة وعطراً من الورود المشابهة له في غير أرضه. ويعود السر في ذلك إلى التربة التي تُسقى عادة بماء المطر وندى الضباب. يبيع المزارعون كل ألف وردة بخمسين ريالاً سعودياً تقريباً (نحو 13 دولارًا)، مع العلم بأن كل شجرة في موسم الحصاد، الذي يستمر عادة شهر ونصف الشهر، تنتج قرابة 250 وردة يومياً.

يمر إنتاج عطور ورد الطائف بمرحلة طويلة وشاقة في معامل الإنتاج البلدي، إذ توضع 20 ألف حبة ورد في قدر كبير، ويضاف إليها 50 لتراً من الماء، إضافة إلى 30 لتراً من ماء ورد العروس، ثم يحكم الغطاء ويترك ليغلي لفترة تراوح بين ست وسبع ساعات. بعد ذلك يستخلص منه تولة واحدة تعادل عشرة جرامات من الورد الطائفي.

ويقدر حجم العائد السنوي لسوق ورد الطائف من 30 مليون إلى 35 مليون ريال، منها عشرة ملايين قيمة عشرة آلاف تولة، و25 مليون ريال قيمة عشرين قارورة ماء ورد.

وقد كتب الكثير من الشعر في الطائف وطبيعتها الخلاّبة، خصوصاً مع ارتباط اسمها بالورد والعطر والأريج الفواح إلى خارج حدود أراضيها، وكأن قنينة ورد صغيرة تنقل مدينة الطائف بأكملها إلى حيث حلت الأقدام وسكنت الأرواح. من ذلك ما قال الشاعر حسين عرب:
كم لهونا بين أسراب الطيور
وتملينا بألوان السرور
وشدونا لا نرى من حولنا
غير جنات بها الحسن يمور
حبذا العيش بأكناف المصيف
بين نفح الورد والجو اللطيف
ملعب للحسن يجلوه الهوى
وظلال الدوح والغصن الوريف

ياسمين دمشق ونزار قباني
الياسمينُ الدمشقيّْ
لهُ أظافرُ بيضاءْ..
تثقبُ جدرانَ الذاكرَةْ…
على قدر رقة الياسمين.. على قدر قوته! ينشب رائحته الساحرة في أعماق الوجود الوجداني بالقلب، وفي الذاكرة أيضاً. احتفى الشاعر نزار قباني كثيراً بالياسمين والورد الدمشقي. وله قصيدته المطولة «الوضوء بماء العشق والياسمين» التي تمتلئ حنيناً لكل ركن بالشام، وتعد واحدة من أبرز معالم شعر نزار، إذ ضم فيها معظم معالم التاريخ في دمشق، ما يبعث في القصيدة روائح وراء الحروف والسطور كأننا «نتنفسها » في المكان من حولنا:
جئتُكُمْ ..
من تاريخ الوردةِ الدمشقيّةْ
التي تختصرُ تاريخَ العطرْ ..
ومن ذاكرة المُتَنبِّي
التي تختصرُ تاريخَ الشِّعرْ ..
جئتكمْ..
والأَضاليا ..
والنَرْجِسِ الظريفْ
التي علَّمتني أول الرسمْْ ….
جئتكم..
من ضِحْكَة النساءِ الشاميَّاتْ
التي علَّمتني أول المُوسيقى …
وأول المراهقةْ ..
ومن مزاريبِ حَارَتِنا
التي علَّمَتْني أول البكاءْ
ومن سجادة صلاة أمي
التي علمتني
أول الطريق إلى الله ….

هذا التسجيل الحي للوردة الدمشقية في نفس نزار يؤكد الأثر العظيم الذي يتركه العطر الطبيعي في المكان، ما يوقع الزائر في حب الرائحة المرتبطة بالمكان إلى درجة تثير العديد من الذكريات لمجرد عبق في الأرجاء. وبما أن الياسمين الدمشقي يتميز برائحته العطرة النفاذة، ولونه الطاهر النقي، فإنه يشبه الحبيبة الصادقة، ينعش الفؤاد والروح..

شكراً.. لطوق الياسمين
وضحكت لي.. وظننت أنك تعرفين
معنى سوار الياسمين
يأتي به رجل إليك
ظننت أنك تدركين
وجلست في ركن ركين
تتسرحين
وتنقطين العطر من قارورة و تدمدمين
لحناً فرنسي الرنين
لحناً كأيامي حزين

الطيب والعطر في الشرق

المؤلفة: نادية الغزّي
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون
بالنظر إلى الوثاق الوطيد بين المرأة والعطر، فقد تكون خير من يمثل العطر تمثيلاً مجسداً في الواقع والخيال حين تمشي وتنفعل وتتزين لمن تحب. لا تخلو منضدة امرأة من قنينة عطر تنشر سمة خاصة لشخصيتها وحضوراً بهياً من حولها دون أن تتفوه بكلمة. في هذا الإصدار تجمع الكاتبة نادية الغزي، من سوريا، أسرار الطيب والعطر من التراث العربي وتتغنى بعطر الشرق.

تقول المؤلفة: «فليتعطر أهل الدنيا بعطور الشرق… وليمزجوا عشرات الروائح العابقة في الكون… وليتطيب أهل الدنيا بالمِسك والعنبر والمُرّ والنّد والبان… فحكاية العطر لعلها بدأت… أو لم تبدأ بعد… وَرَشات الشذى المنتشرة في آسية… تتحدّث كل صباح عن الألوان والغزلان والزهر.. فهي لن تسكت قط… حين تهتز أغصان الصنوبر.. وتطلق الجبال آهات عطورها… ليبدأ الشعراء بالسرد… وتنطلق الربابات تتسابق مع كل ناي… لتغنِّي «مَيْجنا» الطيب والعطر في الشرق».
تتنوع موضوعات الكتاب لتشتمل على بعض ما ذكر عن الطيب والعطر في القرآن الكريم، والطيوب الحيوانية، والعطور النباتية، والأسواق الكبرى في الجاهلية، ومع العطر والطيب في الحضارات القديمة، والعطور والأدهان المستخرجة من النباتات، والزيوت العطرية.

«صانع العطر»

من أجمل اللوحات، وأكثر الصور المستنسخة مبيعاً. رسمها المستشرق النمساوي رودلف أرنست 1854-1932م. تسجل اللوحة مرحلة من مراحل صناعة العطر، في المغرب العربي، وهي استخلاص الزيت العطري من الورد الجوري، بعد قطف الورد من شجيراته والتي تتم، عادة، في فصلي الخريف والربيع. تحمل هذه اللوحة الرائعة اسم «صانع العطر»، وهو الشيخ الطاعن في السن الذي يجلس في الزاوية اليمنى من اللوحة، حتى إنه لا يكاد يُلحظ أمام جمال الورد المنثال على الأرض وروعة الآنية الفيروزية وسحر فتاتين بجمال الورد! إن هذه اللوحة رائعة بشخوصها الأربعة وبالورد وبالمكان الذي هو بيت عربي بكل تفاصيله الشرقية وأثاثه البسيط. يجلس صانع العطر منزوياً في الظل ليراقب أهم مرحلة من مراحل صناعة العطر، وهي استخلاص الزيت العطري من الورد المقطوف تواً، بطريقة التقطير التي كانت متبعة في ذلك الوقت، وتعتمد على الحرارة. إن مكمن الخطر في هذه المهمة هو ارتفاع درجة الحرارة عن الحد المعقول، أو زيادة الفترة الزمنية في تعرض الورد المغمور بالماء للمصدر الحراري. لذا فإن صانع العطر الذي لا يبدي حراكاً ويجلس منزوياً في الظل يقوم بأهم عمل على الإطلاق في صناعة العطر. إنه المراقب الحذر الذي يراقب تلك الفتاة الجميلة خوفاً من أن تُدمر محصول الورد بجهل أو غفلة أو تناسٍ.
أنف «الأنف»
العقل الذي لا ينام والأنف القادر على تمييز آلاف من مكونات العطور.

تخيل لو أن شخصاً يناديك «أيها الأنف»!
في غراس الفرنسية لا تعد مناداتك بالأنف شتيمة، بل هي بمنزلة أن يقول لك قائل: أيها الأستاذ. إن تسمية الأنف في عالم صناعة العطور هو لقب يوازي لقب العطار الذي يمتلك من الحس الشمي ما يجعله قادراً على معرفة مكونات العطر، ونسب تركيز كل مكون على حدة. فالأنف قادر على فك سر التركيب، وتركيبة توليفة أخرى لا يستطيع فكها إلا نظيره في الإبداع والحس. كما يستطيع معرفة الخلل في العطر، أو الخلل في أحد المكونات. لذا كان الأنف ينتقي مكونات عطوره بدقة الكيميائي الحصيف، وحس المتذوق العارف بنفس الزبون.

إن رأس مال «الأنف» هو أنفه الحقيقي الذي لا تمر أمامه الرائحة مروراً سريعاً، بل تتمهل إلى أن يقتنصها كاملة. هو دائم اليقظة لا ينام حتى وإن نام رأسه. كما أن الروائح في ذاكرته مختزنة في خلاياه العصبية، جاعلاً لكل جزء من مكون الرائحة نظيراً له من الطبيعة. فمثلاً ربما كانت رائحة الغابة في ذاكرته نظيراً من مزيج خشب الصندل والعنبر ووردة بحيرة بتركيزات مختلفة. إن أنف العطار أكبر محلل يعرفه الناس. يمتلك من الدقة والحس والتحليل المنطقي للرائحة ما يجعله قادراً على صناعة عطر خلاب.

كثيرة هي الأنوف في عالم صناعة العطور اليوم، لكن الموهوبين منهم لا يتجاوز عددهم خمسين أنفاً في العالم. لذا كان استخدام هذه الأنوف من قبل شركات العطور مكلفاً للغاية. فالأنف هو الذي يفكر في تصميم روائح لأشخاص بعينهم. والأنف هو الذي يفكر في رائحة يتم تسويقها على المستوى العام. والأنف هو الذي يفكر في مزيج ملكي يتحدى به أنوف أخرى في شركات منافسة على فك سر تركيبه. و«الأنف» يؤمّن على أنفه، ويتجنب مسببات الزكام، وكل ما يضر بالشم. فالأنف له مهمة محددة في الحياة، وهي استنشاق ما في الطبيعة من روائح زكية لتعبئتها في قوارير لتدوم أطول وقت ممكن.

من مشاهير الأنوف في العالم جان كارلوس 1892- 1966م الذي يُعدُّّ أسطورة في عالم العطور. فقد أنتج خلال مسيرته المهنية عطوراً ظلت في الذاكرة مثل عطر مس ديور، كما كان معلماً لعدد من الأنوف أمثال جاك بولغ ومونيك شلنجر. ومن المشاهير، أيضاً، الأنف الشهير هنري آلمرز 1892- 1965م الذي صمَّم عطر جان باتو. أما الأنف إرنست دالتروف 1867-1941م فقد هاجر من روسيا إلى فرنسا ليؤسس أهم بيت للعطور الفرنسية، وهو بيت كرون الشهير بعطوراته الثمينة.

إن هذه الأنوف الشهيرة القادرة على تمييز 4.000 مكون من الرائحة إلى 10.000 مكون، لم تنتج خلال مسيرتها المهنية إلا عطورات لا تتجاوز أصابع اليدين. ورغم ذلك كان لها من الشهرة ما يؤهلها أن تكون أنوفاً تدخل التاريخ والذاكرة.

العطار الذي أصلح
ما أفسده الحظ
عطر شانيل 5 حكاية أحجية ساقها القدر، وفك أسرارها الحظ، وأنف العطار أرنست بيكس. إنه عطر من وحي البحيرات وشمس الليل! هكذا عبّر عنه بيكس العطار الفرنسي الذي قام بتركيبته. فهذا العطر الأخاذ يُعدُّ أول عطر صناعي في العالم مُصنع من مركبات وسطية بين الكحول والأحماض العضوية تسمى الألدهيدات. ولد أرنست بيكس في موسكو عام 1881م إبان القيصرية الروسية لإدوارد بيكس الذي كان قيِّماً على أهم مصنع للعطور والصابون في روسيا. بعد أن أنهى أرنست دراسته الثانوية انضم تحت إمرة والده مساعداً في مختبر الصابون. لكنه لم يستمر طويلاً إذ غادر إلى فرنسا ليقضي خدمته العسكرية كمواطن فرنسي. بعد عامين عاد إلى موسكو، وكله شغف بمهنة العطارة. فدرس الكيمياء ما فتح له آفاقاً واتجاهات جديدة في صناعة العطور. وتحولت مهنته من فني في مختبر الصابون إلى مسؤول عن مختبر العطور. كان أول نجاح له عام 1912م مع عطر قام بتركيبه احتفالاً بالذكرى المئوية لمعركة بورودينو التي دارت رحاها بين نابليون والجيش الإمبراطوري الروسي. بعدها بعام أنتج عطراً آخر احتفالاً بالذكرى المئوية الثالثة لسلالة رومانوف الروسية. لقد كانت مناسبات عطور أرنست مغرقة في الاحتفالية الأرستقراطية، فهو كابن عائلة موسرة تمتهن العطارة، ومصدر قوتها من كماليات العائلات المترفة، لم يكن للفقراء أو الأيتام فسحة في خططه العطرية. لكن الحروب التي تضع أوزارها بين حين وآخر جعلت بيكس يتنقل كمقاتل في جيش أصبح عدوّاً لروسيا. ما جعل بيكس يغادرها نهائياً مع أصدقائه ومختبره العزيز إلى قلبه.

عندما تتحول جميع الحواس إلى أنف يقظ، فهذه هبة ربانية جديرة بالشكر والمران، والاستفادة من يقظتها. هكذا كان أنف أرنست بيكس الذي جاءته فرصة العمر لعرض تركيبات عطوره أمام الآنسة غابرييل شانيل في كان الفرنسية عام 1920م. فقد كان في أشد الحاجة لانطلاقة جديدة بعدما ودع الموسرين، إلى الأبد، في روسيا. فكانت انطلاقته الفرنسية جديدة على جميع الأصعدة، فشملت التركيب والزبون. لم يكن الزبون هذه المرة شركات عطور، بل كانت مصممة أزياء تطلب ببساطة عطراً يتماهى مع المرأة لا أن يكون أقوى منها، ويبقى ليلة كاملة خلافاً للعطور الأخرى. كان في تركيبات العطار أرنست بيكس ما تطلبه شانيل من الثبات والانسجام. فعرض مجموعته الأولى التي كانت مرقمة من العدد واحد إلى العدد خمسة. وبعد أن مر أنف الآنسة شانيل على العطور اختارت الرقم خمسة. وعندما سألها بيكس ما هو الاسم الذي ستختاره لهذا العطر، ابتسمت وقالت ببساطة: الرقم خمسة. لم يكن خمسة إلاّ دلالة على التركيب الكيميائي الذي ينتهجه بيكس في تسمية عطوراته كي لا يلتبس الأمر، ولم يكن اسماً مطلقاً.. لذا كان استغرابه يحتاج إلى تبرير من سيدة الموضة في القرن العشرين التي قالت: كنت الطفلة الخامسة في ملجأ الأيتام. وأرى أنه رقم حظي، لذا أصدر مجموعة أزيائي في اليوم الخامس من الشهر الخامس.

لم يكن بيكس ولا الآنسة شانيل يعلمان أن هذا العطر المكون من ياسمين غراس، وخشب الصندل، والفانيلا، وزهر البرتقال، والإيلنغ، سيكون من أهم عطور القرن العشرين وأشهرها، فهو كما قيل عنه «لو كنت في ازدحام شديد وشممت روائح عديدة فبإمكانك أن تميز من بينها العطر رقم 5». هو عطر لا يلتبس فيه أحد، ولا يحتار فيه أنف. هو هدية رائعة تُصلح ما أفسدته الظروف مع الأحبة، كما أصلح العطار ما أفسده الحظ مع شانيل.

أسرار العطر
تركيبات وتوليفات وشركات قابضة.

من أين جاءت هذه الرائحة؟
أ من زهرة ياسمين أم فل، أو من عشبة غار ورائحة طل؟ رائحة دغدغت الحواس وأبهرت الأنفاس، وجعلت لحاسة الشم أجنحة لتحلق وراء الرذاذ.. من أين جاءت؟ تارةً، هي رائحة حديقة ياسمين شامي وأنت لا تزال في بيتك الذي تحيط به قساوة الطقس، ووعورة التضاريس. وتارة، هي رائحة غابة ساحرة تتزاحم فيها أشجار معمرة وأنت لا تزال في مكتبك الرمادي! روائح مختلفة تبهج النفس وتبعدك عن محيطك لتسافر بك إلى حيث الطبيعة. فمن هو الفاعل؟ من الذي يقوم بفعل نقلك من مكان إلى آخر في لحظة لا تستغرق سوى ثانية من عمر الزمن؟! من أين جاءت الحديقة؟! ومن أين جاءت الغابة؟! من يستطيع أن يقوم بهذا الفعل الفيزيائي؟!هل هي الكيمياء التي تنافس الفيزياء كعلم فتخترق الضوء والزمن بتركيبة كيميائية تسمى عطراً؟! وكيف للرائحة المنتشرة في الأجواء أن تحبس في زجاجة كأنها مارد المصباح؟!

عندما ينتشر رذاذ العطر تغلق عينيك لوهلة.. تستنشقه بملء إرادتك.. تختزنه ذاكرتك. بعدما اختزنته الشركات المُصنعة في قنينة زجاجية. فالمارد الذي في الزجاجة قد شغل العطارين والشركات، ليصنعوا مارداً يلبي ذوق الناس.

حين تذوب الزيوت العطرية في الكحول يفوح عبيرها، ولكي يبقى العبير أطول فترة ممكنة يحتاج إلى مسك أو صندل يقوم بتثبيت رائحته. إن هذه التوليفة البسيطة والسهلة الممتنعة هي السر الكيميائي بين الذوبان والثبات، ولأن ذوبان الزيت العطري هو بمنزلة تفتح الوردة كانت مذيباتها الكحولية عديدة، وأكثرها استخداماً هو الإيثانول، وأجودها الإيزوبوبيل الذي يحتاج تعتيقه إلى مدة 7 أشهر، وهو الذي تستخدمه أكبر الشركات المصنعة للعطور، ليكون تفتح الوردة سلساً ومتناغماً كأنه سلم موسيقي، إذ لا مكان لمفاجآت الرائحة. في هذا العصر يستثمر كثير من الناس في النكهة والرائحة، وتتنافس الشركات في الاستحواذ على صناعة العطور لكتلة السوق، والتي تم توليفها من قِبَل عطارين لدور أزياء شهيرة، أو عطارين كيمائيين ينتمون لهذه الشركات التي حُصر عددها في خمس شركات فقط، تسيطر على صناعة العطور والنكهات في العالم هي: شركتان سويسريتان، وشركة أمريكية مقرها نيويورك، وشركة ألمانية، وأخرى متعددة الجنسيات بين ماليزيا وهونج كونج. وتملك معظم هذه الشركات استثمارات في التعليم والبحث والتطوير، ولقد حصل اثنان من كيمائيي إحدى هذه الشركات المسيطرة على جائزة نوبل في الكيمياء. إن الكيمياء سحر وسر، لذا كان لكل جسم كيمائيته الخاصة التي لا تتوافق بالضرورة مع الآخر. فربما كان عطر رائع يليق بشخص فيتفاعل معه مفتقاً عبقه، بينما لا يتفاعل مع جسم الآخر ويبقى بلا عبق يضوع. فالعطور المنتجة لم تَعد في العصر الحديث تخضع للذوق فقط، بل تخضع لمدى التفاعلات الجسمية معه. لذا كانت العطورات بتوليفات مختلفة، كما جاءت العطور مصنفة كعطر للمرأة يضم رائحة الورد والياسمين، وعطر للرجل بنكهة الخشب والتوابل، وعطر مركز وآخر مخفف بالماء والكحول، خاضعة، بذلك، للذوق وبصمة الجسد وسعر المنتج.

متحف العطور في برشلونة
نزهة في الرائحة والتاريخ

وراء كل زجاجة عطر قصة تستحق أن تروى. ووراء كل عبق حاسة شم تستحق أن يُشاد بها. ووراء كل إبداع عطري تاريخ يبقى. في برشلونة، وتحديداً في منطقة باسيودي جراسيا التي تُعدُّ من أهم المناطق لما قام عليها من مبانٍ هندسية معمارية فنية، يوجد أكثر المتاحف إثارة لحاسة الشم في مبنى يعبق برائحة التاريخ ويحفظ حكايات العطور الثمينة، وقصص صناعتها، وتركيباتها التي تطورت عبر الزمن.

يُعدُّ متحف العطور من أهم المعالم السياحية في مدينة برشلونة في إسبانيا. تأسس عام 1963م، ليحفظ أهم المعلومات التاريخية والكيميائية العطرية. كما يهدف المتحف إلى استقطاب محبي الفن والباحثين الأنثروبولوجيين عن ثقافات الشعوب من خلال عطورها. ينقسم المتحف إلى قسمين منفصلين: الأول يحتوي على جرار العطر التي استخدمت لحفظ العطر في الحضارات القديمة مثل: الحضارة الفرعونية، واليونانية، والرومانية، والعربية. كما يحتوي على عرض بعض الكتب العربية التي تطرَّقت لصناعة العطور مثل كتب الكندي وابن سينا، وبعض المنمنمات والأدوات المستخدمة في صناعة العطور حسب تسلسل زمني، بالإضافة إلى عرض لتاريخ فن صناعة العطور في أوروبا الغربية، والتي بدأت عام 1221م على يد الرهبان لأغراض دينية. أما القسم الآخر فيمثل العصر الحديث، ويحتوي على زجاجات عطرية من العلامات التجارية المختلفة، ومعلومات مهمة حول هذه العطور وعطاريها، والإعلانات التجارية التي ظهرت فيها، وأهم الشركات المصنعة للعطور، والأزهار، والتوابل التي تشكل المادة الرئيسة للعطور. يضم المتحف 5000 عبق لرائحة عطرية، لا يستطيع الزائر شمها مرة واحدة، بالإضافة إلى العطور الطبيعية من القرن السابع عشر حتى التاسع عشر. كما يضم المتحف معرضاً لجميع العطور الصناعية الحديثة. إنه روض من العطر والحكايات الموغلة في جرار العطر وزجاجاته.

زجاجات تحمل عبق التاريخ
يحتوي المتحف في القسم الآخر على قطع فنية نادرة مثل قوارير العطور المُصنعة من الكريستال أو الزجاج الثمين، وتعود لزمن مضى. ومع كل قارورة توجد قصة تبدأ من فكرة تصميمها إلى تصنيعها، مثل قوارير عطورات كريستيان ديور لعطري مس ديور وديوراما، وهما من أهم عطور الدار وأعرقها. ولقد أنتجتها دار كريستيان ديور عام 1949م. جاءت نسخ هذين العطرين في تعبئة محددة الإصدار في الأربعينيات الميلادية في زجاجات كريستالية ذات ألوان مختلفة ومطلية بالذهب من تصنيع باكارا الشهيرة بتصنيع الكريستال الثمين. كما احتوى المتحف على نماذج لزجاجات نادرة، تكاد تكون فريدة لا توأم لها في العالم، مثل مجموعة فانتي، وهي زجاجات عطر صغيرة مصممة كتحفة فنية داخل بيضة نعام تعود إلى القرن التاسع عشر، وكانت من مقتنيات العائلة المالكة في بريطانيا العظمى. ولعل أكثر القوارير فنية هي قارورة عطر «ملك الشمس»، التي صممها الفنان سلفادور دالي عام 1945م، والتي تمثل رمزياً ملك فرنسا لويس الرابع عشر. وكان عطرها احتفالاً بنهاية الحرب العالمية الثانية. وقد صنعت من الكريستال الذي يمثل الأمواج وحددت باللون الأزرق والتذهيب. أما سداداتها فكأنها وجه للشمس، ولقد حُفر أسفل القارورة اسم الشركة المصنعة لها وهي باكارا.

جغرافية العطر
كما للعطر تاريخ فإن متحف برشلونة يحدد جغرافية مميزة للثقافة العطرية في العالم، حيث يحتل العرب والفراعنة المصريون مساحة كبيرة منه تشمل تفاصيل العطور وكيفية استخدامها في طقوسهم الدينية، ومدى أهميتها عندهم، وأثرها في حياة النساء. ولقد كشف المتحف بعض الحقائق التاريخية حول الحضارات القديمة، وذلك بعقد مقارنات بين عطور الشعوب وآنيتهم، ومدى تأثر بعضهم ببعض، وتأثير الحضارة الأقوى فيهم.

إن متحف العطور في برشلونة يمنح الزائر متعة مختلفة، حيث تجعله يعيد النظر إلى التاريخ والجغرافيا من خلال الرائحة، كما يعيد النظر في عدد قوارير العطور التي يتخلص منها حال انتهائه من العطر. إنه يمنح لهواة جمع القوارير الفارغة أفقاً أعلى للبحث عن قصص قواريرهم.. فلكل قارورة قصة وثروة من المعلومات.. ولكل عطر تركيبة ومناسبة.. ولكل أنف ذائقة خاصة.

رواية «العطر»
للروائي باتريك زوسكيند

ربما كانت الرواية الشهيرة «العطر» تجنح بالقارئ إلى ما وراء المتخيّل والممكن والمعقول، لكنها تفتح آفاقاً من الدهشة والإعجاب بالشخصية الرئيسة «غرنوي»، الذي يملك حاسة شم حادة تفوق القدرات البشرية في إدراك النطاقات المتسعة للرائحة وتمييز العبق الخاص بمادة دون أخرى، وبكائن عن آخر! اختار الروائي الألماني باتريك زوسكيند باريس عاصمة عطرية تحتوي موهبة غرنوي الخارقة، والتي دعمها لاحقاً أحد العطّارين البارعين في رعاية موهبته الخاصة بتدريبه على اكتساب الفن القديم على خلط الزيوت الثمينة والأعشاب. لم تكتف عبقرية غرنوي بصناعة الروائح العادية، بل كانت تجذبه رائحة الفتيات في عمرهن الغض حتى كأنها «معرِّفٌ» أو هوية يستدل بها على كل فتاة على حدة. حتى صار شغفه تتبع مصدر الأريج الهائم. من يتتبع الأحداث بعين قارئ ترى أبعاداً فيما وراء المعاني، فستظهر له فلسفة مثيرة لم يسبق لها نظير، ألا وهي أن للرائحة مدارات وأفلاكاً كتلك التي تحيط بنا في الفضاءات! وأن لعبق الأجساد بصمات في العقل والفؤاد إذا تركت أثرها في بقعة هناك، دشنت مركزاً في الذاكرة يستثار كل مرة عند انبعاث الرائحة نفسها ولو بعد حين. تؤسس رواية العطر فكرة مهمة في المجمل هي أن العطر الثمين لا يمكن صناعته بمواد كيميائية فحسب، بل إن العبير الذي يسكن الذاكرة جدير بكل أنواع العناء.

العطر هدية
منذ زمن بعيد والعطور تُقدم هدايا نفيسة للملوك والخلفاء. ويتبادلها المسلمون في المناسبات، ويروى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه لا يرد الطيب. فالعطر هدية تليق بجميع المناسبات، وتناسب جميع الأذواق، لأن كل عطر يكفل التنوع في مكوناته، وسيرضي، حتماً، جميع الأذواق، لذا تتنافس دور العطور في جميع المناسبات لتطلق عطوراً بقنينات محدودة الإصدار تعبيراً عن مناسبة ما. مداعبة بذلك رغبة المهدي في الشراء، ومراهنة على إعجاب المُهدى إليه. لقد كان عطر شانيل 5 في بداية إصداره هدية تمنحها كوكو شانيل لعملاء دار أزيائها المميزين، لكن هذه الهدية الجميلة أصبحت مرغوبة، فتحولت من هدية مجانية إلى سلعة للبيع، وربما، تشترى لتهدى أيضاً. ولعل مصطفى صادق الرافعي آمن بأن هدية العطر هي مرسول الأحبة، إذ ضمَّن في كتابه «أوراق الورد» خاطرته التي أرفقها مع زجاجة عطر ثمين هدية إلى محبوبته، قائلاً:

«يا زجاجة العطر: اذهبي إليها وتعطري بمس يديها وكوني رسالة قلبي لديها.. وهأنذا أنثر القبلات على جوانبك، فمتى لمستك فضعي قبلتي على بنانها، وألقيها خفية ظاهرة في مثل حنو نظرتها وحنانها، والمسيها من تلك القبلات معاني أفراحها في قلبي ومعاني أشجانها. وهأنذا أصافحك، فمتى أخذتك في يدها فكوني لمسة الأشواق.. وهأنذا أضمك إلى قلبي، فمتى فتحتك فانثري عليها في معاني العطر لمسات العناق. إنها الحبيبة يا زجاجة العطر، وما أنت كسواك من كل زجاجة ملأت سائلاً، ولا هي كسواها من كل امرأة ملأت حسناً، وكما افتتنت الصناعة في إبداعك واستخراجك افتتنت الحياة في جمالها وفتنتها، حتى لأحسب أسرار الحياة في غيرها من النساء تعمل بطبيعة وقانون، وفيها وحدها تعمل بفن وظرف، وأنت سبيكة عطر، كل موضع منك يأرج ويتوهج، وهي سبيكة جمال، كل موضع فيها يستبي ويتصبى، وما ظهرت معانيك إلا أفعمت الهواء من حولك بالشذا، ولا ظهرت معانيها إلا أفعمت القلوب من حولها بالحب».
العطر..
سلاح
يُعدُّ العطر سلاحـاً في يد المرأة ضد الرجــل. فكــم امـرأة من النساء، تفرق ذكرهن في كتب التـــاريـــخ، استطعـــــن التحـكـــم والسيطرة بقوة العطر. أولهن كانت الملكة الفرعونية حتشبسوت التي حكمت مصر عام 1479م قبل الميلاد. وعَدَّها علماء الآثار أول امرأة استخدمت العطر بعدما كان حكراً على الموتى. ولقد اشتهرت حتشبسوت بقوة شخصيتها ووعيها في إدارة مملكتها. أما الملكة كليوباترا والتي حكمت مصر عام 51 قبل الميلاد فقد كانت أكثر شغفاً للعطر، إذ كانت تسحر الملوك برائحة عطرها الذي لم يكن إلا من أعشاب تنمو على سفح جبل قبرصي. وحسبما قالت عالمة الآثار الإيطالية التي اكتشفت هذا الأثر أن رائحته قوية جداً وتشبه رائحة عطر بينو سيلفستر الذي أنتج عام 1955م. ولعل عشيقة الملك لويس الخامس عشر مدام دي بومبادور كانت من أكثر النساء حباً للعطر، إذ كانت تنفق مبالغ طائلة على العطور، وذلك لكي تأسر قلب الملك الذي خضع لها، وجعلها تسهم في إدارة بلاطه ومملكته.
في السينما..
أفلام من وحي
عطر المرأة

للصور ثلاثة أبعاد، وللرائحة بُعْد لا يُشم من خلف شاشات السينما والشاشة الفضية. لكنَّ للعطور قصصاً سينمائية تكاد تكون ضرباً من الخيال. فكيف لعطر امرأة ورائحتها أن يحول الأعمى لراقص تانجو بارع، ويحول اليافع لقاتل محترف؟! إنه الشغف برائحة المرأة العطرة.

لقد استحوذ فلم «عطر امرأة» (Scent of a Woman)الذي أنتج عام 1992م، من بطولة الفنان المبدع آل باتشينو، والذي كان يقوم في الفلم بدور عقيد متقاعد في الجيش أصيب بعاهة العمى، على إعجاب المشاهدين، وحصد عدة جوائز، أهمها ثلاث جوائز أوسكار. كان نصيب آل باتشينو منها جائزة أفضل ممثل، وذلك لأدائه المتميز في عدة مشاهد. ولعل أقوى تلك المشاهد ذلك المشهد الراقص الذي شاركته في أدائه الممثلة غابرييل أنور التي تقوم بدور امرأة شابة جميلة تدعى دونا. إن رائحة المرأة في الحفل الراقص هي التي جذبت الأعمى، وجعلت منه شخصاً يبصر بالأنف وتدله الرائحة، ما جعله يقوم بأداء راقص رائع محققاً بذلك إحدى أمانيه الأخيرة، قبل أن ينفذ خطته بالانتحار، وهي الرقص مع امرأة جميلة. ولكن كيف للأعمى أن يعرف المرأة الجميلة؟! من المفارقة الغريبة في الفلم الذي يحمل عنوان «عطر امرأة»، أنه لا توجد امرأة على ملصق الفلم. فقط يوجد آل باتشينو وكريس أودوينل الشاب الذي يعمل مرافقاً للأعمى. وكأن المرأة رائحة فقط!

أما فلم «العطر» المأخوذ عن رواية «العطر»، والذي أنتج 2006م، وتأخذ العطور فيه دور البطولة، فكان كل من يشاهده يتمنى أن تنبعث مع المشاهد تلك الرائحة الحية التي جعلت من بطل الفلم غرنوي قاتلاً، ليستأثر وحده برائحة المرأة التي كانت تقشر البرقوق. فامتزجت رائحتها الأنثوية مع رائحة البرقوق الذي اختزنهما في ذاكرته الشمية ويصنع منه عطراً لا يقاوم. كان الفلم مليئاً بالخيال والإثارة وبالحقائق التي لا يصدقها العقل وتتمحور حول العطر وتركيباته، وحول الجميلات اللاتي كان يقتلهن العطار ليصنع من رحيقهن رائحة لا تقاوم. إن باتريك زوسكيند مؤلف هذه الرواية يوحي من طرف خفي إلى أن العطر، في الأصل، هو رحيق امرأة في الطبيعة.
سوق العطارين..
ألف زهرة وألف عشبة
سوق العطارين من أوائل الأسواق المتخصصة في الوطن العربي، ولقد بدأ انتشارها منذ العصر العباسي حيث كانت توجد في بغداد أسواق عديدة أشهرها «سوق العطر» الذي يلي باب الغربة من دار الخلافة. بعدها توالى انتشار أسواق العطارين في مختلف بقاع العالم العربي، ولعل أقدمها وأشهرها سوق العطارين في القاهرة، وسوق الشورجة في بغداد، وأسواق العطارين في بلاد الشام مثل سوق بيروت، وسوق العطارين في البزورية في دمشق، وسوق العطارين في القدس. كذلك لم تخل بلاد المغرب العربي من أسواق العطارة، ولا باقي أنحاء الوطن العربي من دكاكينها المتفرقة، فهي كالصيدلية. والعطار مثل الصيدلاني الذي يبيع الدواء، وأحياناً أخرى، هو يشبه الطبيب النفسي الذي يبيع الأمل بالشفاء. تباع في دكان العطارة الأعشاب الطبية، والروائح العطرية، والمستحضرات والمساحيق، وذلك للعلاج والزينة، وسمي عطاراً نسبة إلى الأعشاب العطرية التي يبيعها أو يستحضر منها أدويته. لقد كانت لأسواق العطارة والعطارين مساحة في كتب التراث العربي، وقصصه. فالعطار من شخوص الحكايات الشعبية الذي تلجأ إليه النساء للبحث عن دواء ناجع، أو سم فاتك. والعطارون أصناف وأجناس، فمنهم النزيه ومنهم من يبيع الدجل والخرافات، لكنهم على الرغم من ذلك يعدون ضرورة في ذلك الزمن الخالي من التركيبات الكيميائية.

إن مهنة العطارة في العالم العربي مهنة يتوارثها الأبناء عن الآباء، فهي تجارة محاطة بالموهبة ومعرفة كل عشبة وكل زهرة وما يستخلص منهما، كما أن بضائع العطارين يستجلبونها من مختلف أقطار العالم، من البر والبحر، ومن أماكن موغلة في البعد وعناء الوصول إليها. فهم قد تشربوا مهنتهم إلى درجة أنهم أصبحوا ينادون بها، فنجد، مثلاً، في عالمنا العربي وفي مختلف بقاعه عائلات تسمى «العطار» وهو لقب منحتهم إياه مهنة العطارة.

إعلانات العطارين طرافة وفن
لعل من الطريف في سوق العطارين انتشار الإعلانات الشعبية، فعلى الرغم من أنه سوق محاط بأسرار الخلطات والمساحيق، إلا أنه مكان خصب لإطلاق الشائعات حول صناعة العجائب، التي تنتشر سريعاً بين العامة كانتشار رائحة العطر والأعشاب في سوق العطارين. ولعل لجوء العامة إلى العطار إزاء أي مشكلة صحية أو نفسية تواجهه جعل لهم مساحة في مضرب الأمثال كأن يقال: «لا يُصلح العطار ما أفسده الدهر». لكن عطاري بيروت في أوائل القرن التاسع عشر أطلقوا إعلاناً شعبياً ظريفاً بأن دكاكينهم تحتوي على أدوية لكل علة إلا «حبني غصباً». وكأنهم بهذا الإعلان يسوقون لبضاعتهم بنزاهة وصدق. حالهم حال عطاري منطقة نجد في الخمسينيات الميلادية الذين يقولون إن لديهم دواء لكل داء إلا «داء الموت».

العطارون هل هم صيادلة أم أطباء نفسيون؟ هل هم تجار عطر، أم بائعو وَهْمٍ؟ هل هي ثقافة مجتمع ستبقى رغماً عن المركبات الكيميائية؟ أم ستبقى حنيناً للزمن البعيد ورائحته؟

على الأغلب لم يبق للعطارين في هذا الزمن من العطر سوى اسمه، ولم يعد سوقهم إلا نافذة نشم من خلالها رائحة ذلك الزمن الجميل.
العطر.. علاج
تزخر الطبيعة بعدد من الزيوت العطرية التي تُستخرج من الأزهار والأعشاب مثل زيت الريحان، وزيت الورد، وزيت المرمية، وزيت زهرة البابونج وزيت خشب الأرز. وجميع هذه الزيوت العطرية تستخدم في الطب البديل وهو التداوي بالأعشاب والأزهار، وذلك بتدليك الجسم بوساطة العطور التي تعمل كالمنشطات الكيميائية وتمنحه الاسترخاء. وهذا النوع من العلاج يُعَدُّ علاجاً حديثاً يسمى العلاج بالعطور «الأروماثيرابي» وقد اكتشفه مصادفة عالم فرنسي يدعى رينيه جيتيفوسيه عندما احترقت يده ولم يجد أمامه إلا زيت الخزامى فغمس يده فيه. بعدها شعر بزوال الألم. ولعل العرب سبقوا هذا الاكتشاف، إذ أوردوا في كتبهم علاجات للأمراض بالعطر، فقد ذكر الزهراوي أن العنبر مقو للدماغ ونافع للشيوخ، ونافع لأوجاع المعدة، وإذا تبخر به فإنه يشفي من الصداع والشقيقة. أما عن ماء الورد فذكروا أنه من الأفضل استعماله في فصل الخريف فهو يقوي الدماغ، وشمه يسكن الصداع، ومضمضته تشد اللثة.

أضف تعليق

التعليقات