حياتنا اليوم

عقدة النعناع

عندما كنت طفلاً, كنت أسكن في منزل صغير في وسط مزرعة. كنت وقتها، أعتقد أن حدود العالم هي حدود تلك المزرعة. كان اللون الأخضر هو لوني المفضل, ليس لأنه اللون الذي يستهويني, ولكن لأنه اللون الذي كان يغلف عالمي. كبرت وخرجت من المزرعة, وأدركت أن هناك ألوانًا أخرى غير الأخضر، وأناسًا آخرين غير إخوتي. انتقلت نقلة أكبر عندما سافرت إلى أمريكا للدراسة. كنت خائفًا من تلك التجربة، كنت أسأل نفسي وأنا في الطائرة: كيف سيتقبلني الناس هناك؟ هل سيحبونني؟ هل سأجد صديقًا مثل بندر صديق طفولتي؟
وصلت مدينة لوس أنجلوس وتلك الأسئلة لا تزال تدور في رأسي. عرفت أن أمامي حلاً من اثنين: إما أن أبحث عن الطلاب السعوديين والعرب في المدينة لأبقى في بيئة أشبه بالتي عشت فيها طوال حياتي، وإما أن أواجه المخاطرة وأحاول الدخول في المجتمع الأمريكي الذي لا أعرف عنه الكثير. كان في داخلي رفض للمخاطرة، فالمزارعون بطبيعتهم لا يحبون المخاطرة، فوالدي لا يزال يزرع النعناع منذ أكثر من خمسين عامًا, ولم يفكر يومًا في تجربة شيء جديد.

قررت هذه المرة أن أختار الطريق الأصعب وأخاطر, وكأن المزارع الذي في داخلي قد تخلص من عقدة النعناع. قررت أن أفتح قلبي للعالم الجديد وأتحدث مع كل من أقابله في سكن الجامعة, بغض النظر عن لونه أو شكله أو جنسه أو دينه، قررت أن أبتسم لكل الوجوه حتى الوجوه التي لا تعرف الابتسام.

توجهْت لغرفتي في سكن الجامعة بعد أن علمت أن طالباً يدعى ميتش هو من سيشاركني الغرفة. انتابني القلق عندما عرفت أنه يدرس الموسيقا، فقد كنت جاهلاً بالموسيقا أكثر من جهل جمل بتضاريس القطب الشمالي، ولكني قررت أن أتشجع وأدخل الغرفة وأنا أهز رأسي طرباً بغض النظر عن المقطوعة الموسيقية التي يدندن بها ميتش. لحسن الحظ لم يكن ميتش يعزف عندما دخلت الغرفة، ولكني كنت مصرًا على الاستمرار في هز رأسي. نظر لي ميتش نظرة سريعة خاطفة وقال: «مرحباً رفيق الغرفة».سارت الأمور بأحسن مما توقعت, وعشت مع ميتش في الغرفة نفسها طوال مرحلة اللغة، ساعدني ميتش كثيراً على تعلم نطق الكلمات الإنجليزية بشكل صحيح. في المقابل علمته كثيراً من جغرافية الشرق الأوسط وتاريخه. تطورت بيني وبينه صداقة قوية ما زالت مستمرة حتى اليوم.

عندما عدت إلى الرياض وجدت صديقي بندر ينتظرني بالمطار بابتسامته المعهودة. أحسست أن ميتش وبندر وجهان لشخص واحد، أو بالأصح وجهان لقلب واحد. أدركت وقتها أن الإنسان هو الإنسان، بغض النظر عن المكان، ولكن أحكامنا المسبقة على الآخرين هي التي ترسم شكل العلاقة التي سنعيشها معهم. صدقوني, لو استطعنا التخلص من أحكامنا المسبقة على الآخرين فسنجد أصدقاء جدداً في كل رحلة جديدة.

أضف تعليق

التعليقات